الحرب على التعليم.. لماذا تتعمّد "إسرائيل" تفعيلها في قطاع غزة؟
في اليوم الـ125 للعدوان المستمر، تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي تدمير القطاع التربوي والجامعات في قطاع غزة، لأنها تشكل هاجساً خطيراً يفضح الاستعمار الاحتلالي لفلسطين، ضمن خطة ممنهجة بدأتها منذ العام 1967.
منذ أن انطلقت ملحمة "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بدا واضحاً أنّ هدف "إسرائيل" من حربها لم يكن "القضاء على حماس" فحسب، وإنما تدمير البنية الحياتية للفلسطينيين، وإبادتها بالكامل، في القطاع الذي لا تتعدى مساحته 365 كيلومتراً، والمحاصر جواً وبحراً منذ 17 عاماً، في حرب مفتوحة وصفها الاحتلال بالحرب "الوجودية" يقودها بلا هوادة، وبوحشية لا يمكن وصفها على مدى التاريخ.
في الأيام الأولى للعدوان على قطاع غزة وكما في الحروب السابقة، لوحظ جيداً كيف يتعمّد الاحتلال استهداف الجامعات والمدارس والأكاديميين.
وتحت عنوان "الحرب المفتوحة على التعليم"، تحدّثت مؤسسة الدراسات الفلسطينية عن التدمير الاستراتيجي الممنهج لكل المؤسسات التربوية من مدارس وجامعات.
وأشارت المؤسسة إلى أنّ تدمير الاحتلال للمؤسسات التعليمية في القطاع، تمّ للقضاء على مظاهر التعليم في فلسطين، وهي لم تكن خطة جديدة أو وليدة هذه الحرب، إنما كانت في أشدّها منذ ما يزيد على العقد، ولا سيما منذ العام 2011، حيث بات التعليم يشكّل هاجساً خطراً لدى الاحتلال حين بدأ عمليته لتحريف المناهج الفلسطينية المعمول بها في شرق القدس خصوصاً، وأخذ في شنّ حملة دعائية ضد المناهج التعليمية للسلطة الفلسطينية نفسها، مدّعياً أنها مناهج "إرهابية" تدعو إلى "الكراهية والعداء للسامية"، وأنها "لا تلتزم قيم التسامح وتقبُّل الآخر". فمثلاً كان شعار مدينة القدس: "مدينة القدس عاصمة وطني فلسطين"، وبعد التحريف أصبحت "القدس مدينة السلام". واتّبع الاحتلال خطته الخمسية التي أعلنها ما بين 2018-2023 لتحقيق هدفه الرئيسي وهو "أسرلة التعليم بنسبة 90% شرقي القدس".
وبحسب المؤسسة فقد قرّر الاحتلال اختراق المنظومة التعليمية عبر مناهج السلطة الفلسطينية أولاً، لنزع الصفة الاحتلالية الاستعمارية عنها، وتحريفها بالجبروت نفسه. ولتحقيق خطته أيضاً، سعى جاهداً لإحكام سيطرته على المدارس الخاصة لإجبارها على تبنّي المناهج المحرّفة، وتدريسها للطلبة العرب، وبالتالي يكون قد نجح في أسرلة التعليم " شرقي القدس"، وفق خطته، عبر إضافة المدارس الخاصة إلى جانب مدارس المعارف للسلطة الفلسطينية، واعتبار وجوده "حقاً تاريخياً وطبيعياً"، لتأخذ المناهج التطرّف والتشدّد والانحياز إلى اليمين بصورة لافتة، غير معترفةٍ بالوجود الفلسطيني.
وعلى هذا الأساس، خاض الاحتلال حروباً عديدة في المحافل الدولية ضد مناهج السلطة الفلسطينية، أدّت إلى تجميد المساعدات الأميركية، ومن ثم مساعدات الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تُخصّص لهذه المناهج، وبدأ حربه المفتوحة على القطاع التربوي.
في اليوم الـ125 للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استمرت قوات الاحتلال في خطتها، وركّزت آلتها التدميرية على المؤسسات التعليمية والمعالم التاريخية والثقافية والعلمية، إضافة إلى الرموز السيادية الفلسطينية، إذ دمّرت أكثر من 12 مؤسسة تعليم عالٍ، مدعيةً أنها "معاقل لحماس"، ومنها: جامعة الأزهر، والجامعة الإسلامية، والقدس المفتوحة.
الاحتلال يتعمّد استهداف الطلاب والجامعات
وأكّد نمر سعد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت – رام الله، في حديث للميادين نت، أنّ "إسرائيل" كما هو واضح جداً سعت منذ العام 67 ومنذ سيطرتها واحتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، إلى اعتماد سياسة ممنهجة للسيطرة على قطاع التعليم، واستهدافه، لأنها لا تريد للفلسطينيين تعليماً جيداً، وبالتالي سيطرت على المدارس وكانت تحاول أيضاً السيطرة على الجامعات، وأولها جامعة "بيرزيت" في الضفة، ومن ثم جامعة "النجاح"، ومن ثم بقية الجامعات، وكانت هناك أيضاً هجمة شرسة على كلّ الجامعات في فلسطين عموماً بعد سيطرتها على المدارس، عبر تعيين مدراء إمّا موالين للاحتلال، أو عبر تعيين إدارات عامة في المحافظات.
وعن غاية الاحتلال من استهداف الطلاب، يقول سعد، إن الاحتلال يعلم أنّ الشباب الفلسطيني هم الأكثر قدرة ونشاطاً على صعيد مقاومة الاحتلال، وهو بالتالي لا يريدهم أن يكونوا في سلك التعليم بل أن يكونوا جهلة يعملون لديه وفي مصانعه في "إسرائيل"، وأن لا يكون لهم أي دور في بناء وطن للفلسطينيين، لذلك فهو يستهدف الشباب في هذا العدوان.
ويتابع أنّ هذه الخطة المستمرة منذ العام 67، باتت أكثر وضوحاً بعد السابع من أكتوبر عبر التدمير الممنهج للمدارس والجامعات، ونحن هنا لا نتحدّث عن غزة فقط، بل هناك 24 مدرسة في الضفة الغربية المحتلة تعرّضت أيضاً لهجوم شرس من قبل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، بحسب ما أكد سعد.
كما أشار إلى أنّ هناك 4 جامعات أساسية فقط في قطاع غزة وقد دمّرت بالكامل، واستشهد نحو 94 أستاذاً جامعياً، 17 أستاذاً منهم يحملون درجة البروفسور، و59 يحملون درجة الدكتوراه، وهناك فقط 18% يحملون درجة الماجستير.
ووثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في كانون الثاني/يناير الماضي، قتل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي مئات المعلمين وآلاف الطلبة، في إطار جريمة الإبادة الجماعية الشاملة التي يمارسها في قطاع غزة. أضف إلى ذلك وجود تقديرات تؤكّد أنّ هناك أعداداً أخرى من الأكاديميين المستهدفين، ومن حملة الشهادات العليا، حيث لم يتمّ حصر عددهم، نتيجة صعوبات التوثيق الناجمة عن تعذّر الحركة، وانقطاع الاتصالات والإنترنت، ووجود آلاف المفقودين تحت الركام.
وجاء تدمير الجامعات، وفق توثيق "الأورومتوسطي" عبر مراحل، تمثّلت المرحلة الأولى في عمليات قصفٍ استهدفت مباني في جامعتي "الإسلامية" و"الأزهر"، ثم امتد الأمر لبقية الجامعات، وصولاً إلى تفجير بعضها ونسفها بالكامل بعد تحويلها إلى ثكناتٍ عسكرية، كما حدث في جامعة "الإسراء" جنوبي مدينة غزة، والتي نشر الإعلام الإسرائيلي قبل أيام، مقطع فيديو يوثّق نسفها من قبل "الجيش"، والذي جاء بعد 70 يوماً من تحويلها إلى ثكنة عسكرية، ومركز اعتقال مؤقت.
وتحدّث سعد للميادين نت، عن عدد المدارس المستهدفة في قطاع غزة، وقال إنّ هناك 281 مدرسة حكومية و65 مدرسة لوكالة "الأونروا" تمّ تدميرها جزئياً، وما يفوق 45 مدرسة تدميراً كاملاً، وخرجت عن الخدمة بشكل نهائي.
وبحسب المكتب الإعلامي في غزة، فقد بلغ عدد شهداء أطفال المدارس أكثر من 4327، فيما أصيب 7819 طالباً.
تأثير تدمير الجامعات على مستقبل الطلاب الفلسطينيين
بعد انتهاء العدوان على قطاع غزة، "نحن سنواجه كارثة تعليمية حقيقية"، وفق ما أكّد سعد، أولاً لأنّ المدراس المتبقّية حالياً في القطاع تستخدم كمراكز إيواء للنازحين الذين هُجّروا من بيوتهم ومناطقهم، حيث دمّر الاحتلال نحو 60% من منازل القطاع بالكامل، عدا عن المنازل والأبنية الأخرى التي تضرّرت كثيراً وأصبحت غير صالحة للسكن، ومن الصعوبة بمكان أن تقوم هذه المدارس بدورها التعليمي، وهي أصلاً كانت تعاني من نقص حاد في عددها، وكانت تعتمد نظام "الشيفتين" أي الدوامين للطلاب، "شيفت" صباحي للأطفال و"شيفت" آخر بعد الظهر للكبار، ومن الطبيعي أن هذا العام قد ضاع على الطلاب، ومن الصعب إعادة التعليم إلى وتيرته السابقة، لأنه يحتاج إلى سنوات عديدة، وإمكانيات كبيرة جداً لإعادة بناء المدارس وإخلاء المدارس الحالية التي تؤوي النازحين، وبناء أماكن أخرى لهم.
كما أوضح سعد أنه حالياً في ظل عدم وجود أماكن للسكن للنازحين، والجوع والمرض والعطش الذي يواجهه سكان قطاع غزة، فهذا الأمر سيكون من الأولويات قبل التفكير في المرحلة المقبلة.
أما بالنسبة إلى الجامعات فحدّث ولا حرج، فهي قد دمّرت بالكامل ويجب أن يعاد بناؤها وهو ما سيتطلّب وقتاً وجهداً وإمكانيات هائلة، وفق ما يؤكد سعد للميادين نت، وسيخسر الطلاب سواء الذين كانوا منخرطين في العام الدراسي أو الذين سيدخلون إلى الجامعات سيكون أمامهم أيضاً نحو سنتين أو أكثر للعودة إلى الجامعات، وهم سيخسرونها من حياتهم التعليمية أو أنّ البعض منهم قد لا يستطيعون إكمال تعليمهم، عدا عن الشهداء الذين قضوا من الطلاب أو من الكادر التعليمي.
نسبة الأمية في فلسطين من أدنى المعدلات في العالم
ليس مستغرباً أن تشكّل المؤسسات التعليمية عقدة لدى الاحتلال في حربها المفتوحة على قطاع غزة، حيث من الجدير ذكره أنّ معدلات الأمية في فلسطين تُعد من أدنى المعدلات في العالم، وفق منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، وتقريباً أعلى معدلات الدكتوراه (PHD) للفرد في جميع أنحاء العالم، وفق سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة حسام زملط.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد انخفض معدل الأمية في فلسطين بنسبة 84% خلال العقدين الماضيين.
ووسط كلّ هذه الصور السوداوية والدمار الهائل الذي تحاول "إسرائيل" ترسيخه في العالم في عدوانها المستمر حالياً لمحو كل ما يمتّ إلى الحياة الفلسطينية بصلة في قطاع غزة، إلا أنّ القضية الفلسطينية تصاعدت وتيرة حضورها، والالتفاف الشعبي العالمي الذي نشهده اليوم والذي تجلى في رفض العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، هو أكبر منهج يمكن أن تتعلمه شعوب العالم الحالمة بالانعتاق من النفاق السياسي للمجتمع الدولي والخداع الإعلامي الغربي الذي حاول تقديم "إسرائيل" على أنها "الضحية" و"تدافع عن نفسها". فيما أنّ حق الشعب الفلسطيني الذي انتزعت أرضه وحريته، وحقه في العودة، وحماية إرثه الحضاري والوجودي حقيقة تظل راسخة، وتبقى هناك مسؤولية جماعية قومية وإسلامية في حماية المناهج التعليمية التي تحفظ للأطفال الفلسطينيين أولاً والشباب خصوصاً تاريخ فلسطين الحقيقي، في مواجهة خطر محوه عن الخارطة، ولنقل رواية الأجداد والآباء إلى أبنائهم وأحفادهم، التي تحكي نضال شعب انتصر في حرب تاريخية على كيان محتل وغاصب ومصطنع بلا تاريخ.