النيجر آخر حروب أميركا الفاشلة على "الإرهاب" غرب أفريقيا

بعد عقدين من الزمن، يثبت عدم نجاح مشاريع وشراكات أميركا العسكرية الهادفة (علنياً) إلى "الحد من تزايد الإرهاب بمنطقة الساحل الأفريقي"، باعتراف البنتاغون ذاته.

  • النيجر آخر حروب أميركا الفاشلة على
    النيجر آخر حروب أميركا الفاشلة على "الإرهاب" غرب أفريقيا

خلال أكثر من 20 عاماً، انقلبت الحروب الدموية والتدخّلات المسلّحة، التي روّجت لها الولايات المتحدة كمهام عسكرية في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، والصومال، وليبيا، بذريعة "الحرب العالمية على الإرهاب"، انقلبت إلى سلسلة من المآزق والنكسات، التي بدأ مسارها، بانسحابها المذل من العراق ثم من أفغانستان، ومؤخراً في القارة السمراء وتحديداً النيجر، ذلك البلد الذي يعدّ المعقل الأخير للنفوذ العسكري الأميركي في منطقة الساحل في غرب أفريقيا.

في 17 آذار/مارس الماضي، قرّر المجلس العسكري الحاكم في النيجر، إلغاء الشراكة واتفاق التعاون العسكري المبرم في 2012 مع الولايات المتحدة بمفعول رجعي، معتبراً أن الاتفاقية الأمنية القديمة تنتهك دستور النيجر.

تزامن هذا القرار مع تصاعد الإرهاب في منطقة الساحل في غرب أفريقيا، وفي أعقاب زيارة قام بها وفد أميركي رفيع المستوى إلى النيجر، ضم مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مولي في، والجنرال مايكل لانغلي قائد القيادة الأميركية في أفريقيا،(أفريكوم).

النتائج الكارثية للحرب الأميركية على "الإرهاب"

استغلت واشنطن هجوم 11 أيلول/سبتمبر 2001، لتطلق العنان لآلتها الحربية في مختلف مناطق العالم، وتوسّع نشاطها العسكري ليشمل نحو 78 دولة.

حروب أميركا (الخشنة منها والناعمة) تسبّبت بمقتل ما لا يقل عن 4.5 ملايين إنسان، منهم ما يقدّر بنحو 940 ألف شخص ذهبوا ضحية الاقتتال الداخلي المباشر في بلدانهم، وغالبيتهم من المدنيين، وفقاً لمشروع تكاليف الحرب التابع لجامعة براون. كما أدت إلى نزوح ما يصل إلى 60 مليون شخص.

كما بلغت تكلفة حروب ما بعد 11 سبتمبر في كلّ من العراق وأفغانستان وباكستان وسوريا وأماكن أخرى نحو 8 تريليونات دولار، وهذا لا يشمل تكاليف الفائدة المستقبلية على الاقتراض من أجل الحروب. والأرقام دائماً على ذمة جامعة بروان. 

ليس هذا فحسب، فقد ساهمت هذه الحروب في تغيّر المناخ بشكل كبير، إذ تعدّ الولايات المتحدة واحدة من أكبر الدول المسبّبة لانبعاثات الغازات الدفيئة في العالم. كذلك صاحب الحروبَ التضييقُ على الحريات المدنية وحقوق الإنسان، داخل أميركا وخارجها خصوصاً في مناطق نفوذها. 

صحيح، أن الرئيس الأميركي جو بايدن ادّعى أنه أنهى تلك الحروب، غير أن الولايات المتحدة تواصل خوضها على الأرض، بحجة "حماية شعب ومصالح الولايات المتحدة". أما خسائرها وتداعياتها، فقد ألحقت دماراً وكوارث أمنية واجتماعية، في كل منطقة طالتها، ولا سيما في منطقة الساحل الأفريقي.

الدور الأميركي تاريخياً في الانقلابات غرب أفريقيا

قبيل زيارته الأخيرة إلى النيجر، مثُل الجنرال لانغلي من أفريكوم، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي لتوبيخ شركاء واشنطن القدامى في غرب أفريقيا، متهماً جيوشهم، بتوجيه أسلحتهم ضد حكوماتهم المنتخبة في كل من: بوركينا فاسو وغينيا ومالي والنيجر.

لكنّ لانغلي لم يذكر أن ما لا يقل عن 15 ضابطاً من جيش بلاده، شاركوا في 12 انقلاباً في غرب أفريقيا، ومنطقة الساحل الكبرى خلال ما يسمّى "الحرب على الإرهاب"، والمفارقة أن هذه الانقلابات وقع معظمها في الدول ذاتها التي ذكرها وهي: بوركينا فاسو (2014، 2015، ومرتين في عام 2022)، غينيا (2021)؛ مالي (2012، 2020، و2021)، والنيجر (2023). 

كما أن ما لا يقل عن خمسة من القادة الذين استلموا السلطة بعد تموز/يوليو 2023 في النيجر، كانوا تلقّوا تدريبهم العسكري على أيدي الجيش الأميركي (ثم انقلبوا على واشنطن لاحقاً)، وفقاً لمسؤول أميركي نقلاً عن صحيفة The Intercept، ومن أبرز هؤلاء العميد موسى سلاو برمو، الذي ترّأس القوات الخاصة في النيجر ويشغل الآن منصب رئيس الدفاع، وكان قد التحق بجامعة الدفاع الوطني في أميركا وتدرّب في "فورت بينينغ" سابقاً "فورت مور حالياً" وهو موقع للجيش الأميركي بجورجيا.

الوجود الأميركي في النيجر

نشرت واشنطن ما يقرب من 1000 عسكري أميركي ومتعاقد مدني في النيجر، معظمهم يقيم بالقرب من بلدة أغاديز في القاعدة الجوية 201 على الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى. 

كانت هذه البؤرة الاستيطانية المعروفة لدى السكان المحليين باسم "القاعدة الأميركية"، حجر الزاوية في أرخبيل من القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في المنطقة، وهي المفتاح الأساسي لاستعراض القوة العسكرية الأميركية، ولها وظيفة أخرى تتمثّل بالمراقبة والتجسس على منطقة شمال وغرب أفريقيا برمّتها.

من هنا، ركّزت الولايات المتحدة على النيجر وجيرانها، وأنفقت منذ عام 2010، ما يقرب من ربع مليار دولار في هذا البلد وحده، كما ضخّت العديد من المساعدات العسكرية إلى دول غرب أفريقيا من خلال برنامج "التعاون الأمني"، المصمّم "لمكافحة التطرّف العنيف" في المنطقة، وقد شملت هذه الشراكة التدريب ومساعدة الجيوش المحلية، وكلّفت أكثر من مليار دولار.

الفشل الأميركي في النيجر وغرب أفريقيا

كعادتها، تتعمّد أميركا تحريف الوقائع وتضليل الرأي العام فيما يتعلّق بمسؤوليتها عن السقوط الأمني ​​في منطقة الساحل، على الرغم من الأحلاف والجهود العسكرية، والمبالغ المالية الكبيرة التي أنفقتها هناك، بزعم محاربة الإرهاب الذي استمرت نسبه بالارتفاع وليس الهبوط.

 لذا، فإن نقطة البداية كانت الإطاحة بالزعيم الليبي الأسبق معمر القذافي، وما تبعها من تحوّل ليبيا لدولة فاشلة. بعدها كرّت السُبحة، وابتليت دول منطقة الساحل في غرب أفريقيا بالجماعات الإرهابية التي تطورت وانقسمت وأعادت تشكيل نفسها.

وتحت الرايات السوداء التي ترفعها تنظيمات إرهابية (بمسميات مختلفة)، يجوب حالياً رجال على دراجات نارية مسلحين ببنادق كلاشينكوف، القرى بانتظام لفرض الزكاة وترويع وقتل المدنيين. والأسوأ أن هذه الهجمات المتواصلة التي تشنها مثل هذه الجماعات المسلحة، لم تؤدِ إلى زعزعة استقرار بوركينا فاسو ومالي والنيجر فحسب، مما أدى إلى وقوع انقلابات ورافقها عدم استقرار سياسي، ولكنها امتدت جنوباً إلى البلدان الواقعة على طول خليج غينيا.

ويغض المسؤولون الأميركيون الطرف دائماً عن المجازر التي ترتكبها الجماعات الإرهابية في أفريقيا. فعندما سُئل عن تطوّر الوضع في النيجر، أصرّ المتحدث باسم وزارة الخارجية فيدانت باتيل مؤخراً على أن الشراكات الأمنية في غرب أفريقيا، "تعود بالنفع المتبادل وتهدف إلى تحقيق ما نعتقد أنها أهداف مشتركة تتمثّل في كشف العنف الإرهابي وردعه والحد منه".

الشراكات الأمنية في الساحل الأفريقي وتصاعد الإرهاب

بعد عقدين من الزمن، يثبت عدم نجاح مشاريع وشراكات أميركا العسكرية الهادفة (علنياً) إلى "الحد من تزايد الإرهاب بمنطقة الساحل الأفريقي"، باعتراف البنتاغون ذاته. أكثر من ذلك، ومع أن قوة الوحدات الأميركية في النيجر ارتفعت بنسبة تزيد على 900% في العقد الماضي، بعد قيام قوات الكوماندوز الأميركية بتدريب نظرائهم المحليين، على القتال، إضافة الى تدفّق مئات الملايين من الدولارات إلى بوركينا فاسو على شكل منح تدريب لجيشها، ومدّها بالمعدات مثل: ناقلات جنود مدرعة، ودروع واقية للبدن، ومدافع رشاشة، ومعدات للاتصالات، وأخرى للرؤية الليلية، وآلاف البنادق، إلى جانب إرسال المساعدات الأمنية الأميركية المماثلة إلى مالي، فضلاً عن تلقّي ضباطها العسكريين تدريبات من الولايات المتحدة، غير أن العنف الإرهابي في منطقة الساحل لم يتراجع بأي حال من الأحوال.

من هنا، وبين عامي 2002 و2003، واستناداً لإحصائيات وزارة الخارجية الأميركية، تسبّب الإرهابيون، بسقوط 23 ضحية في كل أفريقيا. لكن الصدمة، أن الهجمات التي شنها إرهابيون (من تنظيم داعش وغيره) في منطقة الساحل أسفرت وحدها العام الماضي، عن مقتل 11643 شخصاً، بزيادة تتجاوز 50 ألفاً%. وعلى المنوال ذاته تصاعدت أعمال العنف، في توغو بنسبة 633%، وبنين 718%، بحسب إحصاءات البنتاغون.

واشنطن والانسحاب من النيجر

ما يثير الريبة أنه حتى الآن، لا تظهر واشنطن، أي علامات على الاستجابة لرغبات قادة النيجر، إذ ترفض الانسحاب منها. ولهذا قالت نائبة السكرتير الصحافي للبنتاغون سابرينا سينغ: "نحن على علم ببيان 16 مارس... الذي أعلن إنهاء اتفاق وضع القوات بين النيجر والولايات المتحدة". وأضافت: "نحن نعمل عبر القنوات الدبلوماسية للحصول على توضيحات... ليس لدي إطار زمني لأي انسحاب للقوات". 

في المحصّلة، هذا الإصرار الأميركي على البقاء في النيجر بشكل مخالف للقوانين والأعراف الدولية كافة، يطرح علامات استفهام حول ما تخطط له واشنطن أو ما تضمره من شرّ لهذا البلد، وهو ما يمكن أن نستنتجه من كلام محلل أمني نيجيري (تحفّظ على ذكر اسمه وهويته) كان عمل مع مسؤولين أميركيين، حيث كشف لصحيفة "واشنطن بوست" أن هذا التعاون الأمني "لم يرقَ ​​إلى مستوى توقّعات النيجريين، ولا سيما أنه تمّ تنفيذ جميع المذابح التي ارتكبها وما زال يرتكبها الجهاديون أثناء وجود الأميركيين هنا".

وعليه يبقى السؤال: هل تستخدم واشنطن الجماعات الإرهابية كورقة ضغط للبقاء في النيجر، أسوة بما فعلته وما زالت في سوريا والعراق؟

 

علي دربج - أستاذ جامعي.