المقاومة الفلسطينية.. حنكة التفاوض وصلابة الميدان
"معنى طلبات حماس في المفاوضات هو هزيمة إسرائيل"، يقول رئيس حكومة الاحتلال، فكيف لا تكون الهزيمة بانتظار نتنياهو إذا كان يواجه من يجيد ويتفنن في إدارة المعركة السياسية كما يجيد المقاومة العسكرية؟
تخوض المقاومة الفلسطينية حربها بنجاح على جبهات عدة في آنٍ واحد، فإلى جانب العمليات النوعية التي تتواصل بوتيرة يومية، مكبّدة الاحتلال خسائر فادحة في جنوده وآلياته، ونجاحها في حرب الصورة، مستخدمةً ما لديها من معلومات بتقنين ذكي لتحقيق أكبر قدر من التأثير في معنويات الجمهور الإسرائيلي، يبرز الميدان السياسي كعامل مكمل للعسكري، فبالإضافة إلى المواقف السياسية التي تطلقها فصائل المقاومة وتحركاتها الإقليمية والعالمية المدروسة،تظهر حنكتها ومهارتها في إدارتها للمفاوضات التي تجمع بين المرونة والتمسك بالثوابت، واستثمار معطيات الميدان بالصورة الأفضل.
إبداع المقاومة يشمل التفاوض أيضاً.. مرونة وثبات وصبر
تعدّ صفقة "وفاء الأحرار" التي جرت في العام 2011، وتمكنت حركة حماس بواسطتها من تحرير 1027 أسيراً فلسطينياً، من بينهم قائدها في غزة اليوم، يحيى السنوار، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي واحد هو جلعاد شاليط، الصفقة الأضخم في تاريخ الصراع مع الاحتلال، وتشكل صورة عن كيفية إدارة المقاومة الفلسطينية لمفاوضات تبادل الأسرى، وعن النتائج التي يمكنها تحقيقها بالمرونة والثبات.. والصبر أيضاً، فشاليط كان قد وقع في قبضة المقاومة منذ منتصف العام 2006.
استناداً إلى منطق حركات المقاومة في التفاوض، كان واضحاً منذ اللحظات الأولى لانتشار خبر عملية "طوفان الأقصى"، أن الثمن المتوقع للإفراج عن هذا العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين لن يكون أقل من "تبييض السجون"، أي إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين كافة من سجون الاحتلال، وهو ما أعلنه رسمياً الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام، أبو عبيدة، في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بالقول: "العدد الكبير من الأسرى لدينا ثمنه تبييض السجون من الأسرى كافة"، وتبعه السنوار في اليوم التالي، معلناً الجاهزية لعقد صفقة تبادل تشمل الإفراج عن جميع الأسرى في سجون الاحتلال، في مقابل كل الأسرى لدى المقاومة.
هذا التناغم في الموقف بين الجناحين العسكري والسياسي في الحركة، وكذلك الموقف الموحد للفصائل الفلسطينية تجاه هذه القضية، سيستمر على مدار أيام العدوان، من دون أن يؤدي طول المدة واشتداد الحرب وعظم التضحيات إلى زعزعة الموقف الثابت والموحد.
تواجه المقاومة اليوم التوحش الإسرائيلي الذي يهدف، ضمن جملة أهدافه الكثيرة، إلى إحباط معنوياتها ودفعها إلى تسريع التفاوض وتقزيم الأهداف، وتواجه الدعم الأميركي المفتوح للاحتلال، والذي يسعفه بالسلاح الذي يضمن إطالة أمد الحرب، ويحميه بالسياسة والدبلوماسية بما يحسن شروطه التفاوضية، ويمنحه هامشاً أكبر، كما تواجه المقاومة ضغوطات إقليمية من دول لإجبارها على التنازل عن ثوابتها في قضية التفاوض.
وأمام كل هذه الضغوطات لا تتراجع المقاومة عن ثوابتها، وقد بات واضحاً أن لجوء الاحتلال إلى العنف المفرط منذ اليوم الأول قلص هامش المناورة أمامه، وجعل المفاوض الفلسطيني بعد ما يزيد على خمسة أشهر فعل فيها الإسرائيلي كل شيء حرفياً، في موقع من لا يمكن تهديده، ورغم ذلك فإن المقاومة حريصة على إظهار المرونة بما يكفي وما يلزم لإنجاز الاتفاق، وإن حاول الاحتلال إظهارها بمظهر المعرقل ادعاءً وكذباً.
وتطالب المقاومة بوقف إطلاق النار والانسحاب الكامل من قطاع غزة وعودة النازحين، في حين تمتنع "إسرائيل" عن تقديم أي ضمانات بخصوص وقف إطلاق النار، وتعرض أن يكون الانسحاب شرق قطاع غزة من دون تحديد الأماكن، بينما تشترط المقاومة أن يكون من خلال خرائط واضحة.
وتصر المقاومة على الحصول على إجابات واضحة على مطالبها الأساسية قبل تقديم معلومات عن الأسرى لديها، بالإضافة إلى مطالب أخرى تتعلق بالإعمار وحرية دخول المساعدات، في الوقت الذي تناور فيه "إسرائيل" وتحاول كسب المزيد من الوقت.
وقد كشفت وسائل إعلام إسرائيلية، أنّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى جانب رئيسي "الموساد" و"الشاباك" رفضوا طلب "جيش" الاحتلال توسيع التفاوض وإبداء مرونة أكثر في مفاوضات تبادل الأسرى، خلال جلسة جمعت المستويات السياسية والأمنية والعسكرية في كيان الاحتلال.
وكان مندوب "الجيش" الإسرائيلي في طاقم المفاوضات اللواء الاحتياط، نيتسان ألون، استقال من منصبه بسبب رفض نتنياهو توسيع صلاحيات طاقم المفاوضات. ونقل الإعلام الإسرائيلي عن مصادر أمنية قولها إنّ الاستقالة تأتي على خلفية "الشلل" في مساعي استعادة الأسرى، مُشيرةً إلى أنّها تُعبّر عن مدى إحباط ألون من طريقة تعامل المستوى السياسي مع قضية الأسرى، وأنّ الحكومة لا تنوي فعل شيء في هذا الملف سعياً لإبرام صفقة تبادل.
وقال مسؤولون سياسيون وأمنيون إسرائيليون إنّ نتنياهو "يُعرقل صفقة التبادل مع حماس"، ويتهم حماس بعرقلة الصفقة، وبأنّها تسعى لإشعال المنطقة خلال رمضان، واصفين هذه النقاط بأنّها "سلسلة من الأكاذيب".
ويتذرع نتنياهو في عرقلته للمفاوضات بعدم الحصول على إجابات واضحة بشأن أعداد الأسرى وأسمائهم، موحياً بأن الأسرى هم محور المفاوضات بالنسبة إليه، في الوقت الذي يتعمد الاحتلال تصفيتهم، للانتهاء من هذا الملف وما يشكله من عبء على حكومته. وفي الوقت نفسه يتعرض هؤلاء لما يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة من تبعات الحصار من جوع وحرمان من الغذاء والدواء ومستلزمات الحياة الأساسية، وهو ما يمكن اعتباره إعداماً بوسيلة أخرى.
والحقيقة أن ما يدفع نتنياهو إلى تأجيل الاتفاق هو رغبته في كسب المزيد من الوقت أملاً بترميم صورته، ومحاولة الخروج بصورة نصر قد تضمن له تجنبه المساءلة في الإخفاقات، وكذلك عدم ملاحقته في القضايا المرفوعة ضده، ولكن استمرار الحرب يعمّق من أزمة "إسرائيل" ويضعف موقفها، في الوقت الذي تعجز فيه حتى الآن عن تحرير أسير واحد من أسراها بالقوة، وتلجأ لتعوض ذلك إلى اختلاق قصص وهمية سرعان ما ينكشف كذبها.
وحدة الساحات.. جبهات متعددة ومفاوض واحد
أثبتت "طوفان الأقصى" أن محور المقاومة ليس مجرد تحالف سياسي ظرفي على خطوط عريضة، وأن "وحدة الساحات" ليست شعاراً إعلامياً بل حقيقة ملموسة، والأهم من تحرك جبهات الإسناد في وقت مبكر وفعالية كبيرة، نصرةً لغزة ودعماً لمقاومتها، هو احتكام هذه الجبهات في التصعيد إلى التوقيت الفلسطيني، وإدارة معاركها وفق الإيقاع الذي تتطلبه المعركة الأساسية في غزة، بعيداً من أي اندفاع أو تقصير.
الانسجام والتنسيق على محاور القتال، يسريان أيضاً على التفاوض، فقد كان موقف محور المقاومة واضحاً في السر والعلن، بأن لا وقف لإطلاق النار في أي جبهة قبل وقفه في غزة، وأن المفاوض الوحيد هو المقاومة الفلسطينية، وما تقبل به تلتزم به الجبهات الأخرى.
ولعل إنجازات المقاومة على الأرض في مختلف الجبهات، هي أكثر مما يحتاجه مسار التفاوض كي تدخل إليه المقاومة قوية، إذ يكفي مرور ما يزيد على 150 يوماً من الحرب المفتوحة ضد قطاع محاصر محدود المساحة، من دون أن يتمكن الاحتلال من تحقيق أي من أهدافه المعلنة وغير المعلنة، لإدراك طبيعة التوازنات، وقوة كل طرف من طرفي التفاوض.
هكذا يذهب الاحتلال إلى المفاوضات غارقاً بالمشكلات، من الخلافات السياسية الداخلية الناتجة من انشغال كل طرف بمستقبله السياسي، والتفكير في مصلحته في كسب الجمهور الإسرائيلي إلى صفه على حساب الآخرين، إلى الخلاف بين "إسرائيل" والولايات المتحدة على طريقة إدارة الحرب وكيفية تقديم "إسرائيل" نفسها بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وفي المقابل، تذهب المقاومة الفلسطينية إلى المفاوضات بقيادة سياسية ذكية وحكيمة تجيد استثمار ما لديها من أوراق قوة، متسلحة بخبرة طويلة في إنجاز عمليات التفاوض الناجحة، وبإنجازات عسكرية على امتداد جبهات محور المقاومة، تبدأ في غزة، وتصل إلى شمال فلسطين المحتلة، وصولاً إلى البحر الأحمر، مروراً بالجولان السوري المحتل، وصواريخ المقاومة العراقية المرسلة إلى أنحاء الكيان وإلى القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق. بقوتها وذكائها وصبرها، تذهب المقاومة إلى نصرها بخطى ثابتة.