غونزاليس يفر إلى إسبانيا.. انفراط عقد الانقلاب في فنزويلا
ما هي مؤشرات لجوء مرشّح المعارضة اليمينية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فنزويلا إدموندو غونزاليس إلى إسبانيا بعد شهر أمضاه متخفّياً في بلده، الذي يشهد أزمة سياسية اختلقتها المعارضة بعد فوز الرئيس نيكولاس مادورو؟
أعلن وزير الخارجية الفنزويلي، إيفان جيل، مساء السبت الماضي، أن مرشّح المعارضة اليمينية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إدموندو غونزاليس، طلب اللجوء السياسي من حكومة إسبانيا وغادر البلاد أخيراً، بعدما لجأ طوعيّاً إلى السفارة الإسبانية في كاراكاس لعدة أيام، بسبب صدور أمر قضائي بإلقاء القبض عليه لمحاكمته باتهامات عديدة ارتكبها خلال الفترة التي تلت إعلان "الهيئة الوطنية للانتخابات" في فنزويلا لنتائج الانتخابات، التي حصل مادورو فيها على نسبة 51.9% من أصوات الناخبين، مقابل 43.1% لصالح غونزاليس، ليستمر مادورو وحزبه لفترة رئاسية ثالثة.
تغيُّب عن حضور الاستجوابات ومذكرة الاعتقال
بدأت قصة مذكرة الاعتقال بحق غونزاليس عندما قررت "الوزارة العامة" الفنزويلية، في 6 آب/أغسطس الماضي، فتح تحقيق جنائي معه ومع ماريا ماتشادو، زعيمة المعارضة، بسبب نشر بيانات مزوّرة والتآمر والتحريض على العصيان والفوضى في البلاد. كان ذلك نتيجة مباشرة لنشر موقع إلكتروني تابع للمعارضة سلسلة من السجلات المزورة لنتائج الانتخابات الرئاسية، تفيد حصول غونزاليس على نسبة 73% من الأصوات وفوزه بالانتخابات على منافسه الرئيس نيكولاس مادورو.
وكانت ماتشادو، زعيمة المعارضة، قد أعلنت فوز غونزاليس بالانتخابات الرئاسية، في 29 تموز/يوليو الماضي، بعد إعلان "الهيئة الوطنية للانتخابات" فوز مادورو بموجب النتائج الأوّلية المنشورة باكر اليوم نفسه. وخرجت تظاهرات للمعارضة في أنحاء مختلفة من البلاد، أشاعت مجموعات من المرتزق خلالها عدداً كبيراً من أحداث العنف راح ضحيتها أكثر من 25 فرداً، إلى جانب نحو 200 جريح وما يزيد عن 1200 فرداً ألقت قوّات الأمن القبض عليهم. وعلى مدار الفترة التي تلت ذلك اليوم، شهدت البلاد أحداث عنف متفرقة، ومعركة دبلوماسية وإعلامية مع الولايات المتحدة وحلفائها، إلى جانب الهجمات السيبرانية الضخمة المستمرة حتى الآن بهدف تعطيل الحياة في البلاد ودفع عجلة الاقتصاد إلى التقهقر.
وفي الثاني من أيلول/سبتمبر الجاري، طلبت "النيابة العامة" الفنزويلية من "المحكمة الخاصة بالدرجة الأولى" إصدار "مذكرة اعتقال" بحق غونزاليس، بعد أن استدعته ثلاث مرّات – الحد الأقصى في القانون – دون حضوره في أي مرة منذ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية. وحسب الوثيقة التي نشرها مكتب المدعي العام، طارق صعب، يواجه غونزاليس اتهامات "انتحال الوظائف المنصوص والمعاقب عليها في المادة 213 من قانون العقوبات، وتزوير وثيقة عامة (المادة 319) والتحريض على عصيان القانون (المادة 283) والتآمر (المادة 132)"، إضافة إلى تُهمتيّ "تخريب النظم المنصوص والمعاقب عليها في المادة 7 من قانون الجرائم المعلوماتية، والتآمر المنصوص والمعاقب عليها في المادة 37 من قانون الجريمة المنظمة وتمويل الإرهاب".
ومُباشرة في اليوم نفسه استجابت المحكمة المتخصصة في جرائم الإرهاب لطلب "النيابة العامة"، وأصدرت بياناً جاء فيه أن "المحكمة قررت، بناءً على حكمها في هذا التاريخ ووفقاً للأحكام المنصوص عليها في المواد رقم 236 و237 و238 من قانون الإجراءات الجنائية، الموافقة على أمر بالقبض على المواطن إدموندو غونزاليس أوروتيا". ووجَّهت المحكمة إلى الأخير نفس الاتهامات التي جاءت في الوثيقة التي نشرها المدعي العام الفنزويلي، وقررت إصدار أمر بالقبض عليه، ونصَّ بيانها على أنه "بمجرد القبض على المواطن المذكور، يجب تسليمه فوراً إلى النيابة العامة، التي بدورها يجب أن تقدمه إلى الهيئة القضائية خلال 48 ساعة من القبض عليه، بعد إشعار النيابة العامة، وذلك من أجل عقد جلسة استماع شفهية بحضور الأطراف وللبت في الأمر، وفقاً لأحكام الفقرة الثانية من المادة 236 المذكورة أعلاه".
وبينما أصدرت البرازيل وكولومبيا بياناً مشتركاً يصف الأمر القضائي بأنه "مقلق" ويمثِّل "عائقاً أمام حلٍ سلمي قائم على الحوار" بين القوى السياسية الفنزويلية للخروج من هذه الأزمة، صرَّحَت ماتشادو بأن أمر اعتقال غونزاليس "لن يؤدي إلا إلى زيادة وحدة المعارضة والدعم العالمي"، وفتحت السفارة الأرجنتينية في كاراكاس أبوبها للجوء العديد من زعماء المعارضة. وردَّت فنزويلا بإلغاء تصريحها الذي يسمح للبرازيل بتمثيل مصالح الأرجنتين على أراضيها، بعد زعم الحكومة الفنزويلية أن السفارة الأرجنتينية بكراكاس استُخدِمَت كموقع للتخطيط لهجمات إرهابية ومحاولات اغتيال مادورو. وفي المقابل، أصدرت الحكومة الأرجنتينية بياناً شكرت فيه البرازيل على تعاونها، وطالبت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة توقيف ضد مادورو بتُهَم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وخلال اختباء غونزاليس في السفارة الإسبانية بكراكاس، عقد مُحاميه، خوسيه فيسينتي، يوم الأربعاء الماضي، اجتماعاً مع المدعي العام الفنزويلي، وقدَّم إفادة خطّية من غونزاليس يبرر فيها عدم امتثاله للاستدعاءات بحجة "تجنُّب أن تحتدّ التوترات الاجتماعية"، وزعم أنه ليس مسؤولاً عن الموقع الإلكتروني الذي نشرت من خلاله المعارضة نتائجها المزيفة. وبينما لم يَرُد غونزاليس بشكل مباشر على أمر الاعتقال حتى الآن، أكَّد فيسينتي أن موكله "مُختبئ ولن يطلب اللجوء"، وهو ما لم يتحقق مع سفر غونزاليس أخيراً إلى إسبانيا. وفي المقابل، صرَّح مسؤولون فنزويليون أن الحكومة سمحت لغونزاليس أن يسافر من أجل "الحفاظ على السلام والهدوء داخل البلاد".
فشل الانقلاب.. سيناريو مكرر؟
إنّ سفر غونزاليس إلى إسبانيا مؤشر على انفراط عقد الانقلاب في فنزويلا، إذ كان الأخير المُرشِّح البديل للمعارضة اليمينية والواجهة السياسية لزعيمتها الممنوعة من خوض الانتخابات الرئاسية، ومع ذلك لا تنوي المعارضة تمرير الأحداث الجارية بسلام. لنتذكر أن ماتشادو، زعيمة المعارضة، صرَّحت أكثر من مرة خلال فترة الدعاية الانتخابية ويوم الاستحقاق أن "المعارضة الفنزويلية لن تعترف بالهزيمة في الانتخابات". هذا، بالإضافة إلى الأحداث التي تلت إعلان نتائج الانتخابات، يُرجِّح أن تخوض المعارضة الفنزويلية جولة جديدة من الاحتجاجات والعنف في شهر يناير المقبل، مباشرة بعد تنصيب مادورو رئيساً لولاية ثالثة.
ومن الجدير ذكره هنا، أن هذا السيناريو تكرر من قبل بين عاميّ 2018 و2019 خلال الانقلاب الذي شنَّته المعارضة بقيادة خوان غوايدو على مادورو، بعد إعلان فوز الأخير في الانتخابات الرئاسية آنذاك، والتي لم تشارك فيها المعارضة اليمينية. كان هذا الانقلاب يجري في مسارين. داخلياً، يقود مرتزقة المعارضة اليمينية المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها صفوف المتظاهرين، ويشيعوا الفوضى والعنف في أنحاء البلاد حتى تنصيب مادورو رئيساً لولاية ثانية في شهر يناير عام 2019.
وخارجياً، نصَّبَت المعارضة اليمينية غوايدو رئيساً لـ "حكومة موقتة" اعترفت بها واشنطن وحلفاؤها، في اليوم ذاته الذي نُصِّب فيه مادورو رئيساً لولاية ثانية. كان مصير هذا الانقلاب أن يبوء بالفشل وأن يُنفى قادته إلى خارج البلاد. ولكن على أي حال، جرت محاولة لاغتيال مادورو بواسطة طائرتان مُسيَّرتان بعد تنصيبه رئيساً بعدة أشهر، وتبع ذلك ثلاث مؤامرات في أعوام 2021 و2022 و2023 دخلت خلالها مجموعات من المرتزقة المسلّحين – بعضهم عسكريون أميركيون سابقون – إلى أراضي البلاد عبر الحدود من أجل إشاعة الفوضى في البلاد واغتيال مادورو، ولكنها فشلت أيضاً هي الأخرى.
ليس من الصعب التنبؤ بأن سيناريو غوايدو يمكن أن يُعاد تكراره مرّة أخرى. وبصرف النظر عن كبر حجم التأييد الدولي الذي حاذه غوايدو خلال محاولة انقلابه على نتائج الانتخابات الرئاسية، فإنه من المرجَّح أن تعلن المعارضة الفنزويلية في يوم تنصيب مادورو رئيساً لولاية ثالثة إقامة "حكومة موقتة" على شاكلة حكومة غوايدو، وأن تلاقي هذه الحكومة تأييداً دولياً قد لا يغيِّر كثيراً من المعادلة. حتى الآن، اعترف وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بأن غونزاليس هو الفائز الشرعي في الانتخابات، وسارت على مساره حكومات دول أخرى تشمل الأرجنتين والإكوادور والبيرو وأوروجواي.
وإن كان من المُقدَّر لهذا السيناريو أن يتكرر حقاً، فمن الواضح أن مساره الفشل في النهاية أيضاً، خاصة وأن جميع المؤشرات تدل على ضعف موقف غونزاليس الآن بكثير عن موقف نظيره غوايدو في الماضي. ومع ذلك، المعارضة الفنزويلية ليست هيِّنة، وناهيك عن الدعم والتدريب والتمويل الذي تتلقاه المعارضة الفنزويلية من الولايات المتحدة وحلفائها، فإن لديها علاقات وثيقة الصلة في محيط فنزويلا الإقليمي، وهو ما لا يترك مجالاً للشك في أن قياداتها سيخططون بالفعل إلى اغتيال مادورو، سواء عن طريق عناصر داخلية، أو باستقدام مرتزقة أجانب يدخلون البلاد عبر الحدود.