أميركا اللاتينية في وجه "إسرائيل النازية".. طوفان الأقصى كحركة إصلاح عالمية
نظرياً، لم يأتِ الرئيس البرازيلي لويس إينياسيو لولا دا سيلفا بجديد في تشبيهه ممارسات كيان الاحتلال بالنازية، فالتشبيه قائم ومتداول بقوة في السردية العربية منذ نشوء الكيان، ولكن الجديد والخطير هو في هوية الجهة التي أطلقته، فلهذا التفصيل تأثير يتجاوز فلسطين إلى العالم كله.. هذه ليست سوى واحدة من بركات ملحمة "طوفان الأقصى" الكثيرة.
توالت الأصوات المعترضة على ما يقوم به كيان الاحتلال من إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وامتدّت لتشمل خريطة العالم كله، ولكن المواقف الصارخة للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا في الأيام الأخيرة، خرجت عن كونها مجرد محطة في سياق الاحتجاج على جريمة لم يعد بالإمكان السكوت عنها، إلى حد جواز اعتبارها "بداية لإصلاح العالم".
هي كرة ثلج بدأت تكبر مع التصريح الأول للولا دا سيلفا، وردة الفعل الإسرائيلية عليه باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، ومن ثم سحب البرازيل سفيرها في كيان الاحتلال، واستدعاء سفير الاحتلال لتوبيخه، وصولاً إلى تضامن رئيس بوليفيا السابق، إيفو موراليس، معه، مؤكداً أنّ هذا التصنيف الإسرائيلي "ميزة لأنه يأتي من قِبل حكومة إبادة جماعية تذبح الأطفال"، ومثله الرئيس الكوبي، ميغيل دياز كانيل، الذي قال إن لولا دا سيلفا "سوف يكون دائماً في الجانب الصحيح من التاريخ".
الحلقة الأحدث في هذا المسار تمثلت في التصريح الأخير للولا دا سيلفا، السبت، والذي أكد أن موقفه لم يكن وليد انفعال شخصي عابر، حيث أعاد التأكيد أنّ ما يفعله الاحتلال في غزّة ليس حرباً، بل إبادة جماعية.
يمكن وضع هذه المواقف، وغيرها، في إطار صحوة اليسار العالمي الحقيقي انطلاقاً من أميركا اللاتينية، وهي صحوة بدأت منذ سنوات، واستمرّت من خلال صناديق الاقتراع التي أظهرت خروج الدول اللاتينية تباعاً من الفلك الأميركي، ولكن هذا لا يلغي الدور الكبير لملحمة "طوفان الأقصى".
فكيف تساهم ملحمة "طوفان الأقصى" في رسم المشهد العالمي الجديد؟ وأي دور لها في تحويل "نازية" الاحتلال إلى بديهية يكاد يلهج بها الجميع، بعد أن كانت سبباً أكيداً للاتهام بمعاداة السامية؟
السقوط الأخلاقي للغرب.. من بركات "طوفان الأقصى"
من أبرز الذرائع التي استخدمها الغرب في فرض "إسرائيل" كقاعدة متقدّمة له في بلادنا، نيته تجميع اليهود في "وطن قومي" يحميهم من "الاضطهاد". هذه الحجة الإنسانية كانت أول ما أسقطه "طوفان الأقصى"، مع تحول الاضطهاد إلى سلوك يومي يمارسه الاحتلال بلا قفازات هذه المرة.
فقد أُجبِرَ الاحتلال للمرة الأولى، بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، على المفاضلة بين تحقيق إنجاز ميداني وبين إخفاء إجرامه ما أمكن، ومع اختياره الأولى، صارت أوجه التطابق مع النازية أوضح من أن يستطيع أحد تجاهلها.
اقترب عدد الشهداء في قطاع غزة منذ بدء العدوان من ثلاثين ألف شهيد، يُضاف إليهم قرابة سبعين ألف من الجرحى. استهدف الاحتلال المنازل على رؤوس ساكنيها من المدنيين، والمدارس ودور العبادة والمستشفيات وطواقم الإسعاف والدفاع المدني والصحفيين والمتجمعين في انتظار قوافل المساعدات الإغاثية، واستخدم أسلحة تذيب الجلد، واحتجز جثامين الشهداء لسرقة الأعضاء منها، ولم يترك نوعاً يخطر في البال من الجرائم يمكن أن ينسَب إلى الزعيم النازي أدولف هتلر أو سواه، إلا وارتكبه.
هنا، لم يعد الافتضاح الأخلاقي يقتصر على كيان الاحتلال، بل شمل الغرب الذي يقف خلفه أيضاً، ففي سياق حملته على النازية أثناء الحرب العالمية الثانية استخدم الغرب ممارسات هتلر الإجرامية وسياساته التوسعية في سبيل تأليب الرأي العام ضده، في حين كانت المصالح السياسية والاقتصادية ولا تزال هي الحاكم في سلوك الغرب وسياساته. واليوم، مع تمادي "إسرائيل" في إجرامها المكشوف، صار من الواجب على الغرب سحب خطاب تجريم النازية من التداول تفادياً للإحراج، لولا أن تسارع الأحداث وتأثيرها الكبير لم يترك أمام الغرب، الذي خلع قناعه، فرصة للتفكير في الإحراج والاشتغال على صورته.
وإذا كانت العقيدتان الصهيونية والنازية تنهلان من نبع واحد، وتتشابهان من حيث جوهرهما الفكري، وأساليبهما الإجرامية، فإنه يمكن اعتبار الصهيونية من الأخطر على العالم حالياً، لأنها ترتبط بما هو أبعد من قومية محصورة بحيز جغرافي ضيق قياساً إلى مساحة العالم.
بهذا المعنى، لم يكن صعود الفكر اليميني المتطرف في أكثر من مكان حول العالم، ومنها أوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر، بعيداً عن نجاح النموذج الإسرائيلي في البقاء والاستمرار، وإن بدعم غربي وأميركي مفتوح، ومع اهتزاز النموذج الأبرز واقترابه من السقوط النهائي، تهتز معه "النازيات" الجديدة حيث وُجِدَت، وتزيد شهية أعدائها للانقضاض عليها، وهو ما يمكن قراءته بوضوح في مسار الأحداث على الجبهة الروسية - الأوكرانية.
مواجهة ثقافية.. أبعد من التاريخ والجغرافيا
الباحث الفلسطيني الكندي، والمتخصّص في القانون الإعلامي، والناشط في مجال مواجهة الثقافات العنصرية الغربية، ليث معروف، والذي اتهمته السلطات الكندية مؤخراً بأنه "معادٍ للسامية" بسبب إعلان تضامنه مع فلسطين ورفضه للاحتلال الإسرائيلي، أكد في مقابلة مع الميادين، أنّ دراسة السياق التاريخي والثقافي للمعركة الحالية لا يكشف فقط عن أسباب السياسات العنصرية الغربية ضد الفلسطينيين، بل يوضح كذلك ضخامة الإنجاز الفلسطيني بعد عملية "طوفان الأقصى" وحجم الخسارة التي مُني بها الغرب وليس فقط "إسرائيل".
ويرى معروف أنّ "الصهيونية موجودة عند الأوروبي بوجود اليهودي الصهيوني أو من دونه، فهو كأوروبي لا يريد فقط أن يأخذ أرضنا فلسطين، بل أن يسيطر على هذه المنطقة التي هي مهد الحضارات التي يدّعي الآن أنه وريثها، وبهذا المعنى تكون هوية الغرب حالياً مهددة، ووجود إسرائيل مهدّد، وكذلك الإمبراطورية الأميركية وجودها مهدد بتحرير فلسطين".
هذه المقاربة تجعل للمعركة أبعاداً تتجاوز أبعادها الجغرافية الضيقة، وتجعلها أقرب إلى صراع ثقافي وحضاري بين "النازيين الجدد" بتشكيلاتهم المختلفة، وبين يرفض النازية كفكرة، بالفعل لا بالشعارات، وبصرف النظر عن الإسم الذي يمكن أن يُطلق عليها في مكان محدّد أو زمان محدّد.
نحو عالمٍ خالٍ من النازية.. تفاؤلٌ مشروع
وإذا كان من التفاؤل المنطقي اعتبار "طوفان الأقصى" بدايةً لمعركة تحرير فلسطين، فإن هناك تقييماً أكثر تفاؤلاً لا يجافي بدوره المنطق والواقعية، يذهب إلى حد اعتبارها بداية لمعركة إصلاح العالم بأسره، بما يتجاوز البعد الجغرافي للصراع القائم بين كيان الاحتلال وأهل الأرض، وبأنّ هزيمة الاحتلال في هذه المعركة، والتي باتت أمراً واقعاً، سيكون لها في دور وأد أي مشروع عنصري مشابه حاضراً ومستقبلاً، بعد أن نبّهت القوى التحررية حول العالم وجعلتها أكثر تيقظاً لما يجري حولها.
أهمية المواقف اللاتينية كمنطلق لهذا التحول، هي في كونها تأتي من خارج دائرة دول العالمين العربي والإسلامي المعنية بالقضية الفلسطينية لأسباب قومية وعقائدية، ما يعطي لهذا الصراع بعداً إنسانياً أوسع، ويجعل الأمل بعالمٍ خالٍ من النازية – بمعناها الأشمل - أكثر واقعيةً.