"هزيمة الغرب"
يتحدث الكاتب كريستوفر كالدويل، عن الطرح الجديد للمفكر والانثروبولوجي الفرنسي، إيمانويل تود، والذي يحلل فيه أسباب "سقوط الغرب" كما يعبر، بناءً على خلفيات سياسية واجتماعية وانثربولوجية.
يتحدث الكاتب كريستوفر كالدويل، في مقال بعنوان "هزيمة الغرب"، نشر في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، عن رؤية المفكر والأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود لمظاهر انهيار الغرب ، نقله إلى العربية حسين قطايا، وفي ما يلي النص المترجم.
"إذا كان أي شخص في هذه القاعة يعتقد أن بوتين سيتوقف عند أوكرانيا، فأنا أؤكد لكم أنه لن يفعل ذلك"، هذا ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب" حالة الاتحاد" في الأسبوع الماضي. وأضاف أن أوروبا" في خطر "، خلال ترحيبه برئيس وزراء السويد أولف كريسترسون، أحدث عضو في حلف" الناتو". مع ذلك، يكرر بايدن على أن الجنود الأمريكيين لن ينتشروا في أوروبا للدفاع عنها. وكما أكد المتحدث باسم البيت الأبيض، فمن الواضح تماما "أن استخدام القوات البرية أمر غير مطروح على الطاولة.
لا بد من أن رأس السيد كريسترسون كان يدور وهو يستمع إلى الكلمات التخويفية الأميركية، عن احتمال حدوث المزيد من" التوغلات الروسية في أوروبا، كأقوى حجة اعتمدت عليها الولايات المتحدة لجرالمنظومة الغربية إلى الحرب، وجذب أعضاء جدد، مثل السويد، إلى حلف شمال الأطلسي. ولكن إذا كانت مثل هذه التوغلات تشكل مصدر قلق حقيقي، فإن القوات البرية ستكون خيارا للولايات المتحدة وحلفائها بحكم الأمر الواقع.
لقد أصبح الأساس المنطقي لمشاركة حلف شمال الأطلسي في الحرب الأوكرانية أكثر غموضا في الوقت الذي يتوقع فيه المرء أن تصبح الأمور أكثر وضوحا. ولقد سئمت الشعوب الأوروبية، مثلهم مثل الأميركيين، من الحرب. وتتزايد شكوكهم في قدرة أوكرانيا على الفوز بها. ولكن ربما الأمر الأكثر أهمية هو أنهم لا يثقون في الولايات المتحدة، التي لم تفعل الكثير في هذه الحرب لتبديد الشكوك حول دوافعها وكفاءتها، والتي نشأت خلال حرب العراق قبل عقدين من الزمن.
الأميركيون يعتقدون في بعض الأحيان أن هذا الاستقطاب التي تحققه الحرب على روسيا أعاد لحمة المنظومة الغربية بجهد "نخب" موظفة عند السلطة أو شريكة، على عكس ما تراه القوى المعارضة للحرب، بأن الولايات المتحدة تقود حربا للتغلب على التحدي الذي يواجه هيمنتها بغض النظر عن "الأضرار الجانبية".
القيادة الأميركية "فاشلة"، هذا ما يسوقه كتاب المفكر الفرنسي إيمانويل تود، "هزيمة الغرب"، الذي يتصدر أعلى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا. وتود، هو مؤرخ وعالم أنثروبولوجيا اشتهر في عام 1976، بكتابه المثير بعنوان "السقوط الأخير"، الذي تنبأ بأن الاتحاد السوفييتي آيل للسقوط والانهيار، بالاعتماد على إحصاءات الوفيات بين الأطفال الرضع.
ومنذ ذلك الحين، أصبح ما يكتبه السيد تود عن الأحداث الجارية مقبولاً في أوروبا باعتباره نبوءة. صدر كتابه "ما بعد الإمبراطورية"، الذي تنبأ ب «انهيار النظام الأميركي»، في عام 2002، في ذروة التماسك الأميركي الداخلي والغربي عموما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، قبل كارثة الحرب على العراق، التي كان تود متحمسا لها بشدة.
حصل تود على درجة الدكتوراه من جامعة "كامبريدج"، وهو عاشق للغة الإنجليزية على الأقل في بداية حياته المهنية، إلى أن صار يشعر بخيبة أمل شديدة ومتزايدة تجاه سياسات الولايات المتحدة، حتى وصل إلى معاداة نهجها بالكامل.
وينتقد إيمانويل تود التدخل الأميركي في أوكرانيا، لكن حجته ليست هي الحجة التاريخية المألوفة الآن التي قدمها العالم السياسي المنشق جون ميرشايمر. ومثله مثل السيد ميرشايمر، يشكك تود في التوسع الحماسي لحلف شمال الأطلسي في عهد الرئيسين بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، وفي إيديولوجية المحافظين الجدد المتمثلة في الترويج للديمقراطية، وفي شيطنة روسيا رسميا. لكن تشككه في تورط الولايات المتحدة في أوكرانيا يذهب إلى ما هو أعمق من ذلك، وهو يعتقد أن الإمبريالية الأمريكية لم تعرض بقية العالم للخطر فحسب، بل أدت أيضا إلى تآكل صورة الشخصية الأمريكية التي كانت معممة.
وفي مقابلات صحفية أجريت معه خلال العام الماضي قال تود، إن الغربيين يركزون أكثر من اللازم على مفاجأة واحدة من مفاجآت الحرب، وهي قدرة أوكرانيا على تحدي الجيش الروسي الأكبر حجما بكثير. ولكن هناك مفاجأة ثانية لم تحظ بالتقدير الكافي: وهي قدرة روسيا على تحدي العقوبات والمصادرات المالية التي سعت الولايات المتحدة من خلالها إلى تدمير الاقتصاد الروسي. وحتى مع وجود حلفائها في أوروبا الغربية، كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى النفوذ اللازم لإبقاء اللاعبين الاقتصاديين الكبار الجدد في العالم في صفهم. واستفادت الهند من أسعار البيع الرخيصة للطاقة الروسية. زودت الصين روسيا بالسلع والمكونات الإلكترونية الخاضعة للعقوبات، وبعد ذلك أثبتت القاعدة الصناعية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أنها غير كافية لتزويد أوكرانيا بالعتاد (وخاصة المدفعية) اللازمة لتحقيق التوازن في الحرب، ناهيك عن الفوز بها. كذلك فقدت الولايات المتحدة الوسائل اللازمة للوفاء بوعودها في مجال السياسة الخارجية.
ويؤكد تود عن أن انغماس الأميركيين المتهور في الاقتصاد العالمي كان خطأ، وانعكس سلبا على الانتاج الصناعي والزراعي الأميركي، فالولايات المتحدة اليوم تصنع عددا أقل من السيارات عما كانت عليه في ثمانينيات القرن المنصرم، وتزرع كذلك كمية أقل من القمح..
يذكر إيمانويل تود الرئيس الأميركي جو بايدن أن الرئيس باراك أوباما اعتاد تحذيره من المبالغة في إطلاق الوعود للحكومة الأوكرانية، وهذا ما نعيشه ونراه الآن.
ويرى السيد تود أنه في مجتمع متقدم ومتعلم تعليما عاليا مثل المجتمعات الغربية، يطمح الكثير وإلى العمل على إدارة الأمور والسيطرة على الجمهور. يريدون أن يصبحوا سياسيين وفنانين ومديرين. وهذا لا يتطلب دائماً تعلم أشياء معقدة فكرياً. يكتب: على المدى الطويل، أدى التقدم "التقني التعليمي" إلى تدهور التعليم، لأنه أدى إلى اختفاء تلك القيم التي تحيط بمفهوم التعليم كتربية اجتماعية وحقوقية.
ويقدر إيمانويل تود أن الولايات المتحدة تنتج مهندسين أقل مما تنتجه روسيا، لكنها تعاني من "هجرة الأدمغة"، حيث ينجرف شبابها من المهن التي تتطلب مهارات عالية وذات قيمة مضافة إلى دراسة القانون والتمويل والمهن المختلفة التي لا تؤدي قيمة للبنيان الاقتصادي، وفي بعض الحالات قد تدمره، ويمكن النظر في هذا الإطار إلى ويلات صناعة المواد الأفيونية ، على سبيل المثال لا الحصر.
وكما يرى تود، فإن قرار الغرب بالاستعانة بمصادر خارجية لقاعدته الصناعية هو أكثر من مجرد سياسة سيئة؛ كما أنه دليل على وجود مشروع لاستغلال بقية العالم. لكن جمع الأرباح ليس هو الشيء الوحيد الذي تفعله أمريكا في العالم، بل إنها تنشر أيضا نظاما من القيم الليبرالية، التي غالبا ما توصف بأنها حقوق إنسان عالمية. يحذر السيد تود، المتخصص في أنثروبولوجيا العائلات، من أن الكثير من القيم التي ينشرها الأمريكيون حاليا هي أقل عالمية مما يعتقدونه.
إيمانويل تود ليس داعية أخلاقية. لكنه يصر على أن الثقافات التقليدية لديها الكثير مما تخشاه من الميول التقدمية المتنوعة للغرب، وقد تقاوم التحالف في السياسة الخارجية مع أولئك الذين يتبنونها. وعلى نحو مماثل، أثناء الحرب الباردة، كان الإلحاد الرسمي للاتحاد السوفييتي سببا في إفساد الصفقات بالنسبة للعديد من الناس الذين كان من الممكن أن يكونوا ميالين إلى الشيوعية لولا ذلك.
إن بعض قيمنا "سلبية للغاية". يقدم تود دليلا على أن الغرب لا يقدر حياة شبابه. معدل وفيات الأطفال، وهو المقياس الذي دفعه إلى التنبؤ بانهيار الاتحاد السوفييتي قبل نصف قرن، أعلى في أميركا في عهد بايدن (5.4 في الألف) منه في روسيا في عهد بوتين، وأعلى بثلاث مرات مما هو عليه في اليابان في عهد رئيس الوزراء فوميو كيشيدا.
يصدر تود أحكاما على المسائل الفكرية، التي لا تمتلك القدرة على التمييز بين الحقائق والرغبات وهذا يتضح ويذهل عند كل منعطف في حرب أوكرانيا. إن الأمل الأميركي في وقت مبكر من الحرب في أن تتعاون الصين في فرض نظام عقوبات ضد روسيا، وبالتالي مساعدة الولايات المتحدة على تحسين سلاح يمكن أن يستهدف ذات يوم الصين ذاتها، يشكل في نظر السيد تود "هذيانا" لا سياسة.
بالنسبة لحرب فيتنام، هناك الكثير في كتاب إيمانويل تود الذي يذكرنا بكتاب المؤرخ لورين باريتز الكلاسيكي الصادر عام 1985 بعنوان "نتائج عكسية"، والذي اعتمد على الثقافة الشعبية والأساطير الوطنية ونظرية الإدارة لشرح ما أدى إلى ضلال الولايات المتحدة في حرب فيتنام. وخلص باريتز إلى القول: "نحن من ارتكب الخطأ في فيتنام". ولو تمكن ليندون جونسون من فرض إرادته على الفيتناميين، لكانت ثقافة بأكملها قد دمرت تماما بسبب سياسات "طيبة القلب الأميركي".
يقرأ المرء باستمرار في الصحف أن فلاديمير بوتين يشكل تهديدا للنظام الغربي. ربما.. لكن التهديد الأكبر الذي يواجه النظام الغربي يتمثل في غطرسة أولئك الذين يديرونه أولاً.
إن خوض حرب على أساس القيم يتطلب قيما جيدة. يتطلب الأمر، كحد أدنى، التوصل إلى اتفاق بشأن القيم التي يتم نشرها، والولايات المتحدة أبعد عن مثل هذا مما كانت عليه في أي وقت مضى في تاريخها، بل أبعد مما كانت عليه عشية الحرب الأهلية الأميركية.
في بعض الأحيان، يبدو أنه لا توجد مبادئ وطنية، بل مبادئ حزبية فقط، حيث يقتنع كل طرف بأن الطرف الآخر لا يحاول فقط إدارة الحكومة، بل الاستيلاء على الدولة أيضا. وإلى أن يظهر إجماع جديد، فإن الرئيس بايدن يسيء تمثيل بلاده من خلال تقديمها على أنها مستقرة وموحدة بما يكفي للالتزام بأي شيء. ويتعلم الأوكرانيون هذا الأمر بتكلفة باهظة جداً.