تغيير حكومي منتظر عشية الاستحقاق الرئاسي في تونس.. والأولوية للاقتصاد
حكومة تونسية جديدة في الأفق، وعهد رئاسي توحي المؤشرات بأنه مضمون، ويتطلب المرور من مرحلة تطهير البلاد من مظاهر الفوضى والترهل وسيطرة اللوبيات إلى مرحلة الإنجاز.
مع اقتراب نهاية عهد الرئيس التونسي قيس سعيد الرئاسي ومرور 3 سنوات على إجراءات الخامس والعشرين من جويلية (تموز/يوليو)، والتي تزامنت مع تعيين ثالث رئيس حكومة بعد نجلاء بودن وأحمد الحشاني، كثرت التقييمات الاقتصادية للولاية الأولى للرئيس التونسي.
وعلى الرغم من وضوح الأرقام، فإنَّ تأويلها يختلف بين مؤيد ومعارض للنظام السياسي القائم؛ بين من يرى أنها أرقام يدعمها الوضع المعيشي للتونسيين، حيث غلاء المعيشة وانتشار البطالة، ومن يعتبر أن الرئيس التونسي نجح في منع الانهيار الاقتصادي ورفض شروط صندوق النقد الدولي، وهذا بحد ذاته إنجاز هام.
تقول الأرقام إنّ الوضع الاقتصادي التونسي يرواح مكانه، فنسبة النمو للربع الأول من سنة 2024 لم تتجاوز 0.2%، في مقابل حجم اقتراض داخلي وخارجي لم يتراجع؛ ففي الوقت الذي رفضت تونس شروط صندوق النقد الدولي، يواصل البرلمان المصادقة على قروض خارجية من جهات مختلفة بنسب فائدة عالية قدّرها البعض بأكثر من 20 قرضاً خلال الأشهر الأخيرة.
أما الاقتراض الداخلي من المصارف المحلية، فهو في تزايد أيضاً، ووصل إلى نحو 4 مليارات دولار السنة الماضية، وهو رقم يراه الخبراء خطيراً على التوازنات الاقتصادية، باعتبار أن إقراض البنوك للدولة يعود بالسلب على تمويلها للاقتصاد وللمشاريع.
تحويلات المغتربين وعائدات السياحة أنقذت الاقتصاد
حتى بعض الأرقام الإيجابية لا يعتبرها الخبراء إنجازاً مباشراً يحسب للحكومتين السابقتين (بودن والحشاني)، فتحويلات المغتربين اقتربت من 3 مليارات دولار السنة الماضية، فيما سجلت بيانات النصف الأول من هذا العام ارتفاعاً في قيمة هذه التحويلات بنحو 4%. وقد ساهمت هذه الأموال في المحافظة على احتياطي طبيعي من العملات الأجنبية أنقذ تونس من مزيد من الصعوبات. ويقدر عدد التونسيين في الخارج بأكثر من مليون و800 ألف، أي ما يمثل 15% من مجموع السكان، وأغلبهم في أوروبا.
الأمر ذاته ينسحب على القطاع السياحي الذي ينتظر أن تكون مداخيله مستقرة.
أرقام إيجابية يراها المختصون مهمة، ولكن لا يمكن تصنيفها ضمن الإنجازات أو الجهود الحكومية المباشرة، لأن تحويلات التونسيين والسياحة هي مصادر ثابتة للعملة الصعبة تتطور وتتقلص نتيجة ظروف أغلبها خارجي، فالحكومة مطالبة في المقام الأول بالبحث عن استثمارات جديدة وإنجاز إصلاحات تهم بقية القطاعات الحيوية، كالتصدير والمشاريع المنتجة وتحقيق نسب نمو قادرة على امتصاص البطالة، حتى القطاع الاستراتيجي الأهم في البلاد، وهو الفوسفات، لم تنجح الحكومة في إنقاذه، ولا يزال مردوده التصديري ضعيفاً نتيجة عدة عوامل لم تنجح الحكومة في تجاوزها.
هذا الواقع الاقتصادي أنتج ظروفاً اجتماعية صعبة للتونسيين لا يمكن إنكارها، فنسبة البطالة لم تنخفض، وما زال غلاء المعيشة الهاجس الأول للمواطنين، رغم تراجع نسبة التضخم، بعدما وصلت إلى رقمين، واستقرارها اليوم في حدود 7%، لكن التونسيين يقولون إن الغلاء ينخر جيوبهم، ولم يشعروا بالتأثير الإيجابي لهذه الأرقام.
وجهة نظر مؤيدي الرئيس
في مقابل ذلك، يرى المنخرطون في مشروع الرئيس أن "الشعوب لا تتقدم إلا بالصبر وتحدي الصعوبات، فالأزمة الاقتصادية هي أزمة عالمية، وتونس تدفع ضريبة مواقفها الجديدة الرافضة للهيمنة الغربية، وفي مقدمتها صندوق النقد"، وهم يرون أيضاً أن "حرب التحرير الوطني"، كما سماها الرئيس قيس سعيد، تتطلب الجلد والتضحية.
ما يحسب من منجزات حتى الآن، بحسب هؤلاء، هو الحرب التي تشنها الدولة على الفساد وإيقاف نزيف الفوضى السياسية واستفادة اللوبيات وتغلغلهم وإعادة هيبة الدولة وقوتها وإيقاف الإضرابات، فلا يمكن تحقيق أي بناء إلا على قواعد صلبة، وهو ما يقوم به الرئيس التونسي اليوم.
تغيير وزاري منتظر: هل تكون حكومة النهوض؟
بشكل مفاجئ إذاً أقال الرئيس قيس سعيد رئيس الحكومة أحمد الحشاني الذي عُين قبل عام، ونصّب مكانه كمال المدوري. وكان محور أول لقاء بين الرئيس ورئيس الحكومة الجديد القيام بتغيير وزاري، بما يعني أن دماء جديدة ستضخ في الحكومة، والمنطق يفترض أنه ستكون هناك أولويات جديدة في مرحلة جديدة من المشهد التونسي.
هذه التغييرات تأتي ضمن مرحلة هامة، لأنها تتزامن مع انتخابات رئاسية يبدو سعيّد في طريق مفتوح للفوز بها، وهو ما يعني 5 سنوات أخرى من التحديات ومن البحث عن الحلول، وخصوصاً الاقتصادية والاجتماعية.
من الواضح أن تعيين رئيس جديد للحكومة يأتي استعداداً لهذه المرحلة الجديدة؛ مرحلة تتطلب حلولاً واقعية للمشكلات الظاهرة للعيان، فما الذي تحتاجه تونس للانطلاق في مرحلة جديدة؟
يحتاج الاقتصاد التونسي بشكل عاجل إلى إنعاش. ولعل ذلك يمر وجوباً عبر ضخ تمويلات خارجية واستثمارات كبيرة. لا بوادر على أن أبواب هذه التمويلات مفتوحة، فما عدا بعض التمويلات الأوروبية والخليجية التي لا تفي بالحاجة، لم تعبر أي جهة عن استعدادها لمساعدة تونس على شكل تمويلات مباشرة أو استثمارات، ولكن ماذا عن التقارب التونسي مع الصين وروسيا؟
أضحت هناك قناعة في تونس بضرورة تنويع الشراكات الاقتصادية في أكثر من اتجاه، بل إن من بين أسباب مرض الاقتصاد التونسي، بحسب خبراء، بقاءه لعقود تحت المظلة الغربية. وفي هذا الإطار جاء التوجه التونسي شرقاً نحو روسيا والصين، ولا يخفى على أحد أهمية الصين الاقتصادية، وخصوصاً لجهة الاستثمارات وخلق دينامية اقتصادية. أما روسيا، فقد قامت بمبادرات لجهة ضمان حصة تونس من الحبوب، بل تم الاتفاق على آليات لزيادة الصادرات التونسية.
كرّر الرئيس التونسي أكثر من مرة حديثه عن أن العالم بصدد الانتقال إلى نظام جديد متعدد الأقطاب، وهو ما يعني أنه يضع التقارب مع هذه القوى الجديدة على سلم أولوياته. وقد تشهد المرحلة الجديدة ما بعد الانتخابات تطوراً على مستوى علاقة تونس بهذه الأقطاب الجديدة، بما فيها دول أميركا الجنوبية، وربما إيران وغيرها. ولعل الرئيس التونسي، ومعه الحكومة ورئيسها الجديد، مدعوون أكثر من أي وقت مضى لتحويل هذه النظريات بخصوص تنويع العلاقات الدولية إلى استراتيجية تؤتي أكلها بشكل ملموس عبر استثمارات جديدة وعلاقات أكثر صلابة.
حكومة جديدة في الأفق وعهد رئاسي توحي المؤشرات بأنه مضمون، ويتطلب المرور من مرحلة تطهير البلاد من مظاهر الفوضى والترهل وسيطرة اللوبيات إلى مرحلة الإنجاز، وهو اختبار جدي لمشروع قيس سعيد، وخصوصاً بعدما بات حال البرود في العلاقة مع المعسكر الغربي جلياً، إذ لم يتردد مسؤولون أوروبيون كبار في التعبير عن قلقهم من التقارب التونسي مع الصين وروسيا وإيران، وهو تطور يمثل تحدياً آخر للرئيس التونسي، وخصوصاً أن الاقتصاد التونسي مرتبط هيكلياً بأوروبا، وهو ما يجعل إحداث تغييرات هيكلية وشاملة عليه عملية صعبة وتتطلب إعداد البدائل والتجهز لأي تضييق أوروبي غربي.