"كوميرسانت": هل تصلح خطة "مارشال" لأوكرانيا؟
أواخر الأربعينيات، كانت الولايات المتحدة في أوج قوتها، وكانت خطة مارشال مقدوراً عليها من ناحية التمويل، أما اليوم فيبدو الاقتصاد الأميركي منهكاً وغير قادر على تحمّل مئات مليارات الدولارات من تكلفة الإعمار في أوكرانيا، ولكن هناك بدائل أخرى متوفرة لدى الغرب.
ما هو مستقبل أوكرانيا بعد الصراع الحالي؟ يتحدث العديد من السياسيين والخبراء عن جدوى خطة "مارشال" جديدة لهذا البلد. على الرغم من أن الخطة القديمة (التسمية الرسمية "برنامج التعافي الأوروبي") كانت قد طوّرتها وأطلقتها إدارة ترومان قبل ثلاثة أرباع القرن، فإنها لا تزال تعدّ واحدة من أنجح مشاريع إعادة الإعمار بعد الصراع. يتناول مدير المجلس الروسي للشؤون الدولية، أندريه كورتونوف، جدوى إعادة تجربة تنفيذ هذه الخطة في مقالة له على صفحات جريدة "كوميرسانت"، مستشرفاً مستقبل أوكرانيا، بغض النظر عن الجوانب السياسية لبرنامج المساعدة الأميركية لأوروبا، متوقفاً عند بعض السمات الفنية الموضعية لهذه الخطة.
بدايةً، سيكون من الخطأ اعتبار خطة مارشال مصدراً غير محدود للموارد المالية التي تدفقت في اقتصاد أوروبا الغربية. في المدة بين 1948 و1951، استثمرت واشنطن ما يزيد على 13 مليار دولار في أوروبا (ما يتراوح بين 115 و150 مليار دولار حالياً). نذكر أنه في نهاية الصيف، قدرت القيادة الأوكرانية احتياجات إعادة الإعمار بعد الصراع في بلدها بما يتراوح بين 600 و800 مليار دولار، وبعد نتائج الأعمال العسكرية في الخريف، كان من المفترض أن تزداد هذه الاحتياجات أكثر فأكثر. أي أن تقاس بتريليونات الدولارات.
وزعت الموارد المالية في إطار خطة مارشال على 17 دولة وإقليماً، ولم يتلق حتى أكبر المستفيدين الكثير: تلقت بريطانيا العظمى 3.3 مليارات، وفرنسا 2.3 مليار، وألمانيا الغربية 1.4 مليار، وإيطاليا 1.2 مليار ...إلخ. يعتقد الخبراء أن الموارد المتلقاة من الولايات المتحدة أدت إلى تسريع نمو الاقتصادات الأوروبية بشكل مباشر بمعدل 0.5 % سنوياً. ومع ذلك، هذا لا يعني أن خطة مارشال لم تلعب دوراً مهماً في إعادة إعمار القارة الأوروبية بعد الصراع. لم تكمن أهمية الخطة في حجم المساعدات، ولكنها أفسحت الطريق أمام آلية ساعدت في إطلاق العمليات الطبيعية للانتعاش الاقتصادي في أوروبا، عبر إحياء القطاع الخاص، ونمو التجارة بين الدول الأوروبية، وظهور النشاط الاستثماري الوطني، وتشكيل مؤسسات اقتصادية جديدة. عملت الخطة أيضاً كضمانة من الحكومة الأميركية لفتح الباب أمام الاستثمار الخاص الأميركي في أوروبا الغربية.
في الوضع الحالي، يبدو أنه من غير المرجح أن تصبح المساعدة الخارجية المحرك الوحيد أو حتى المحرك الرئيس لتنمية الاقتصاد الأوكراني في مرحلة ما بعد الصراع. لا تزال أوكرانيا بحاجة إلى إحراز تقدم حاسم في مجالات محددة منها مكافحة الفساد، واستقلال القضاء، وتحسين جودة الإدارة العامة على مختلف المستويات. وبعبارة أخرى، فإن أي خطة، كخطة مارشال، محتملة لأوكرانيا ليست بديلاً للإصلاحات المحلية التي لم تكتمل بعد، ولكنها واحدة من الأدوات الممكنة لتعزيز هذه الإصلاحات فقط. ولكن، تماماً كما كانت الحال قبل ثلاثة أرباع القرن، يجب أن تحفز برامج المساعدات الحكومية أو الدولية نطاق استثمارات القطاع الخاص الأجنبي والمحلي على حد سواء.
أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي، لم تكن هناك مشكلة في مصادر التمويل وكان كل شيء واضحاً، إذ كانت الولايات المتحدة في أوج قوتها الاقتصادية والمالية، وبالتالي أمكنها تخصيص 13 ملياراً للدول الأوروبية من دون أن تتأثر نسبياً. علاوة على ذلك، عاد جزء كبير من هذه الموارد إلى الولايات المتحدة في شكل مشتريات أوروبية لسلع وخدمات أميركية. ولكن، حتى في تلك الأوقات البعيدة، بدأت واشنطن في تقليص المساعدة للشركاء الأوروبيين بمجرد أن ظهرت الحاجة إلى أموال لشن الحرب في كوريا.
اليوم، الولايات المتحدة مثقلة بمشكلات مالية أكثر خطورة، ولم يعد بإمكان المرء أن يتوقع "جاذبية سخية غير مسبوقة" من واشنطن. علاوة على ذلك، اضطلعت الولايات المتحدة بالفعل بالدور الرئيس في تقديم المساعدة العسكرية التقنية إلى كييف. نظراً إلى أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، سيكون من المنطقي افتراض أن بروكسل ستصبح المانح الرئيس لأوكرانيا في مرحلة ما بعد الصراع، ولكن الوضع المالي للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا باعتبارها الراعي المحتمل الرئيس لخطة مارشال الجديدة، ليس في حال جيدة.
يبقى الاعتماد على أموال البنك المركزي الروسي المجمدة في الغرب بعد 24 شباط/ فبراير 2022. ليس من الممكن تحديد موعد الانتقال الحاسم من تجميد الأموال إلى مصادرتها، لكن هذه الخطوة على الأرجح ستُتخذ عاجلاً أم آجلاً. ومع ذلك، هناك العديد من المتنافسين الآخرين على الأموال الروسية هذه. على سبيل المثال، ترغب البلدان التي استضافت اللاجئين الأوكرانيين، وكذلك تلك التي عانت أكثر من غيرها من جراء حرب العقوبات مع موسكو، في الحصول على تعويضات مالية. لذا، في الواقع، فإن 300 مليار دولار من الاحتياطيات الروسية المجمدة ليست بأي حال من الأحوال بئراً بلا قعر، يمكن من خلالها سحب الأموال وفقاً للتقديرات.
يمكن سحب أموال إضافية كبيرة من روسيا من أجل الوصول إلى المستوى المعلن 600-800 مليار دولار فقط على خلفية استسلام الكرملين الكامل وغير المشروط، وهو أمر غير وارد وغير ملحوظ في الأفق. وإذا سمحنا لأنفسنا للحظة بتخيل سيناريو الاستسلام هذا، فسيتعين علينا أن نستنتج أن روسيا المنهكة، التي استسلمت للغرب الجماعي، لن تمتلك ببساطة الموارد اللازمة التي يمكن نقلها على الفور لإعادة إعمار أوكرانيا. لطالما كان دفع التعويضات مهمة صعبة، على سبيل المثال، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، لم تكن ألمانيا قادرة على سداد ديونها للبلدان المنتصرة حتى عام 1933، ثم رفض الرايخ الثالث من جانب واحد دفع المزيد من التعويضات.
في جميع الاحتمالات، سيستغرق برنامج تعافي أوكرانيا وقتاً طويلاً في ظل أي سيناريو لإنهاء الأزمة الحالية. في الوقت نفسه، ربما لا يكون الحديث عن "الانتعاش" صحيحاً تماماً، إذ لن تكون المهمة العودة إلى الهيكل الاقتصادي القديم الذي أنشئ بداية القرن الحالي، ولكن إنشاء اقتصاد جديد تماماً يمكن أن يتناسب عضوياً مع الاقتصاد الدولي لمنتصف القرن الحادي والعشرين. سيكون دور مصادر التمويل الخارجية في هذه العملية مهماً، لكن ليس حاسماً.
دعونا نلاحظ ميزة أخرى لخطة مارشال التي أطلقت بعد عامين من نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما لم تتوقف الأعمال العدائية تماماً في أوروبا فحسب، بل حدّد النظام الأوروبي لمرحلة ما بعد الحرب بشكل عام. إذا قمنا بإجراء مقارنة مع الحاضر في حالة أوكرانيا، يمكن أن تكون خطة مارشال الناجحة ممكنة فقط بعد انتهاء الصراع واستعادة الحد الأدنى من الاستقرار في القارة الأوروبية. وهذا يعني أن كل يوم جديد من الصراع لا يؤدي فقط إلى خسائر بشرية جديدة ويتسبب بالمزيد والمزيد من الضرر بالاقتصاد الأوكراني، ولكنه يؤدي أيضاً إلى تراجع احتمالية الشروع في إعادة إعمار البلاد بعد الصراع.