كيف يمكن أن يوظّف العراق الأوراق الضاغطة في المنطقة لإخراج القوات الأميركية؟
لسنوات ساقت الإدارة الأميركية عدّة مبررات واهية لبقاء قواتها في العراق.. تطور ملحمة "طوفان الأقصى" سلط الضوء مجدداً على المهمة الأميركية في البلاد، فماذا عن أوراق الضغط التي قد يوظفها العراق في إطار مهمة إخراج هذه القوات؟
إشكالية جديدة بدأت تطفو على سطح النقاشات العراقية الداخلية، مفادها جدوى الوجود الأميركي في العراق، خاصةً بعدما اتضح أكثر فأكثر تهديده لأمن البلاد والمنطقة. فالمهمة الاستشارية والتدريبية التي كان من المفترض أن تكون منوطة بقوات التحالف تحوّلت إلى ضربات توجّه إلى فصائل المقاومة العراقية ومحور المقاومة. وهو ما يطرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن يوظّف العراق الأوراق الضاغطة في المنطقة لإخراج القوات الأميركية؟
الوجود الأميركي في العراق: أسبابه والمصالح الأميركية
في عام 2003، بدأ الاحتلال الأميركي للعراق بذرائع واهية، ونتيجة للمقاومة العسكرية والسياسية العراقية، اضطرت القوات الأميركية للانسحاب عام 2011. لتعاود مرة أخرى في عام 2014 لتكون في العراق بذريعة ما يسمى التحالف الدولي لمحاربة "داعش".
واستمر الحضور الأميركي بهذا الشكل إلى أن أعلن العراق رسمياً بحلول نهاية العام 2021، انتهاء المهمة "القتالية" لقوات التحالف وانسحابها من العراق، وتحوّلها إلى مهمة "استشارية".
اليوم عدد القوات الأميركية في العراق يقدّر بـ 2500 جندي، و900 آخرين في سوريا منتشرون في أماكن متفرقة، وخاصةً في بعض المنشآت العسكرية. وعلى الرغم من الفارق الكبير بين حجم الوجود الحالي للقوات الأميركية وبين ما كانت عليه في السابق، إلا أنّ الحفاظ على وجود دائم في العراق يمثّل أهمية كبيرة لواشنطن.
وبالطبع، فإنّ المصالح الأميركية التي تريد الولايات المتحدة الحفاظ عليها لا تتعلق بالحضور الأمني والعسكري فحسب، بل أيضاً بمصالح اقتصادية لها امتداد جيوسياسي يتعلق بموارد الطاقة وسلاسل الإمداد التي ستكون مهدّدة مع تصاعد التوترات، ولا سيما النفط.
لسنوات ساقت الإدارة الأميركية عدّة مبررات واهية لبقاء قواتها في العراق، إحداها خوفها من "عودة الإرهاب" إلى العراق مجدداً. إلا أنّ العراقيين يدركون أنَّ سنواتٍ من عمل التحالف الدولي لم تعطِ أي نتائج تذكر، إذ إن تحرير العراق كان بفضل أبناء الوطن من جيش وحشد شعبي وتنظيمات عسكرية محلية.
وعليه، فإنّ الأهداف المعلنة لأميركا أخفت في ثناياها خلفيات وأهدافاً أخرى، جزء كبير منها كان حماية أمن "إسرائيل"، ومحاولة تقسيم محور المقاومة الذي يمتد من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين "جغرافياً".
وفي هذا السياق، تقول شبكة "بي بي أس" الأميركية، إنّه رغم تصريحات المسؤولين الأميركيين عن دور القوات الأميركية في مكافحة "داعش"، إلا أنّ السبب الرئيسي لها هو التصدّي لإيران.
هذا الحضور الأميركي بات يشكّل تهديداً حقيقياً لأمن واستقرار العراق، والمنطقة بالعموم.
في بداية عام 2020، صادق البرلمان العراقي على قرار يلزم الحكومة بالعمل على إنهاء وجود أيّ قوات أجنبية على الأراضي العراقية. جاء ذلك بُعَيد اغتيال قاسم سليماني قائد قوات فيلق القدس في حرس الثورة الإيراني، وأبي مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي وآخرين، في غارة جوية أميركية على بعد أمتار من مطار بغداد الدولي.
وبالفعل، ترتيبات انتهاء مهمة التحالف الدولي، أُنجزت خلال زيارة قام بها وفد برئاسة وزير الدفاع العراقي إلى واشنطن في آب/أغسطس 2023، وأسفرت عن تشكيل لجنة ثنائية كان من المفترض أن تدرس انسحاب المستشارين الدوليين، إلا أن الأحداث المتصاعدة في المنطقة حالت دون استكمال الاجتماعات.
في السياق ذاته، يقول الأكاديمي والباحث السياسي العراقي عباس العرداوي في تصريحاتٍ للميادين نت، إنّ وجود القوات الأميركية شكّل تهديداً كبيراً أمنياً وسياسياً واجتماعياً، فهي تمارس عملية القتل المباشر للعراقيين، وتستهدف الأجهزة الأمنية، وتزعزع أمن واستقرار العملية السياسية، فمن ضغط على قوى سياسية بعينها للمشاركة من عدمها والتدخّل في الانتخابات والتحالفات ورسم السياسات إلى عمليات عسكرية استهدفت بها العراقيين بشكل مباشر.
وأشار العرداوي إلى أنّ هذه التهديدات تأتي فضلاً عن وجود سفارة لأميركا في العراق، قد تكون هي الأكبر في الشرق الأوسط والعالم، بمجمل موظفين يصل إلى 6 آلاف موظف، كذلك ارتباط واضح ومباشر للأميركيين بعمليات إرهابية وبتواصل مع جماعات إرهابية وبدعم لشخصيات شكّلت تهديداً للنظام السياسي العراقي، رغبةً منه بخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار ليستمر وجوده.
وبالنظر إلى قانونية التحالف الدولي، يقول العرداوي إنّ وجوده غير قانوني فهناك تشريعات قانونية صادرة عن البرلمان رفضت ذلك، كما أنّ الولايات المتحدة هيمنت عليه، وهو ما يخالف الطلب العراقي للأمم المتحدة حينها بأن يشكل التحالف من 60 دولة في العالم.
أبرز الأوراق الضاغطة في أيدي العراق لإجبار الولايات المتحدة على سحب قواتها
ترى فصائل المقاومة أنّ الخيار الوحيد لإخراج القوات الأميركية المحتلة من العراق يتمثّل بالعمل العسكري، بعدما فشلت الخيارات السّياسية التفاوضية، هذا الخيار كان واضحاً في الميدان، وتجلى بشكلٍ أكبر منذ اشتعال فتيل الحرب في قطاع غزة في أعقاب الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وما تلا ذلك من حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" بدعمٍ أميركي على القطاع، ما دفع المقاومة الإسلامية في العراق (تضمّ عدداً من الفصائل العراقية) في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي للإعلان أنّها جزءٌ من هذا الطوفان، نصرةً لغزّة، وفي الوقت عينه في خطوة نحو إنهاء الوجود الأميركي على أرضهم.
ومنذ ذلك الحين، تعرّضت القوات الأميركية في العراق وسوريا إلى أكثر من 130 هجوماً بالصواريخ والطائرات المسيّرة، بينها هجوم صاروخي تعرّضت له السفارة الأميركية في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، إضافةً إلى استهداف مواقع وجود القوات الأميركية في العراق وسوريا.
ضربات المقاومة أفضت إلى انسحاب القوات الأميركية من قاعدة "هيموس" العسكرية في مدينة القامشلي السورية، التي تعَدّ من القواعد الحيوية بالنسبة للقوات الأميركية، وهو ما يفتح الباب أمام انسحابات متتالية في حال استمر العمل الميداني العراقي المقاوم.
ورأى العرداوي خلال حديثه للميادين نت، أنّ "طوفان الأقصى" استنهضت كل همم المحور، فكانت هناك وحدة في الساحات استطاعت أن توجّه عمليات مهمة وضربات نوعية، وبدورها المقاومة العراقية استهدفت القوات الأميركية في الداخل العراقي، وفي الخارج في سوريا وداخل فلسطين المحتلة، لأهميتها في مساندة المقاومة الفلسطينية والضغط على الأميركي لمغادرة العراق.
وأضاف أنّ أميركا تتشبّث للبقاء في العراق تحت عناوين "مستشارين"، لكن من خلال العمليات الأخيرة التي قامت بها القوات الأميركية من قتل للعراقيين، فهنا تعزّز دور المقاومة العراقية لتحقيق ضربات أساسية ومهمة، وانتقلت من العمليات الكلاسيكية إلى عمليات متطورة استخدمت فيها المسيّرات والصواريخ بعيدة المدى، والتي خلقت جيلاً جديداً من المواجهة.
تطور ملحمة "طوفان الأقصى"، سلط الضوء مجدداً على المهمة الأميركية خاصة بعد أن تخطت واشنطن الخطوط الحمر عبر استهداف مقر للحشد الشعبي في بغداد في 4 كانون الثاني/يناير الحالي، وأسفر عن ارتقاء شهيدين أحدهما معاون قائد عمليات حزام بغداد في الحشد.
بتخطّيها للمهمة الاستشارية المنوطة بها ولسيادة العراق واستهدافها لفصائل المقاومة، صعّدت من مواقف العراق الرسمية والسياسية والشعبية المناهضة لتواجد التحالف الدولي والقوات الأميركية في البلاد، والتي طالبت بضرورة انسحاب القوات الأميركية. إذ قال الناطق باسم القوات المسلحة، اللواء يحيى رسول، في وصف نادر، إنّ الهجوم "اعتداء مماثل للأعمال الإرهابية".
وتعززت المطالب بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، بتجديد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، دعوته لرحيل التحالف الدولي من العراق، معتبراً أنّ انتهاء مهمة هذه القوات الأجنبية "ضرورة لأمن واستقرار البلاد".
وقبل أيام قال الناطق العسكري باسم كتائب حزب الله العراق، السيّد جعفر الحسيني في مقابلة مع الميادين، إنّ "المعركة مفتوحة، وفيها احتمالات كبيرة، وكل الأهداف الأميركية والإسرائيلية وحتى الموجودة في غرب آسيا والخليج، هدف للمقاومة الإسلامية في العراق".
وعن اليمن، أكّد الحسيني أنّ "أيّ اعتداء عليه سيضع كل الحسابات والاعتبارات جانباً، وستكون جميع الخيارات مفتوحة أمامنا، وستكون هناك ردود من المقاومة الإسلامية في العراق".
أمام هذا الضغط الذي تواجهه الولايات المتحدة من محور المقاومة على الجبهات كافة، وخاصة الجبهة اليمنية في البحر الأحمر، واستهداف السفن الإسرائيلية وتلك المتجهة إلى موانئ الاحتلال دعماً لغزة، وصولاً إلى استهداف سفنها رداً على العدوان الأميركي على اليمن، بات الأميركي يعيش وضعاً حرجاً جداً في ظل فشله في مواجهة روسيا في الميدان الأوكراني، وعجز الهجوم الأوكراني المضاد عن تحقيق أي نتائج تذكر.
وعليه، تتزايد الأصوات الأميركية اليوم الداعية إلى تجنّب الولايات المتحدة التورّط في صراعات خارجية مع تأكيد عدم جدوى بقاء القواعد والقوات الأميركية وضرورة انسحابها من العراق وسوريا. ورأت مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية أنّ ادّعاء المتحدّثة باسم "مجلس الأمن القومي" أدريان واتسون أنّ "الرئيس لا يضع أولوية أعلى من حماية الجنود الأميركيين" هو هراء واضح، لأنّهم لا يزالون يتعرّضون للإصابة في العراق وسوريا من دون أهداف استراتيجية واضحة.
شبكة "سي أن أن" الأميركية أشارت في أحد تقاريرها إلى أنّ الاحتمال المتزايد للخسائر في صفوف الجنود الأميركيين، وتدهور الوضع الأمني من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر والعراق وسوريا ولبنان و"إسرائيل"، يُمثّل أزمةً خارجية جديدة غير مُرحّب بها، ولا سيما في موضوع إعادة انتخاب الرئيس الأميركي، جو بايدن.
ومن شأن هذه التحديات الأميركية أنّ تنعكس بشكل لافت على مجرى الانتخابات الأميركية، فالموقف الداعم للعدوان الإسرائيلي على غزة والضربات الجوية على اليمن، كانت بمثابة مسمار آخر في نعش الرئيس الأميركي، جو بايدن، خصوصاً من ناحية الناخبين المسلمين في الانتخابات المقبلة أواخر العام الجاري، تقول مجلة نيوز ويك الأميركية، وهو ما قد يدفع بايدن إلى اتخاذ قرارات حاسمة ولافتة في إطار إدارته لملفات المنطقة، للتخفيف من حجم التحديات والضغط الشعبي عليه.