أزمة المنظمة وأزمات الأمم
على وجه العالم اليوم ملامح قاتمة. منها انتعاش الحرب بالوكالة، وعودة سوق السلاح والتصنيع الحربي والسباق لأجل وسائل الحرب إلى نشاطها المحموم، وشبح الصدام النووي.
تأتي اجتماعات الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة بما يشبه جردة الحساب للقضايا الدولية والمواقف التي رافقتها منذ الدورة السابقة، بل للعلاقات الدولية بصورةٍ عامة، في لحظة غليانٍ لا تشبه سوى اللحظات السابقة للتحولات الكبرى.
تعيد هذه المناسبة، بحساباتها المرفقة، طرح التساؤلات الكبرى حول دور المنظمة وفاعليتها في عالم اليوم، خصوصاً أن الأخير يشهد النقيض تقريباً من كل واجب نص عليه ميثاق الأمم المتحدة، فلا الأمن والسلم الدوليين محفوظان، ولا العدالة بين البشر موجودة، ولا حقوق الإنسان في ميادينها المختلفة مصانة. وكل هذه التناقضات مع الميثاق، هي ثمار أفعال الدول الأعضاء، الأبرز من بينها، لا أفعال دول المجرات الأخرى، أو شعوبها.
يكاد لا يخلو إقليم حول العالم، من حرب محدودة أو كبيرة، أو أزمة أمنية، أو اقتصادية، أو كارثة جوع، أو على أقل تقدير فقر مزمن لا يعرف أهله الفكاك منه. إنه العالم الجديد المتوتر الذي أفرزته الحداثة وما بعدها، والعولمة وما في نهرها الجارف من مضامين تمحو حدوداً وتوقظ انتماءات، وتحفز ميولاً، وتثير انفعالات، وتؤدي بالدول إلى مزيدٍ من التوتر والتنبه، وفي النهاية تحوّلها إلى فاعل اقتصاديٍ متطرف، بأقل مستوى من الشعور بالوحدة الإنسانية.
العولمة التي انطلقت لتقرّب المسافات وتوحّد الأنساق، فعلت ذلك في كثيرٍ من الميادين، لكنها تحوّلت الآن إلى حرب الجميع ضد الجميع، على الرغم من عودة التحالفات، التي تبدو مبنيةً اليوم على أسس المصالح لا الأيديولوجيات.
في خضم ذلك، الجميع يسأل عن الأمم المتحدة ودورها، من الحرب في أوكرانيا، إلى هبّة الساحل الأفريقي لاستعادة السيادة، وأزمات الشمال الأفريقي وما حملته من زلازل وفيضانات وأمواج مهاجرين واختناقات اقتصادية مستمرة، ثم إلى ناغورنو كاراباخ، الأزمة التي لا تموت، وتايوان وبحر الصين وما يرافقهما، وليس انتهاءً بسوريا وفلسطين، حيث يصبح غياب الأمم المتحدة مدوّياً أكثر من أي جغرافيا أخرى.
هكذا ومع اشتعال العالم، تنطفئ المنظمة الأممية لتحل محلّها الأمم، كلٌ منها تنشط بحسب مصلحتها، في الحرب وفي الاقتصاد وفي محاكاة المستقبل، من دون اعتبارٍ لمآلات هذه الأنانيات الوطنية، حتى على وجود الكوكب وقابلية استمرار الحياة عليه، كما بات واضحاً في الحقائق البيئية المتزايدة، على سبيل المثال.
تحوّلت المنظمة المؤسسة من أجل هدفٍ عريضٍ عنوانه حفظ الأمن والسلم الدوليين، إلى منبرٍ ومنصة، القوى الكبرى فيها قوّضت أدوارها الكبرى، فصارت قمم جمعيتها العامة منتدى لتكرار الدول رؤاها ومطالبها، من دون بحثٍ مسؤولٍ ومشترك عن حلولٍ واقعية ومتوازنة لمشكلات العالم. حتى بات البعض يصفها بأنها "مكلَمة" عالمية النطاق.
ويزيد من فداحة الآثار المترتبة عن هذا التحوّل، غياب القيادة العالمية الواضحة، في ظل نظام عالمي يتضح أنه لم ينهر نهائياً بعد، وآخر يبدو أنه لم يصل بعد. وبين هذا وذاك، شراسةٌ غير مسبوقة من المدافعين عن أدوارهم في النظام الآخذ بالأفول، ومن المطالبين بأدوارٍ جديدة في النظام الآخذ بالتشكّل.
حالةٌ من الفوضى التي تحاول الانتظام، ويعزز مخاطرها انحدارٌ عالميٌ ملموس في نوعية صناع القرار، حيث تقاد الكثير من الدول من جانب قادةٍ يؤكدون يومياً أنهم لا يرقون إلى مستوى النخب السياسية القادرة على قيادة البشرية إلى مستقبلٍ مقبولٍ على الأقل.
ولا يقتصر غياب الأساسيات على أشخاص الحكم وفوضى النظام، بل إن فراغ النظرية يبدو مدوياً في أعقد اللحظات الدراماتيكية التي يعيشها العالم. فليس في النقاش العالمي اليوم أقل من احتمال حربٍ نووية، أو مواجهة مباشرة بين أعتى الترسانات العسكرية في تاريخ الكوكب، أو تغيّر الشروط المناخية والبيئية للحياة عليه بصورةٍ تقترب من أن تكون لا رجعة منها، أو ظاهرة التفتت التي تضرب دول العالم ما يحفّز الانتماءات الفرعية للانقلاب على المشتركات، أو تأزم غير مسبوق في النظام الاقتصادي الدولي يهدد معظم دول العالم بالإفلاس تحت وطأة التهديد بانهيار هرم الديون، أو استمرار معاناة شعوبها التي تنوء تحت ثقل خدمته، والاستمرار بلحس المبرد في الاستزادة منه، وتوريث أجيالها الجديدة مزيداً من أثقاله.
يستدين العالم ممن لم يولدوا بعد، ليس من أجل كفاية الأساسيات الضرورية للحياة أو بناء أسس حياةٍ أفضل، بل في معظم العالم، من أجل تمويل وباء الاستهلاك غير المفيد وغير الضروري الذي تم حقن شعوب العالم فيه لعقودٍ من الزمن، ضمن ظاهرة تصدير الأنماط الثقافية، وأبرزها نمط الاستهلاك الهستيري، واللاإرادي.
على وجه العالم اليوم ملامح قاتمة. منها انتعاش الحرب بالوكالة، وعودة سوق السلاح والتصنيع الحربي والسباق لأجل وسائل الحرب إلى نشاطها المحموم، وشبح الصدام النووي الذي ظهرت فيه تفاصيل خطرة تسهل استخدامه كالقنابل التكتيكية والرؤوس الحاملة لليورانيوم وغير ذلك من إبداع أساليب الفناء، وحرب العقوبات التي تقتل سعيدي الحظ الناجين من الموت بالأسلحة التقليدية، من دون إراقة دمائهم.
والحرب على العملات الوطنية، على المواد الأولية ومنها الطاقة وإمداداتها، وعودة سياسة الأحلاف، والأزمات الاقتصادية المركّبة، وحرب المعلومات والإنتاج العلمي وصناعة التكنولوجيا، وعودة ظهور الحمائيات الوطنية للعلوم والمنتجات، وأزمة المناخ المتدهور بصورةٍ دراماتيكية باتت ملموسة في الحرائق والفيضانات وتبدل النظم البيئية واختفاء أنواعٍ من الكائنات الحية والنبات، وأزمة فقدان السيادة الوطنية، وارتدادها العكسي في محاولات الدول النامية والناشئة لاستعادة السيطرة على شؤونها ومستقبلها.
وفيما تظهر هذه الإرادة في دول الجنوب، وبعض القوى القديمة من عالم الشمال، تكاد لا ترصد في قلب التحالف الغربي المهجّن، باستثناء فرنسا ومحاولاتها المحسوبة دائماً، والتي تفتقر إلى المخاطرة، والمتصلة بتراجع قوتها الشاملة التي كانت، وقد يكون ذلك بسبب فقدان الشريك الأوروبي القوي في هذا المشروع.
مجلس الأمن صلب مشكلة الأمم المتحدة
تجري الأمم المتحدة اجتماعاتها، بينما يغيب عن القمة أربعة رؤساء دول من أصل خمسة من أصحاب المقاعد الدائمة في مجلس الأمن.
وإن كان لذلك أسباب عديدة، فإنه يبقى في موازاة تلك الأسباب مؤشراً على جانبية الدور الذي صارت إليه الأمم المتحدة، حتى بالنسبة إلى الدول الخمس العظمى. فالمنظمة التي كانت تشكل أمل الدول الأقل قدرةً على ضمان حقوقها، وفي مقدمها سيادتها الوطنية، لم تعد تمثل حتى مصالح الدول العظمى، التي تمتلك أفضلية النقد (الفيتو)، الذي لطالما أعطي مسمى "الحق" من دون وجه حقٍ يبرره.
فهذه القوى الخمس، حازت هذه الأفضلية تأسيساً على نتائج الحرب العالمية الثانية (بالنسبة إلى أربعٍ منها) والظروف الدولية التي تلتها (بالنسبة إلى الصين). أما ظروف اليوم، فهي عودةٌ إلى بيئة الثلاثينيات، لكن بلغة القرن الحادي والعشرين وأدواته.
ورب قائلٍ إن مشكلة الأمم المتحدة في معظم نواحيها مرتبطةٌ بمجلس الأمن وآليات اتخاذ القرار فيه، إذ تنقسم الدول الخمس في تحالفين، وخمس إرادات. وهي تتصارع خارج المجلس، وتترجم الصراع داخله، لتفقده أي قدرةٍ على إتيان دوره في تمتين الأمن والسلم الدوليين.
المعضلة الأساس هي في تعارض مصالح القوى الخمس العظمى مع تحقيق الأمن العالمي في كثيرٍ من الأحيان. فهذه الدول هي نفسها أكبر الدول المنتجة والمصدرة للسلاح، وهي الأقدر على فتح سوق بيع، كما سوق استخدام السلاح، كالحرب.
وهي نفسها الدول الأكثر استهلاكاً للطاقة والمعادن والثروات، وبالتالي هي الأكثر مصلحةً في المصارعة على هذه الموارد. وهي نفسها المهيمنة دولياً، وبالتالي فمصلحتها أن تساوم على كل قضية أو أزمة لتحصيل مكاسب لها، وليس لإقامة العدالة التي بدورها تؤمن الشرط الأساس لتحقيق الأمن والسلم الدوليين.
لا تمتلك الأمم المتحدة أجهزتها العسكرية والأمنية المستقلة، لا جيش خاصاً لها، وموازنتها مرهونة بمساهمات الدول الأعضاء، ولا هي تمتلك قوةً زجريةً يمكن بموجبها فرض تنفيذ القرارات الدولية، أو الاضطلاع بدورٍ حاكمٍ في قضايا النزاعات الدولية، حتى في الحالات التي يكون فيها الاعتداء على القانون الدولي جلياً، ووجود ظالمٍ واضحٍ ومظلومٍ معلن. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، حيث تضرب دولٌ أعضاء بقرارات المنظمة عرض الحائط، في أي وقتٍ تشاء، ومن دون أثمانٍ تذكر.
لكن، بالمقابل، فالمنظمة لا تزال مهمة جداً لمعالجة القضايا الإنسانية العامة، على الأقل هي تعيد التذكير بما هو طبيعي، وتشير إلى الانحراف، وفي ملفات كثيرة، هي تنتج أكثر من ذلك على مستوى المهمات والبرامج المفيدة لتقويم الانحرافات، ولا سيما في قضايا المناخ والبيئة والفقر والجوع والحوكمة والصحة.
كما أن أهميتها لا تزال مرتبطة بما سبقها من انعدامٍ لوجود آليات دولية فاعلة تعصم من الحروب العالمية المدمرة، أو الحروب القارية التي كانت تشتعل بها أقاليم عديدة لمئات السنين بسبب الصراعات الإمبراطورية.
وربما تكون أبرز وجوه أهميتها، في انعدام البديل الذي يؤمن الحد الأدنى الذي تؤمنه حتى اليوم، حتى في دورها الممسوخ كمنبرٍ ومنصةٍ ومنتدى، ليقول البشر كلمةً بدلاً من إلقاء رصاصة، في كل لحظةٍ يختلفون فيها.
ورثت الأمم المتحدة عصبة الأمم، التي تأسست بدورها بعد مؤتمر فرساي عام 1919، وعانت بين الحربين من عدم قدرتها على وقف جنون العالم وقادته ومنع الانزلاق إلى الحرب الثانية، وها هي الأمم المتحدة تعاني اليوم من مشكلاتٍ شديدة الشبه، بحيث يسود الجنون البشري العالم، ويتقدم العقل الاصطناعي.
لكن نهاية عصر عصبة الأمم أتى عندما اتفقت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على أن المنظمة السابقة فشلت في أداء وظيفتها الأساسية في منع الحروب الكبرى وحفظ السلام. اليوم، ومع فشل الأمم المتحدة في منع اندلاع حربٍ عالمية ثالثة، عصرية الشكل والوسائل والأبعاد، ومع صعوبة وجود منتصر صريحٍ في كل ما يجري، في وقتٍ معلوم، بالإضافة إلى عدم صدور مطالباتٍ جماعية بحل المنظمة وتأسيس إطارٍ دولي آخر مكانها، يرجح أن تواصل الأمم المتحدة لعب دورها الحالي، في جمع المتصارعين على منصةٍ واحدة، من خارج دورها الرئيس في حفظ الأمن والسلم الدوليين.
إذاً، هو تحوّلٌ لدور المنظمة الأممية يحاكي الظروف الحالية التي تمر بها العلاقات الدولية، بانتظار جلاء غبار الحرب الدائرة حول العالم، بتنوع ميادينها والأنشطة المنضوية في إطارها. وإلى حينه، ستبقى المنظمة منبراً يخرج إليه طالب الحق في مواجهة حائز القوة.