"طوفان الأقصى".. كيف حولت التهديد إلى فرصة؟
مسارات عدة ساهمت ملحمة "طوفان الأقصى" في تبديلها، ما شكل ضربة قاسية لأحلام "تل أبيب".. ماهي وكيف حوّلت هذه الملحمة البطولية التهديد إلى فرصة؟
لم يكن الـ7 من أكتوبر من العام 2023 يوم هجوم صادم بالنسبة للإسرائيليين في المستوطنات، بل كان يوم "تغيير المسارات" وتصويب بوصلة القضية الفلسطينية عربياً وعالمياً.
وما بين محاولات تلميع صورة الاحتلال وإظهاره كـ"دولة" قائمة، واتفاقيات التطبيع، جاءت "طوفان الأقصى" بما حملته من انتصارات، لتعري صورة "إسرائيل" الحقيقية، وتخلط الأوراق، وتعيد البوصلة إلى اتجاهها الصحيح.
وهذا ما أكده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قبل أيام، حين قال إنّ إنجازات ملحمة "طوفان الأقصى" تنقسم في مقدرتها على تغيير مسارين: الأول هو تشريع الاحتلال دولياً، وتلميع صورته وتظهيره كياناً نموذجياً متحضراً، يمكن أن يُحتذى كقدوةٍ للمنطقة.
أما المسار الثاني، فكانت خلاصته إضعاف مقاومة الشعب الفلسطيني وخنقها، وتصفية قضيته، وصولاً إلى إخراجها من ساحة التداول العالمي، عبر الاعتماد على القوة، وعلى خيار التطبيع، الذي تكفّل إخراج أنظمة مؤثرة من ساحة المواجهة.
المسار الأول: تشريع الاحتلال دولياً
رأى السيد نصر الله أنّ العدو وأسياده حققوا في مسار تلميع صورة الاحتلال دولياً نجاحاتٍ بارزة، بسبب ما يمتلكونه من قدراتٍ وهيمنة على المؤسسات الدولية الكبرى، وعلى أنظمة الغرب وقواه الفاعلة والمؤثرة، لكن معركة "طوفان الأقصى" مزقت هذه الصورة المزيفة.
فمنذ نشأة الاحتلال، وتطور الوسائل المتاحة لنقل الأخبار والصور، حشدت "إسرائيل" في خدمتها دول الغرب وأوروبا، وكذلك المنظمات الحقوقية والمنصات الإعلامية والأبواق خدمة لصورتها. إلا أنّ "طوفان الأقصى" ضحدت كل الأكاذيب التي روجت لها ماكينات الإعلام العالمية لصالح "إسرائيل"، معرية نفاق الاحتلال أمام أعين الرأي العام.
"التظاهرات المناهضة لا تكذب"، فالأحرار المؤمنون بالقضية الفلسطينية وحق الشعوب في تقرير مصيرها سرعان ما نزلوا إلى الشوارع في مختلف دول العالم، ففي أوروبا مثلاً فاقت الأعداد الآلاف رغم اعتماد بعضها اجراءات قاسية ومحاولات قمعها للمتظاهرين.
ومن ولايات أميركية، ومدن في المملكة المتحدة، والعاصمة الفرنسية باريس، وعواصم ومدن غربية أخرى مثل بروكسل وميلانو وستوكهولم ولوكسمبورغ ولاهاي، التي لطالما شكلت الحكومات فيها منبراً دفاعياً لـ"إسرائيل"، رفع المتظاهرون في ساحاتها اللافتات المناهضة لوحشية الاحتلال ضد المدنيين في غزة، وعلت المطالب بمحاكمة "إسرائيل" دولياً لارتكابها جرائم حرب.
وأظهرت بيانات معهد دراسات "الأمن القومي" الإسرائيلي أنّ الفترة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و8 كانون الأول/ديسمبر 2023 شهدت أكثر من 7557 تظاهرة مناهضة لـ"إسرائيل" عالمياً، مقابل 602 تظاهرة مؤيدة لها، مقراً بأن التظاهرات المناهضة إثنا عشر ضعفاً من تلك المؤيدة للاحتلال.
وبالتوازي مع التحركات الجماهيرية التي كشفت الاحتلال على حقيقته، مثلت "إسرائيل" لأول مرة في تاريخها أمام محكمة العدل الدولية بعد أن رفضت عام 2004 حضور إجراءات التقاضي بشأن إجراءات جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، ثم تجاهلت الحكم النهائي متذرعة بعدم اعترافها بسلطة المحكمة.
ففي 29 كانون الأول/ديسمبر الماضي، تقدمت جنوب أفريقيا بدعوى من 84 صفحة، عرضت خلالها دلائل على انتهاك "إسرائيل" التزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وتورطها بـ"ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة".
وكانت جلسة المحاكمة التي عقدت قبل أيام، بمثابة "جلسة كشف حساب"، عرضت فيها المجازر التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وهو ما سلطت جنوب أفريقيا الضوء عليه، بأن أصل المشكلة يعود في احتلال "إسرائيل لفلسطين" عام 1948.
وأجبرت "طوفان الأقصى" بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى تبديل موقفها تجاه "إسرائيل" نتيجة للانقسامك السياسي الحاصل داخل مؤسساتها والضغط الشعبي القائم، فبدأت تخرج أصوات تطالب بضرورة وقف النار في قطاع غزة، بعدما أعطت الشرعية للاحتلال في بداية الـ7 من أكتوبر الحق في ما اسمته "الدفاع عن النفس".
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز"، أنّ الاتحاد الأوروبي حضّ أعضائه على معاقبة "إسرائيل"، إذا واصل نتنياهو، "رفض قيام دولة فلسطينية".
كما أوردت الصحيفة نقلاً عن مسؤولين أوروبيين، أنّ الاقتراح "مؤشر على غضب أعضاء الاتحاد، بسبب رفض إسرائيل خطة حل الدولتين".
المسار الثاني: تعزيز التطبيع
تطرّق الأمين العام لحزب الله إلى خيار التطبيع، مُشيراً إلى أنّه كان ولا يزال مشروعَ العدو لتطويع إرادة الأمة، وتضييع قضيتها المركزية، وتهشيم وحدة خياراتها، حتى كادت قضية فلسطين تتحول من قضية الأمة إلى قضية فلسطينية حصرية يتيمة غريبة بين أهلها وقومها وإخوانها.
وقال السيد نصر الله إن خيار التطبيع وضع القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في أرضه، في دائرة الاستهداف، والخطر المحدق، وفي مسار انحداري يُنذر بكل خطر، بسبب ما يحمله التطبيع مع العدو من تآمر وخذلان للشعب الفلسطيني، وتخلٍّ عن حقه وقضيته ومقاومته ومستقبله.
وأمام هذا الخطر، و"في هذه اللحظة القاتلة"، أوضح الأمين العام لحزب الله أنّه جاء "طوفان" الأقصى المقاوم، ليخلط كل الأوراق، ويبدّل كل الحسابات، ويحوّل التهديد إلى فرصة وجودية متقدمة، وإلى محطة تحوّل في المسارات التي عمل عليها الأعداء طويلاً.
وفي وثيقة "حماس" التي جاءت تحت عنوان "هذه روايتنا .. لماذا طوفان الأقصى" أكدت أن العملية كانت خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يُحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.
ودعت "حماس" إلى مواصلة الضغوط الشعبية عربياً وإسلامياً ودولياً لإنهاء الاحتلال، وتفعيل حركات رفض التطبيع، وحركات مقاطعة البضائع الإسرائيلية ومقاطعة الشركات والمؤسسات التي تدعم الاحتلال.
وبالفعل، فقد أحدثت عملية "طوفان الأقصى" ارتدادات قوية على السياق الإقليمي حيث تميزت مواقف كل من الدول التي طبّعت علاقاتها مع "إسرائيل" في إطار اتفاقات "إبراهام" بالإدانة، كما تعالت أصوات الشارع العربي في الدولة المطبعة مطالبة بإيقاف هذه الاتفاقيات والتراجع عن مصافحة اليد السفاحة التي ترتكب أشنع المجازر في غزة.
وباعتراف من الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، فإن "طوفان الأقصى" بددت أحلامه في توقيع اتفاقية تطبيع بين "إسرائيل" والسعودية خلال الفترة الماضية، قائلاً إنّ "أحد أسباب تحرك حماس تجاه إسرائيل... هو أنهم كانوا يعلمون أنني كنت على وشك الجلوس مع السعوديين".
ودفعت "طوفان الأقصى" رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تغيير خطابه جذرياً، مقراً بالتهديد الذي تشكله المعركة الحالية على طموحات "إسرائيل" في توسيع نطاق اتفاقيات التطبيع، حيث وصف المرحلة ما قبل "طوفان الأقصى" بأنها "عهد جديد من السلام"، أما بعد 7 أكتوبر اعترف بأنّ "إسرائيل باتت في حالة حرب بعد هجوم حماس".
وحينما بدأت حركة "حماس" هجومها المباغت على "إسرائيل" فإنها استهدفت أيضاً الجهود المبذولة لتشكيل تحالفات أمنية إقليمية جديدة من شأنها أن تهدد آمال الفلسطينيين في إقامة دولتهم الحرة، ووفق دبلوماسيين أميركيين فإنّ "طوفان الأقصى" ستغير بشكل كبير الحسابات الدبلوماسية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط.
ووفق ما قاله آرون ديفيد ميلر، مبعوث الشرق الأوسط السابق والذي يعمل حالياً في مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي فإنه "على الرغم من أن التطبيع لم يمت بعد، إلا أنه تعرض لضربة قوية، ولا نعرف إلى أين يتجه بعد كل هذا".