هجوم 7 أكتوبر والتضليل الإعلامي: تقرير "هيومن رايتس ووتش" نموذجاً
يبرز تقرير منظّمة "هيومن رايتس ووتش" الأخير في إطار المعلومات المضلّلة، حيث وجّهت فيه أصابع الاتهام للمقاومة الفلسطينية بارتكاب "جرائم حرب" في 7 أكتوبر.. فكيف تكشّف انحياز التقرير للاحتلال؟
منذ الساعات الأولى لملحمة "طوفان الأقصى"، دأبت الماكينات الإعلامية الإسرائيلية على إطلاق الأكاذيب والمعلومات المضللة بشأن ما حصل يومها، في محاولةٍ منها لربطِ فصائل المقاومة الفلسطينية بـ"الإرهاب" وكسب تعاطفٍ دولي.
وبهدف تبرير عدوانها على قطاع غزة، نشرت "إسرائيل" عبر أذرعها الإعلاميّة المتعددة وعبر أجهزتها المخابراتيّة كميةً هائلة من الأخبار بشأن ما جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، من دون أدلة مثبتة، جرى تسويقها على نطاقٍ عالمي، وحظيت بدعمٍ ودعايةٍ كبيرة في وسائل الإعلام الغربية، وخاصة وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية.
رواياتٌ وقصصٌ كثيرة صدّقها الرأي العام العالمي بشكلٍ أعمى كحقيقةٍ غير قابلة للتشكيك، قبل أن تتصدّع الرواية الإسرائيلية بعد انكشافها، منها ما زعم أنّ مقاومي حماس أحرقوا جثث أطفال، ومنها ما ادّعى أنهم اغتصبوا النساء، على الرغم من أنه لم تخرج أي مستوطنة إسرائيلية وتزعم أنها تعرّضت للاغتصاب.
ولم يطُل الأمر حتى انكشف زيف الكثير ممّا تمّ ترويجه، بعد ظهور تقارير واعترافات إسرائيلية تنفي ما سبق نشره. لكن السردية الإسرائيلية بقيت عالقة في أذهان الكثيرين في الغرب، ممّن لم يرغبوا في سماع الرواية الأخرى أو تصديقها، وتمسّكوا بروايات الدعاية الإسرائيلية.
وفي إطار هذه المعلومات المضلّلة، يبرز تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الأخير، موجّهةً فيه أصابع الاتهام إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بارتكاب المئات من "جرائم الحرب" أثناء هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. من جهتها، أعلنت حركة حماس رفضها للتقرير، وفنّدت ما تضمّنه من ادعاءات، مطالبةً المنظّمة بسحبه والاعتذار عنه.
مضلّل وخالٍ من السياق
اللافت في التقرير أنه يخلو تقريباً من أي سياق. يبدأ بالحديث بأسلوبٍ درامي عن مستوطن إسرائيلي أُصيب في أحداث 7 أكتوبر، ويختم بالحديث عن امرأة تأثّرت نفسيّاً، وما بين المقدمة والخاتمة محاولات لشرعنة الإبادة التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة وجرائمه المتواصلة بحقّ المدنيين، عبر وضعها في سياق الردّ على هجوم الـ 7 من أكتوبر.
وعلى الرغم من أنّ التقرير حاول تبرير العدوان على غزة على أنه نتيجة لهجوم المقاومة، إلا أنه لم يضع أحداث 7 أكتوبر في أيّ سياق، ولم يتطرّق إلى الأسباب التي دفعت الشعب الفلسطيني ومقاومته إلى ملحمة "طوفان الأقصى"، بعد عقودٍ من الاحتلال الإسرائيلي والجرائم والانتهاكات.
كما أنه لم يُشِر بأيّ كلمة إلى أنّ الحصار الإسرائيلي الخانق المفروض على غزة، وحرمان أهلها من أبسط حقوقهم الإنسانية، كانا أحد أسباب ملحمة 7 أكتوبر.
وهو الأمر الذي استهجنته حركة حماس في بيانها، مشيرةً إلى إصرار "هيومن رايتس ووتش" على اعتبار يوم الـ7 من أكتوبر بداية القصة، وإهمال ما قبله وكلّ ما عاناه الشعب الفلسطيني من حروب وقتل وتعذيب وحصار، مؤكّدةً استنكارها أن تقع مؤسسة تدافع عن حقوق الإنسان في هذا الخطأ.
تبنٍ للرواية الإسرائيلية
يظهر بشكلٍ واضح في التقرير تبنّيه للسردية الإسرائيلية، وابتعاده عن الرأي القانوني المحايد، حيث كان متأثّراً بشكلٍ واضح بالأكاذيب التي لفّقها "الجيش" الإسرائيلي طوال الشهور الماضية، والتي أصبحت قناعة لدى قطاعٍ واسع من الرأي العام الغربي، ولم يكن التراجع عنها كافياً لمحوها من الأذهان.
ويركّز التقرير على العناوين العامّة من دون تحديد، بحيث توحي للقارئ بأنها حقائق قطعية ولا تقبل الشكّ، تتّهم المقاومة في غزة. ولا يشير التقرير إلى سياقٍ طويل من الكذب والتضليل الإسرائيليين منذ الـ7 من أكتوبر، لجهة تلفيق الأدلة أو الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة التي أُلصقت بالمقاومة.
كما أنّ تقرير المنظّمة الحقوقية لا يتطرّق إلى العديد من المزاعم الإسرائيلية التي تمّ دحض محتواها عبر الكثير من التقارير لمؤسسات ووسائل إعلام إسرائيلية أو حتى غربية، والتي أكدت أنّ تلك المزاعم ملفّقة وغير صحيحة.
انحياز واضح
إلى جانب ذلك، استفاض التقرير في تعداد وشرح "مظلومية" ما تعرّض له الإسرائيليون في السابع من أكتوبر، من دون الإشارة إلى عشرات آلاف الشهداء والجرحى في قطاع غزة، أو حتى التطرّق إلى الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع وببنيته التحتية نتيجة العدوان الإسرائيلي.
أما في ما يخصّ الأسرى، فأظهر معدّو التقرير انحيازهم اللاإنساني عند الحديث عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، حيث أكدوا في أكثر من موضع في التقرير ضرورة الإفراج الفوري عنهم، ودعوا الدول التي لها علاقة بحماس والفصائل الفلسطينية مثل قطر وتركيا وإيران إلى ممارسة الضغوط على المقاومة الفلسطينية للإفراج عنهم.
في المقابل، لا يطلب معدّو التقرير الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين من الرجال والنساء والأطفال الذين يتعرضون للتعذيب والقتل والتجويع والإذلال في سجون الاحتلال، بل يقدّم التقرير تبريراً للاحتلال بتسميتهم (الذين تعتقلهم إسرائيل للاشتباه بعلاقتهم بهجمات 7 أكتوبر).
إلى جانب ذلك، يزعم تقرير المنظّمة أنّ المقاومين الفلسطينيين ارتكبوا أعمال تعذيب وسوء معاملة بحقّ الأفراد الذين أسروهم، على الرغم من أنّ الأسرى الإسرائيليين الذي أطلق سراحهم تحدّثوا عن المعاملة الحسنة التي تلقّوها من قبل المقاومين الفلسطينيين.
وفي السياق، لم يذكُر التقرير شيئاً عن أوضاع الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال، وكيف يكون وضعهم المأساوي عند الخروج من الأسر.
اتهامات من دون أدلة
يتهم التقرير أفراد المقاومة الفلسطينية بارتكاب حالات قتلٍ على نطاقٍ واسع للمستوطنين المدنيين في السابع من أكتوبر، تحت عنوانٍ عامّ، ويقدّم التقرير هذا العنوان على أنه حقيقة وبشكلٍ شامل، على الرغم من أنه يعترف في ختام التقرير بأنّ مدنيين إسرائيليين قُتلوا بنيرانٍ إسرائيلية.
والأمر لم يقتصر على ذلك، حيث وضع عنواناً فرعياً يتحدّث عن "عنفٍ جنسي" مزعوم جرى خلال اليوم نفسه، لكن التقرير في متنه يقرّ أيضاً بعدم تمكّنه من إثبات حالات اغتصاب أو عنفٍ جنسي. كما اعترفت المنظمة بأنها لم تتمكّن من جمع معلومات يمكن التحقّق منها في هذا الشأن بسبب عدم تعاون سلطات الاحتلال، من دون أن يكلّف معدّو التقرير أنفسهم عناء القول بكذب ادعاءات العنف الجنسي خلال السابع من أكتوبر لعدم التمكّن من إثبات أيّ منها.
وعلى الرغم من أنّه يخلو من أيّ دليل، إلا أنّ التقرير استند إلى افتراض عدم إمكانية التحقّق لإبقاء حالة الشكّ، وعدم نفي المزاعم بحقّ عناصر المقاومة، وهو ما يبيّن أنه يفتقر إلى المعايير العلمية في التشخيص، ويعتمد في منهجيته على الافتراضات والادعاءات التي تهدف بشكلٍ لا لبس فيه إلى تشويه صورة المقاومة في غزة والإساءة إلى سمعتها.
كما أنّ توقيت صدور التقرير يثير الكثير من الشبهات بشأن الغاية من إصداره، فهو يأتي بعد مضي فترة طويلة منذ 7 أكتوبر، ويتجاهل الكثير من الحقائق التي باتت ثابتة، لذا يبدو وكأنه مربك، وأُنجز على عجل، ومصمّم ليصدر في هذا التوقيت تزامناً مع محادثات وقف إطلاق النار في غزة.