"إسرائيل" والحرب في أوكرانيا... لم يعد الحياد خياراً متاحاً

تجد "إسرائيل" اليوم نفسها بين نارين، إما إغضاب حليفها التاريخي وصاحب الفضل الكبير في وجودها (الولايات المتحدة الأميركية)، أو إزعاج صديقتها (روسيا)، التي تربطها بها تفاهمات استراتيجية، بعد أن أصبحت الجارة المسؤولة عن تعزيز حماية الحدود الشمالية للكيان.

  • "إسرائيل" والحرب في أوكرانيا... لم يعد الحياد خياراً متاحاً

لم تكن الحرب الأوكرانية حرباً بين روسيا وأوكرانيا فقط، بل هي صراع بين محورين: محور يسعى للحفاظ على بقائه وهيمنته على السياسة الدولية كقطب أوحد، ومحور يسعى لتغيير شكل النظام الدولي القائم (روسيا والصين).

ومما يزيد من تعقيدات تلك الحرب، عدم قدرة الغرب على هزيمة روسيا "النووية"، وفي الوقت نفسه، يجب عدم السماح لها بالانتصار، لأنّ ذلك سيزيد من تعقيدات الوضع الدولي، وهو ما يجعل من هذه الحرب معضلة يصعب التنبؤ بمستقبلها أو وضع نهاية قريبة لها.

وفي ظلّ ازدواجية المعايير، فإنّ العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا "تنتهك القانون الدولي"، بينما الضربات العسكرية "الإسرائيلية" على قطاع غزة، والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وممارسة الفصل العنصري في القدس "لا تنتهك القانون الدولي".

لقد شكّلت تلك الحرب فرصة لـ "إسرائيل" للمضي في سياستها الاستيطانية، مستغلة انشغال العالم بما يحدث في أوكرانيا وتراجع الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية وإلى حدّ كبير. كما أسهمت في إفشال تحركات بعض المنظمات الدولية غير الحكومية ضد "إسرائيل"، ولعل الفائدة الأكبر للكيان الصهيوني كانت في أنّ هذه الحرب شجّعت الهجرة اليهودية إلى "إسرائيل". 

فمنذ بدء الحرب أعلنت "إسرائيل" استعدادها لاستقبال اللاجئين (اليهود فقط) القادمين من أوكرانيا، بينما منعت دخول باقي اللاجئين الأوكرانيين إليها، وهو ما سيشكّل عقبة استيطانية ستضع في المستقبل عائقاً في الطريق لإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية.

وعلى الرغم من العلاقة الاستراتيجية بين "إسرائيل" والغرب عموماً، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، إلا أنّ "إسرائيل" تتمتع بعلاقة مهمّة ومميّزة مع وروسيا والتي تجسّدت في التعاون والتنسيق المستمر بين البلدين في الملف السوري.

لذا فقد حاولت "إسرائيل" تحييد نفسها عن الصراع الغربي الروسي الحاصل في أوكرانيا. فعلى الرغم من إدانتها "للغزو الروسي"، وتقديمها "مساعدات إنسانية" كبيرة لأوكرانيا، إلا أنّها رفضت الانضمام إلى العقوبات التي يقودها الغرب ضد روسيا. ومن هذا المنطلق، يبدو أنّ الحكومة الإسرائيلية تعمّدت التأني في خطواتها لتحقيق توازن دبلوماسي صعب.

هذا الموقف لاقى انتقادات أميركية وغربية كبيرة، وخاصة عندما رفضت "إسرائيل" طلب كييف مساعدات عسكرية تشمل الحصول على أسلحة فتاكة وأنظمة دفاع جوي وعلى رأسها نظام "القبة الحديدية"، الذي يتيح لأوكرانيا التصدي للصواريخ الروسية.

وتعرضت "تل أبيب" إلى مزيد من الانتقادات الروسية تجاه الضربات التي ينفذها جيشها على سوريا، وقامت روسيا بوقف نشاط الوكالة اليهودية على أراضيها. لكنها اليوم تجد نفسها مضطرة أن تكون في قلب هذا الصراع، في ظلّ الإعلان عن قيام الولايات المتحدة الأميركية بتزويد أوكرانيا بمئات الآلاف من القذائف من المستودعات التابعة لها في "إسرائيل" وكوريا الجنوبية. حيث تشير التقارير إلى أنّ كييف تحتاج إلى حوالى ثلاثة آلاف قذيفة يومياً، وهو ما يشكّل ضعف إنتاج معامل السلاح الأميركية والأوربية مجتمعة. وهو ما اضطر الولايات المتحدة الأميركية إلى التفكير في اللجوء إلى مخزوناتها من الأسلحة الموجودة في كل من "إسرائيل" وكوريا الجنوبية. 

سيؤول من جهتها، رفضت إرسال تلك الذخائر بشكل مباشر إلى أوكرانيا تفادياً لأي مواجهة محتملة مع روسيا. لذا فقد تمّ الاتفاق على شراء 100 ألف قذيفة منها ترسل إلى الجيش الأميركي لتعويض مخزونه، بينما يتمّ إرسال القذائف من الولايات المتحدة إلى أوكرانيا.

أما "إسرائيل" فقد وجدت نفسها بين نارين، إما إغضاب حليفها التاريخي وصاحب الفضل الكبير في وجودها (الولايات المتحدة الأميركية)، أو إزعاج صديقتها (روسيا)، التي تربطها بها تفاهمات استراتيجية، بعد أن أصبحت الجارة المسؤولة عن تعزيز حماية الحدود الشمالية للكيان منذ العام 2015.

لذا فهي تحاول الهروب إلى الأمام، مدعية أنّ تلك المستودعات هي مستودعات أميركية تمّ إنشاؤها بعد قيام حرب تشرين عام 1973 حين قامت الولايات المتحدة الأميركية بإنشاء جسر جوي لنقل السلاح إلى "تل أبيب". وتمّ الاتفاق حينها على وضع الفائض من السلاح في تلك المستودعات. وبالتالي، فإنّ الولايات المتحدة هي صاحبة القول الفصل في نقل محتويات تلك المستودعات من دولة إلى أخرى، وأنّ الحكومة الإسرائيلية السابقة هي من وافق على هذا الطلب.

وجود تلك الأسلحة شكل عامل طمأنة لـ "إسرائيل"، حيث أتيح لها استخدام تلك المستودعات في حرب تموز عام 2006، وفي العدوان على غزة عام 2014. فنقل هذه الأسلحة سيضعف من مناعة جيش الاحتلال الإسرائيلي بكل تأكيد. وكانت الولايات المتحدة قد حصلت على موافقة حكومة بينيت على نقل تلك الأسلحة إلى أوكرانيا، وتحاول اليوم تنفيذ ذلك في عهد الحكومة الجديدة (حكومة نتنياهو). ويقدّر عدد القذائف المراد نقلها من "إسرائيل" إلى أوكرانيا بـ 300 ألف قذيفة مدفعية من عيار 155، وقد تمّ نقل نصفها على الأقل وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز. 

حكومة نتنياهو التي تبدو عاجزة عن إعادة النظر في القرار الذي تمّ توقيعه من قبل الحكومة السابقة (وزير الدفاع)، وحصل على مصادقة المؤسسة الأمنية التي تحظى بنفوذ واسع داخل الكيان الصهيوني. لقد بدا واضحاً أنّ أي تراجع إسرائيلي عن ذلك القرار من شأنه أن يدخل العلاقات الأميركية الإسرائيلية في منعطفات خطيرة لا يرغب نتنياهو بحدوثها في بداية عهده. خاصة وأنّ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لديها مواقف أكثر تشدّداً تجاه الحرب في أوكرانيا، وترغب في تقديم مزيد من الدعم لكييف، رداً على قيام إيران بتزويد موسكو بالمسيّرات وبعض الأسلحة النوعية.

روسيا من جهتها، ما زالت تلتزم الصمت حيال هذا الموضوع الحساس، علماً أنّها كانت قد هدّدت في بداية الحرب بأنّ الرد الروسي سيكون قاسياً إذا ما قامت "إسرائيل" بالتدخّل ودعم أوكرانيا. الصمت الروسي هذا ناجم ربما عن تفهّم موسكو لحساسية موقف نتنياهو، وعدم قدرته الفعلية على إعادة النظر في القرار لاعتبارات كثيرة، داخلية وخارجية.

وكانت "إسرائيل" قد أعلنت سياسة النأي بالنفس، ورفضت طلب زيلنسكي تزويد أوكرانيا بالسلاح، وهو ما لاقى انتقادات شديدة من قبل كييف، وجعلها تصوّت إلى جانب 152 دولة -بما فيها روسيا- خلال اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر تشرين الأول/أكتوبر، لدعم قرار يدعو "إسرائيل" إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

وكان نتنياهو، الذي تربطه علاقات قوية مع الرئيس بوتين، قد وعد خلال حملته الانتخابية بمراجعة الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا، منتقداً موقف الحكومة السابقة التي وافقت على نقل تلك الأسلحة التي تشكّل صمام أمان لـ "إسرائيل"، حيث يمكنها اللجوء إليها واستخدامها عند الحاجة. لذا فمن المتوقّع أن يسعى إلى تعزيز التفاهمات الاستراتيجية مع موسكو التي باتت مسؤولة عن حماية الحدود الشمالية لـ "إسرائيل" بحكم وجودها في سوريا.

نتنياهو وفي حال إقدامه على تنفيذ الاتفاق مع الولايات المتحدة، فمن المتوقّع أن يحاول الحصول منها على تنازلات معينة، ودعمٍ لموقفه المتشدّد من القضية الفلسطينية، بمعنى أنّه قد يكون الحلّ على حساب العرب. 

موسكو من جهتها، وإن كانت تتفهّم حقيقة أنّ الحكومة الإسرائيلية السابقة هي من وافق على هذا القرار، لكنها تعتقد أن حكومة نتنياهو قادرة على التراجع عنه وإعادة الدفء إلى العلاقات بين البلدين. الرد الروسي على القرار قد يكون بإعادة النظر في التفاهمات مع "إسرائيل" بخصوص سوريا، وهو ما جعل موسكو تغض الطرف عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على دمشق، واكتفت بالردود الدبلوماسية عليها.

كما أنّ موسكو قد تلجأ لعرقلة هجرة اليهود إلى "إسرائيل"، وخاصة اليهود الأوكرانيين، وقد تلجأ إلى تعزيز علاقاتها مع إيران، أو غض الطرف عن الوجود الإيراني في الجنوب السوري وهو ما تخشاه "إسرائيل". وقد تقوم موسكو باتخاذ مواقف أكثر صرامة إزاء الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سوريا.   

إنّ لجوء الولايات المتحدة إلى استخدام تلك المستودعات يعكس وبلا شك مشكلة استراتيجية، تتمثل في أنّ أميركا، وهي الدولة الأولى في صناعة وبيع السلاح، وجدت نفسها مضطرة للجوء إلى مستودعات الطوارئ التابعة لها في كل من "إسرائيل" وكوريا الجنوبية لتلبية الطلب الأوكراني المتزايد على السلاح، وهو ما يعكس حجم المعركة التي تخوضها روسيا ضد الولايات المتحدة والدول الغربية. تلك المعركة التي طالما سعى الإعلام الغربي إلى تصويرها على أنّها حرب بين روسيا وأوكرانيا فقط، وأنّ الغرب مُجرد داعم للأوكرانيين.

الغرب الذي يُجاهر بدعمه لأوكرانيا، ويقدّم لها كل ما يستطيع لتعزيز صمودها واستنزاف قوة موسكو. في حين يقف حلفاء موسكو عاجزين عن المجاهرة في دعمها في الحرب التي تخوضها نيابة عن العالم كله. خاصةً وأنّ هذا الدعم، وفي حال إعلانه سيضع حداً للتمادي الغربي والتسابق الحاصل على دعم أوكرانيا.

كذلك بدأ الحديث عن عجز بريطانيا في تأمين الاحتياجات الأوكرانية من دبابات تشالنجر، وإمكانية اللجوء إلى شحن 300 دبابة إلى أوكرانيا من الأردن التي تمتلك 400 منها. فإنّ ما يحصل من عجز أميركي وأوروبي عن تلبية الاحتياجات الأوكرانية من السلاح، يعكس عدم دقة حساباتهم حول الوقت المتوقّع لاستمرارية تلك الحرب وحدتها.

كما أنّ التقارير الغربية كانت ركّزت دوماً على أنّ السلاح الروسي الذي يستخدم في المعركة حتى الآن هو سلاح قديم، بمعنى أنّ روسيا ما زالت تستخدم الأسلحة المخزّنة في مستودعاتها منذ عهد الاتحاد السوفياتي، ولم تلجأ بعد إلى استخدام الأسلحة المتطورة بشكل كبير، وهو ما يشير إلى التفوّق الروسي حتى الآن في تأمين الذخيرة، ويعكس كذلك عدم حاجة موسكو إلى استخدام أسلحة نوعية، مما يعني السيطرة الروسية على مجريات المعركة ميدانياً.

إنّ ما تطلبه أوكرانيا من مساعدات، يبدو أنّه يفوق قدرة الولايات المتحدة والدول الغربية على تقديمه، وهو ما يُعزز وجهة النظر الروسية حول عدم قدرة أوكرانيا على الصمود كثيراً. فأوكرانيا ورغم كل هذا الدعم الغربي ما زالت تشعر بالنقص، وتبدو عاجزة عن تحقيق أي اختراقات ميدانية. 

لقد سعت "إسرائيل" إلى أنّ تكون رابحة من الحرب في أوكرانيا بغض النظر عن الطرف المنتصر والطرف المهزوم. خاصةً وأنّها كانت قد نجحت في ألّا تسوء علاقتها كثيراً مع أوكرانيا رغم الانتقادات الشديدة التي وجّهها لها زيلنسكي، ورغم تصويت أوكرانيا على قرار للأمم المتحدة يؤيّد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم رغم الانتقادات الأميركية والإسرائيلية له.

ويبقى الموقف الروسي من القرار الإسرائيلي هو الفيصل في تحديد مآلات العلاقة بين البلدين، وأي وسيلة ستلجأ إليها موسكو للرد على التغير في الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.