"عقدة غزة" تحكم خناقها على "الجيش" الإسرائيلي.. ماذا في الآثار وارتدادات الميدان؟
"جيش" الاحتلال يراكم خسائره الفادحة في قطاع غزة، التي تكبّده إياها المقاومة، ويفاقمها سوء الوضع داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب المشكلات التي يعانيها الجنود.
منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تكشّف الضعف لدى "جيش" الاحتلال وسوء أداء جنوده. "الجيش" الإسرائيلي، الذي لم يتعلّم من حروبه السابقة ضدّ المقاومة في كل من غزة ولبنان، يراكم خسائره الفادحة في القطاع، التي تكبّده إياها المقاومة، ويفاقمها سوء الوضع داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب المشكلات التي يعانيها الجنود.
وأمام ما يصطدم به "جيش" الاحتلال من إصرار على مواصلة القتال من جانب المقاومة حتى وقف العدوان، تشكّل غزة بالنسبة لـ"الجيش" الإسرائيلي عقدةً صعبةً، كما شكّلت فيتنام عقدةً للجيش الأميركي، الذي تلاحقه إخفاقات تلك الحرب حتى يومنا هذا.
خلافات داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
بدأت الخلافات في "الجيش" الإسرائيلي بشأن الحرب في غزة تطفو على السطح شيئاً فشيئاً، نظراً لما يعانيه من تخبّط وفشل في تحقيق أهدافه المعلَنة، في حين تبدي المقاومة، بمختلف فصائلها، تماسكاً وتعاوناً وقدرةً على المضي في المواجهة. أحد مظاهر هذه الخلافات تجلى في الشرخ بين هيئة أركان "جيش" الاحتلال وضباط الاحتياط.
وفق تقارير إسرائيلية، وجّه ضباط إسرائيليون من الاحتياط انتقادات إلى هيئة الأركان، وذلك على خلفية تعامل الأخيرة معهم، وعدم عرضها خطةً عامةً للسنة الحالية. وغياب الخطة هذه كفيل بتسليط الضوء على حالة الارتباك السائدة لدى "الجيش" في حربه على القطاع، التي تضاف إليها التهديدات الأخرى الماثلة على الجبهات المختلفة.
الانتقادات لقيادة "الجيش" الإسرائيلي لم تأتِ من الضباط وحدهم، فحتى جنود الاحتياط الموجودون في القطاع هاجموها، إذ "سئموا وطفح كيلهم" من سلوك ضباطهم، الذين يتجهون إلى مناطق القتال في غزة "من أجل التقاط الصور، ثم المغادرة"، من دون الوقوف عند بعض التفاصيل، كمخزون السلاح الذي بحوزتهم، أو المعلومات الاستخبارية التي لا تمت إلى ما يحدث على الأرض بصلة، أو الخطط التي لم يتم تحديثها على الإطلاق.
إضافة إلى ذلك، برزت الخلافات في "إسرائيل" بشأن تحديد الجهة المسؤولة عن الإخفاق الكبير، بحيث حاول رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لوم "الجيش" والمؤسسة الأمنية، في حين يحمّل آخرون نتنياهو ووزير الأمن مسؤولية ما حصل. والخلاف وجد طريقه إلى "كابينيت" الحرب، وسط اختلاف في الرؤى بين نتنياهو وغالانت من جهة، إذ يريان أنّ "مواصلة الضغط العسكري على حماس سيجبرها على تقديم تنازلات"، وبيني غانتس وغادي آيزنكوت من جهة أخرى، وهما "يسعيان للدخول في محادثات مع حماس".
هذه الخلافات تترك تأثيرها بلا شك على أداء "الجيش" القتالي في غزة، الذي تُلاحظ رداءته من خلال الفشل في إحكام السيطرة على أي من مناطق القطاع، فما يلبث أن يعلن سيطرته على منطقة ما، حتى يقع جنوده وآلياته في الكمائن التي يعدّها المقاومون، وتندلع الاشتباكات العنيفة، وكل ذلك موثّق في المقاطع المصوّرة التي تبثّها المقاومة. وعند النظر في هذه المقاطع، يمكن ملاحظة كيفية اصطياد الجنود الإسرائيليين، من بين الركام وعبر نوافذ الأبنية.
جنود مربكون وفوضى في "الجيش"
الخلل الذي تعانيه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ينسحب على الميدان أيضاً، حيث يطغى الارتباك على سلوك الضباط والجنود، وهو أمر بدا واضحاً منذ الساعات الأولى لـ"طوفان الأقصى". وفي هذا الإطار، كشفت "نيويورك تايمز" أنّ قوات "جيش" الاحتلال "افتقرت إلى التنظيم"، يوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
عانى "الجيش" في ذلك اليوم سوءاً في التنظيم إلى درجة أنّ تواصل الجنود كان عبر تطبيق "واتسآب"، في حين كانت معلوماتهم مستمدةً من منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أنّ طيّاري المروحيات أُمروا بالاطلاع على التقارير الإخبارية وقنوات تطبيق "تلغرام" كي يختاروا أهدافهم، في مواجهتهم هجوم المقاومة من قطاع غزة.
في السياق نفسه، كشف آفي فايس، وهو عقيد إسرائيلي متقاعد، أنّ ضباطاً كباراً ورفيعي المستوى في "الجيش" تصرفوا بجبن في اليوم الأول من الحرب، تاركين الجنود والجنديات وراءهم. وكجزء من الفوضى المنتشرة في "الجيش"، وفقاً له، أطلق جنود إسرائيليون النار على 8 من زملائهم، كما أصابوا مستوطنين، بينهم عاملون في شركة الكهرباء الإسرائيلية.
وتشير الأدلة التي تكشفها التحقيقات الإسرائيلية والغربية أنّ جزءاً كبيراً من الدمار الذي أُلحق بالمستوطنات الإسرائيلية في "غلاف غزة" كان بسبب القصف الإسرائيلي، وأنّ مستوطنين قُتلوا بنيران "جيشهم"، وهو أمر لم يتوقّف حدوثه عند حدود المستوطنات والـ7 من أكتوبر، بل امتد إلى داخل قطاع غزة خلال التوغلات البرية، التي بدأت في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث قُتل عدد من الأسرى الإسرائيليين بالنيران المباشرة من "الجيش"، على الرغم من حديثهم بالعبرية ورفعهم الأعلام البيضاء.
إعاقات واضطرابات نفسية
المشكلات لدى "الجيش" الإسرائيلي لا تقتصر على الأداء القتالي، والخلافات الداخلية، فالخسائر البشرية وانعكاساتها النفسية لها نصيب أيضاً. عدد الجنود الجرحى والمعوّقين في "إسرائيل" من جراء هذه الحرب غير مسبوق، والأهم أنّ الإصابات بمعظمها خطرة للغاية، وثمة مخاوف كبيرة من تأثير هذا الأمر على معنويات الإسرائيليين، الأمر الذي يفسّر تعمّد المؤسسة العسكرية الامتناع عن الإدلاء بالأرقام الحقيقية. وحتى الآن، تم الاعتراف بنحو 4 آلاف جندي إسرائيلي معوّق ممّن بُترت أطرافهم أو أُصيبوا بالعمى أو الشلل، بحسب موقع "والاه"، إلا أنّ التقديرات ترجّح زيادةً إلى نحو 30 ألفاً.
على الصعيد النفسي، توالت التقارير التي تتناول الأثر النفسي للحرب بالنسبة للجنود الإسرائيليين. المشكلات النفسية التي يعانيها أولئك الذين يقاتلون في غزة، والتي تصل إلى حدّ الإقدام على الانتحار، تظهر بطرق مختلفة، وفق ما أوردت "معاريف"، بحيث يصابون بأعراض جسدية أيضاً، تشمل صعوبات في النوم والتنفس وضعف الشهية.
إلى جانب ما يتداوله الإعلام الإسرائيلي بشأن الجنود المصابين بالاضطرابات النفسية، يمكن ملاحظة حدّة الوضع من خلال نماذج لجنود إسرائيليين عائدين من غزة. مثلاً، شهد "الجيش" الإسرائيلي "حدثاً خطيراً"، أواخر الشهر الماضي، ففيما كان جندي من الكتيبة "890" يمضي أياماً للنقاهة بعد عودته من غزة في مركز للاستراحة في عسقلان، استيقظ مرعوباً بسبب كابوس راوده خلال نومه، فما كان منه إلا أن أطلق النار في اتجاه جدار الغرفة التي ينام فيها، ما أدى إلى إصابة عدد من الجنود الإسرائيليين.
جندي آخر مضطرب صرخ أمام "الكنيست" وهو يشكو ما يمرّ به بعد عودته من القتال، فتحدّث مثلاً عن أنّه كان على وشك أن يقتل زوجته، وعن أنّه يتبوّل على نفسه ليلاً بسبب الخوف، وعن عجزه عن النوم في حال عدم شرب الكحول. تحدّث الجندي أيضاً عن تخيّله قذائف الـ"R P G" وهي تطير فوق رأسه، أو ورؤيته نفسه في جرافة، يقاتل ويشمّ رائحة الجثث.
استقالات مرتقبة ورفض للقتال
أمام الإنجاز الذي حقّقته المقاومة الفلسطينية في الـ7 من أكتوبر، وما يعانيه "الجيش" الإسرائيلي من إخفاقات في القتال في قطاع غزة، وانعدام فرص الانتصار والحسم العسكري في القطاع، يقرّ مسؤولون كبار بفشلهم، حتى إنّ بعضهم ينوي الاستقالة. قبل أيام، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أنّ رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية "الشاباك"، رونين بار، سيستقيل من منصبه حال انتهاء الحرب، وذلك نقلاً عن الرئيس السابق للجهاز، يعقوب بيري، الذي تحدّث معه مباشرةً.
رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، أهارون هاليفا، قال أيضاً إنّه ينوي تقديم الاستقالة في أقرب وقت ممكن، إلا أنّه "محتار فقط باختيار الموعد الدقيق للاستقالة"، موضحاً أنّه سينتظر "وقف إطلاق النار ليعلن الاستقالة، وقد يبكّر الاستقالة إلى موعد أقرب". وبناءً على ذلك، أصبح هاليفا يُعامَل في قيادة "الجيش" على أنّه ذاهب، بحسب "يديعوت أحرونوت".
أما جنود الاحتياط "الغارقون في وحل غزة"، فرفض عدد منهم المشاركة في القتال داخل القطاع، مدّعين أنّ هذا القرار سببه ثغرات خطرة على مستوى التدريب، إذ إنّهم "تدرّبوا على القتال داخل الأراضي المحتلة لا غزة"، فيما سُحب الآلاف منهم بـ"أمر من المستوى السياسي والطوارئ"، وذلك في إطار انسحاب كبير للقوات الإسرائيلية من شمالي القطاع.
وفي مقابل هذا "الجيش" وهؤلاء الجنود، قيادة عسكرية متماسكة وعبقرية في غزة، ومقاومون مدفوعون بالمعنويات العالية واليقين بالنصر، ومقاومة تتقن صنع الإنسان المقاتل، فلا عجب في أن ترى فلسطينياً مبتور اليد، يمطر محتلّيه بالقذائف.