الانتخابات الليبية التائهة بين المبادرات الدولية والقلاقل الداخلية
يؤكّد ناشطون ليبيون أن الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت فاعلاً أساسياً في صناعة الأزمات داخل البلاد، لا يمكن لها أن تكون اليوم جزءاً من الحل، مهما زعمت العكس.
يتوق الشارع الليبي إلى عودة الاستقرار والأمن مرة أخرى، خاصة بعد مرور نحو 12 عاماً على تدخّل طيران حلف شمال الأطلسي، والذي كان إيذاناً بدخول البلاد نفقاً مظلماً، انتهى بها إلى انقسام السلطة بين أكثر من حكومة، وفقدان الجيش القدرة على فرض سيطرته على كامل أنحاء الدولة.
إضافة إلى ذلك، فقد تحوّلت ليبيا على مدار الأعوام الفائتة من دولة نفطية ثرية تستضيف العمالة العربية من مختلف الأقطار إلى دولة تعاني من الفوضى وتستبيح أراضيها المجموعات السلفية المتطرفة جنباً إلى جنب مع العصابات التي تسهّل هجرة الأفارقة غير القانونية نحو سواحل جنوب أوروبا.
في الأيام الأخيرة بدا أن خطوات مهمة قد تمّ قطعها باتجاه عقد اجتماع تحضيري لمؤتمر المصالحة الوطنية، والذي يفترض أن يجري في نهاية حزيران/يونيو المقبل، وذلك تحت إشراف الاتحاد الأفريقي والبعثة الأممية وبحضور أهم الأحزاب والشخصيات السياسية والقوى الاجتماعية المؤثّرة داخل ليبيا.
ويعقد الليبيون آمالاً واسعة على نتائج الاجتماعات التي تنعقد داخل البلاد وخارجها، في إطار نشاط رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، طامحين إلى وصول الفرقاء السياسيين إلى برنامج عمل في المرحلة المقبلة يُفضي إلى المصالحة الوطنية وإجلاء المرتزقة وتوحيد المؤسسة العسكرية وتنظيم الانتخابات.
ومن المعلوم أن الأمم المتحدة قد أسست بعثة خاصة لتمثيلها في ليبيا، وذلك في أيلول/سبتمبر 2011 بقرار من مجلس الأمن الدولي، ويقودها اليوم السنغالي عبد الله باتيلي، خلفاً للسلوفاكي يان كوبيش الذي تنحّى عن المنصب في أواخر 2021.
وينشط باتيلي، منذ خريف العام الماضي، في اتجاه وضع الإطار القانوني لاعتماد خريطة طريق تذهب بالبلد نحو انتخابات وطنية قبل نهاية العام الجاري 2023، وقد أعلن عن مبادرة في هذا السياق، تمتعت بدعم دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة، إلا أن المبادرة اصطدمت بمواقف عدد من الدول الإقليمية، إضافة إلى رفض بعض الأوساط الليبية لها باعتبارها تمس السيادة الوطنية، وتقفز على الحل الليبي-الليبي وتتجاوز صلاحيات المؤسسات التشريعية المنتخبة.
واشنطن تضغط باتجاه "مبادرات باتيلي"
تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً سياسية مؤخّراً في ليبيا، باتجاه دعم المبعوث الأممي، وذلك لدفع الأطراف المتصارعة إلى إنهاء الخصومة السياسية، وإعداد الخطط المتجاوبة مع المبادرات الأممية. حيث وجّهت الولايات المتحدة الأميركية مؤخّراً رسالة إلى القادة السياسيين الليبيين، اعتبرها مراقبون "تصعيداً في اللهجة"، طالبتهم فيها بالعمل على إعداد الإطار القانوني للانتخابات من دون تأخير.
وقد جاء ذلك على لسان المبعوث الأميركي الخاص لدى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، وفق ما نقلته سفارة بلاده عبر حسابها الرسمي بـ "تويتر". وقال نورلاند "نحن نؤيد تماماً دعوة الممثّل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة عبد الله باتيلي للجنة (6+6) للتوصّل إلى اتفاق بشأن إطار قانوني للانتخابات".
و"6+6" هي لجنة مشتركة من مجلس النواب الليبي ومجلس الدولة، وقد تمّ تشكيلها وفق التعديل الدستوري الـ 13 الذي أقرّه مجلس النواب مؤخّراً، وهي مكلّفة بمهمة وضع قوانين وتشريعات تجري وفقها الانتخابات. ويؤكد ناشطون ليبيون أن الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت فاعلاً أساسياً في صناعة الأزمات داخل البلاد، لا يمكن لها أن تكون اليوم جزءاً من الحل، مهما زعمت العكس.
ويملك الليبيون ذاكرة سيئة تجاه واشنطن، منذ الغارات الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي، مروراً بالدعم الأميركي للحصار الذي عانت ليبيا بسببه صعوبات جمّة طوال فترة التسعينيات بالأخص، وانتهاءً بتخريب المنشآت الرئيسية في البلاد بزعم دعم "المحتجين" في عام 2011.
الإطار المتوقّع للانتخابات
وبتتبّع نشاط باتيلي في الفترات الأخيرة، يتبيّن أن الدبلوماسي السنغالي يقوم بجهد ملحوظ بهدف التنسيق مع القوى الفاعلة في شرق ليبيا وغربها، حيث تعاني ليبيا منذ عدة سنوات، بسبب انقسام السلطة فيها بين حكومتين واحدة في طرابلس والأخرى حليفة لمجلس النواب المنعقد في طبرق.
وقد دعا باتيلي جميع قادة ليبيا إلى تقديم التنازلات الضرورية للوصول إلى تنظيم انتخابات شاملة في البلاد، حيث يُعوّل عليها لإنهاء الصراع المستمر في البلاد وتحقيق الاستقرار والعودة إلى النظام. وقد جاءت تلك الدعوة بالتزامن مع وصول وفد من الاتحاد الأفريقي إلى العاصمة طرابلس للبحث في إجراءات التحضير لمؤتمر المصالحة الوطنية الشاملة في ليبيا.
وكان المبعوث الأممي قد أعلن اتفاقه مع رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، على سرعة إعداد الإطار التشريعي للانتخابات، وقال إنهما استعرضا التطوّرات على الصعيد السياسي في ليبيا، مؤكداً ضرورة تسريع وتيرة العمل في إعداد الإطار التشريعي للانتخابات الشاملة. كما بحث مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي المنجزات الحاصلة للوصول إلى الانتخابات بعام 2023.
وقال باتيلي إنه مستمر في التواصل مع مختلف الجهات الفاعلة في ليبيا للمساعدة في إحراز تقدّم في العملية السياسية، مشدداً على أن "السيادة الوطنية هي مفتاح النجاح"، في إشارة واضحة إلى أن المجتمع الدولي لن يسحب من القوى الداخلية الليبية أحقيّتها في أن تكون صاحبة القرار الأخير عندما يتعلّق الأمر بالحل السياسي.
ومن الملاحظ خلال الفترة الأخيرة سعي السلطات الليبية بهدف إقناع عواصم إقليمية ودولية فاعلة في الشأن الليبي، بأنه من الضروري احترام الليبيين وحقّهم في إدارة المرحلة الحالية من دون أي إملاءات خارجية، وهو ما أكدته نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية خلال زيارتها إلى دول عديدة من بينها تونس والجزائر. كما أبلغه القائد العام للجيش الوطني خليفة حفتر لعدد من القادة الأوروبيين خلال زيارته الأخيرة إلى روما.
مبادرات الأمم المتحدة: شكوك ومعوّقات
ويواجه المبعوث الأممي العديد من المعوّقات منذ إعلانه مبادرته للحلّ في شباط/فبراير الماضي، كما تحاصره العديد من الاتهامات التي تشكّك في جدية الطروحات وإمكانية تنفيذها على الأرض، ويمكن إجمال هذه المعوّقات والشكوك في النقاط الآتية:
1-حالة الركود السياسي التي خيّمت على المشهد الليبي منذ عدة سنوات، وجعلت الكثير من الأطراف تميل إلى التكيّف مع الأوضاع السائدة، وغياب الدافع للتغيير.
2-الانقسام الحاصل في ليبيا، وخشية كل طرف أن يكون هذا النوع من المبادرات منحازاً للطرف الآخر، أو يعمل على تقليل مساحة حضوره في المشهد.
3-إيمان بعض مكوّنات المشهد الليبي حالياً بأحقيّتها برسم خريطة العمل المستقبلي داخل البلاد، بحكم أن لديها الشرعية الانتخابية منذ الانتخابات البرلمانية عام 2014.
4-شعور العديد من السياسيين الليبيين بالقلق من المبادرات الخارجية باعتبارها تجاوزاً للسيادة الوطنية، وتدخّلاً خارجياً يتجاوز المواطنين الليبيين أنفسهم.
5-التشكيك في نزاهة القائمين على المبادرات الأممية بسبب الالتفاف على المجالس التشريعية في البلاد والدعم الأميركي.
6-الإحساس بأن المبادرة قد رفعت سقف التوقّعات أكثر مما يجب، بادعاء إمكانية عقد الانتخابات قبل نهاية العام الجاري بالشكل الذي يجعلها غير قابلة للتطبيق عملياً.
7-المعوّقات والأوضاع الإقليمية شديدة التوتر والتي تؤثّر بالسلب على إمكانية الوصول إلى حلّ داخلي في ليبيا.
تأثير الأوضاع في السودان على الانتخابات الليبية
بعيداً عن المبادرات الأممية، ومدى فعاليّتها، فثمة ملف جديد برز إلى الساحة الإقليمية وله تأثير واسع على مجريات الأمور داخل ليبيا. حيث فرضت الأوضاع المشتعلة داخل السودان، بعد اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحدياً جديداً على دول الجوار، ومن بينها ليبيا، وذلك بسبب ترابط الملف الأمني، وهو الأمر الذي أعاد طرح سؤال حول إمكانية عقد الانتخابات الليبية، التي ينظر إليها الجميع باعتبارها طوق النجاة، في ظل الأجواء المضطربة في السودان.
وقد انقسمت آراء النخب الليبية إزاء تقييم مدى تأثير أحداث السودان، حيث اعتبر البعض أن الانتخابات لا تزال ممكنة في حالة توفّرت الإرادة، وتحلّى الفرقاء السياسيون بالمسؤولية، وتمتّع الوسطاء الدوليّون بالنزاهة، ووضع الجميع مصلحة المواطن الليبي في المقدمة.
ويؤكّد أصحاب هذا الرأي أن الاقتتال الحاصل في السودان، يعتبر دليلاً على أهمية توحيد مؤسسات الدولة، ولا سيما المؤسسة العسكرية، وأن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أمر حتمي، وهي السبيل الوحيد لتجديد الشرعية المستمدّة من الشعب عبر صناديق الاقتراع.
في المقابل، يشكّك نشطاء ليبيون في إمكانية إجراء انتخابات ليبية نهاية هذا العام، خاصة في ظل تردّي الأوضاع الأمنية، والتي ستزداد سوءاً بفعل الاضطرابات الحاصلة بالسودان. ولا يخفي كثير من الليبيين قلقهم بسبب انقضاء فترة طويلة، وبقاء شهر واحد يفصلهم عن الموعد المحدّد لانتهاء لجنة "6+6"، المكلّفة بإعداد القوانين اللازمة للانتخابات من دون أن تؤدّي اللقاءات والتشاورات إلى نتائج ملموسة سوى تقارب في وجهات النظر.