"ميدل إيست آي": العائلات في جنين ترزح تحت وطأة الفقر وعمليات التوغل الإسرائيلية المستمرة
موقع"ميدل إيست آي" حاور بعض العائلات الفلسطينية التي أُجبرت على استئجار مساكن ثانوية بسبب استهداف "إسرائيل" المتكرر لأماكن إقامتها الرئيسة.
موقع "ميدل إيست آي" ينشر تقريراً للكاتبة الفلسطينية عزيزة نوفل، وهي من جنين، تحدثت فيه عن المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في المدينة، من جراء الفقر وعمليات التوغل الإسرائيلية المستمرة.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
خلال كل عملية توغل إسرائيلية في مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية المحتلة، تقوم زهرة محمود مرعي، البالغة من العمر 53 عاماً، بجمع ما تيسر لها من ملابس ومواد أساسية. وتغادر مع بناتها الثلاث وزوجها منزل العائلة في شارع مهيوب الواقع في قلب المخيم وتتجه إلى حي الشهداء في ضواحي جنين بحثاً عن الأمان. وفي هذا الحي، تستأجر العائلة منزلاً صغيراً باستخدام مدخراتها والدخل القليل الذي تملكه، يوفر لها الأمان الموقت من قوات الاحتلال الإسرائيلي. وتبقى هناك، مذهولة مما تعرضه التقارير الإخبارية، في انتظار إعلان انسحاب الإسرائيليين حتى تتمكن من العودة إلى ديارها.
وفي حديثها إلى موقع "ميدل إيست آي"، قالت زهرة مرعي: "ليس من السهل مغادرة منزلنا ومخيمنا. ونحن لا نهرب، بل هو خيار صعب مفروض علينا".
ويُعد الحي الذي تقطنه عائلة مرعي نقطة تركيز لعمليات التوغل الإسرائيلية في جنين، وقد استهدف منزلها القريب من مسجد الأنصار عدة مرات. وخلال عمليات الاقتحام الأولى للمخيم في تموز/يوليو 2023، تعرّض منزل زهرة لأضرار، وتحملت عائلتها ثلاثة أيام صعبة تمركز خلالها الجنود الإسرائيليون حول المنزل طوال الوقت. وبعد بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، ساءت حالة الأسرة؛ ففجّرت القوات الإسرائيلية منزل شقيق زوجها المتاخم لمنزلها، وألحقت المزيد من الأضرار به في كانون الأول/ديسمبر 2023.
وأشارت زهرة مرعي إلى أنّ تعرّض منزلها لإطلاق نار كثيف في حزيران/يونيو وساعات الرعب التي عاشتها العائلة، دفعتها إلى عدم البقاء في مكانها لانتظار عملية التوغل الإسرائيلية التالية في الحي الذي تسكن فيه.
ولدى زيارة موقع "ميدل إيست آي" لعائلة مرعي، بدت آثار الرصاص والأضرار الأخرى واضحة في مختلف أرجاء المنزل. وتمت تغطية النوافذ بالبلاستيك لتحل محل الزجاج المكسور، وتدمرت الجدران وتوقف نظام المياه عن العمل. ولكثرة الاعتداءات الإسرائيلية التي طالت منزلهما، بالكاد تستطيع زهرة وزوجها ماهر تذكر أي توغل تسبب بهذه الأضرار.
ومنذ بدء الحرب على غزة، بات ماهر عاطلاً عن العمل ولم يتمكن ابنهما الأكبر من العثور على عمل ثابت. وعلى الرغم من ذلك، قررت العائلة استئجار منزل خارج الحي لضمان سلامتهم، ما أضاف عبئاً مالياً جديداً إلى معاناتهم الكبيرة. وقالت زهرة: "لقد تُركنا وحدنا، من دون حماية أو دعم. ما نسمعه في وسائل الإعلام يتباين عن الواقع. إننا نضطر حتى إلى شراء مياه الشرب". قد يبدو شراء المياه أمراً سهلاً، لكن بالنسبة إلى عائلة مكونة من ستة أفراد ولا تملك دخلاً منتظماً، فإنها تشكل تكاليف إضافية. وفي بعض الأحيان تضطر العائلة إلى التخلي عن هذه "الرفاهية" والمخاطرة بشرب المياه الملوثة بالنفايات.
الصعوبات الاقتصادية
لقد سعى أكثر من 3000 من سكان مخيم جنين للاجئين للبحث عن بدائل سكنية دائمة خارج المخيم لتأمين مكان يهربون إليه عند حدوث أي توغل إسرائيلي. حتى إنّ بعضهم غادر المخيم بصورة نهائية. ومن المرجح أن يرتفع هذا العدد بما أنّ "إسرائيل" لم تقلص عدد عمليات التوغل التي تنفذها، مع توثيق الفلسطينيين أكثر من 80 عملية توغل داخل المخيم خلال 18 شهراً. بعضها استمر عدة أيام، وكان أطولها ما سمته "إسرائيل" "عملية المخيمات الصيفية" في آب/أغسطس، التي أُجبر خلالها أكثر من 7000 فلسطيني على مغادرة المخيم. وتسببت هذه العملية، إلى جانب الأضرار المادية المتراكمة الناجمة عن عمليات التوغل والبطالة المرتفعة الموجودة مسبقاً في المخيم، بعبء اقتصادي كبير على كاهل أكثر من 17 ألف فلسطيني يعيشون هناك.
ولم تتمكن ناهدة صلاح، البالغة من العمر 44 عاماً، وأطفالها الخمسة من مغادرة المخيم بسبب المصاريف المرتفعة. فمنذ أكثر من عامين، تعيش ناهدة في حي الدمج بعد انفصالها عن زوجها في الأردن وعودتها للاستقرار مع أطفالها وعائلتها في المخيم. ويقع المنزل الذي استأجرته في قلب الحي الذي تستهدفه القوات الإسرائيلية باستمرار خلال عمليات التوغل. وهي بالكاد تستطيع تحمل الحد الأدنى من الإيجار الذي تدفعه، وإذا أرادت الانتقال إلى خارج المخيم أو إلى أطرافه فإن الإيجار سيتضاعف. وقالت في هذا السياق: "حتى عائلتي التي لجأت إليها بعد انفصالي، بالكاد تستطيع تدبر أمرها في ظل الظروف الحالية".
وتحدث موقع "ميدل إيست آي" إلى ناهدة وابنتيها شام البالغة من العمر 7 أعوام وشذى البالغة من العمر 10 أعوام، واللتين بدتا شديدتي التعلّق بوالدتهما. وقالت إن حالتهما النفسية غير مستقرة نتيجة الصدمة التي تعرضتا لها خلال عمليات التوغل. وخلّفت أصوات القصف وعمليات إطلاق النار المستمرة خلال هذه المداهمات في نفسيهما شعوراً دائماً بالخوف.
وبينما كنا نسير في الشارع أمام منزلها، خطونا فوق صناديق من الورق المقوى موضوعة على الأرض لحماية المارة من تسربات شبكة الصرف الصحي والمياه المتضررتين. "لا أعرف كيف سأتدبر أمري عند هطول الأمطار. الوضع كارثي!"
لا يوجد سكن بديل
مرّت عائلة وهدان في تجربة مماثلة، لكن مع تباين رئيس واحد. يستهدف "الجيش" الإسرائيلي منزل العائلة، المكونة من ثلاثة أجيال، باستمرار، إلا أنها لا تملك خياراً سوى البقاء في منزلها. ويتألف المبنى من ثلاث طبقات، ويسكنه 14 فلسطينياً، سبعة منهم أطفال، أكبرهم يبلغ من العمر 10 أعوام. المنزل متضرر من جميع الجهات: النوافذ مكشوفة للعوامل الجوية أو مغطاة بالبلاستيك؛ والأبواب مفقودة والجدران مليئة بثقوب الرصاص. وفي الداخل، تظهر آثار الحروق على الجدران، ويبدو النظام الكهربائي متضرراً بشكل واضح.
وفي حديثها إلى موقع "ميدل إيست آي"، قالت أمّ سعيد وهدان، البالغة من العمر 57 عاماً: "بعد عملية التوغل الرابعة والاستهداف المتكرر لمنزلنا، حاولنا مغادرة المخيم شأن الكثيرين. لكننا لم نتمكن من ذلك بسبب ارتفاع تكاليف الإيجار ومخاوف أصحاب العقارات من تأجيرها لعائلات من المخيم". فأبناء وهدان الثلاثة عاطلون من العمل وبالكاد يكسبون ما يكفي لتغطية نفقات أطفالهم اليومية، والانتقال إلى خارج المخيم من أجل سلامة أطفالهم يعني العثور على مكان كبير بما يكفي لاستيعابهم جميعاً، أو استئجار منازل متعددة، وكلا الخيارين يفوق طاقتهم.
وخلال أطول عملية توغل في المخيم في آب/أغسطس الماضي، تعرض منزل وهدان لأضرار جسيمة، الأمر الذي دفع "الأونروا"، وهي الوكالة المسؤولة عن اللاجئين في المخيمات، إلى عدّه غير صالح للسكن. وقدمت وكالة الأمم المتحدة إلى العائلة مساعدة مالية للبحث عن سكن بديل حتى يتم إجراء التصليحات اللازمة. ومع ذلك، ووفقاً للعائلة، فإن مبلغ 1300 شيكل (أكثر من 350 دولاراً أميركياً) لن يغطي سوى عمليات تصليح الباب الأمامي والأسلاك الكهربائية الخطرة.
ووفقاً لوهدان، في حال استأجرت العائلة مكاناً خارج المخيم، فلن يكون لديها أي موارد لتصليح منزلها، وسيتعين عليها في النهاية العودة إليه كما هو، بمجرد توقف دعم الاستئجار من "الأونروا"، الذي يغطي ثلاثة أشهر فقط. والعيش في منزل غير صالح للسكن في بيئة شبه مدمرة أثر سلباً في صحة الأطفال، جسدياً وعقلياً. فهم يعانون أمراضاً والتهابات فيروسية، وهناك مخاوف صحية واضحة من شرب المياه الملوثة. وأوضحت الجدة قائلةً: "لم نستسلم لمصيرنا، لكننا لا نملك خيارات لرفض هذا الواقع. لا توجد كلمات تصف الرعب الذي تعيشه عائلة محصورة مع أطفالها في غرفة واحدة تحت القصف وإطلاق النار المستمر منذ 10 أيام".
"متروكون لمصيرنا"
بموجب القانون الدولي، تقع مسؤولية المخيمات الفلسطينية بشكل أساسي على عاتق "الأونروا"، مع إشراف تنظيمي إضافي توفره اللجان الشعبية التابعة لدائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية. كذلك، تتحمل السلطة الفلسطينية، كونها السلطة المستضيفة لمخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة وغزة، مسؤولية جزئية. ومع ذلك، وفي ظل الأزمات المالية التي تؤثر في عمل "الأونروا" والسلطة الفلسطينية، تُركت هذه المخيمات عرضة للبطالة والفقر وعمليات التوغل الإسرائيلية التي تتسبب بقتل الكثير من الفلسطينيين.
وعانى مخيم جنين للاجئين أكثر من غيره عمليات التوغل هذه والحصار المستمر والركود الاقتصادي، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدل البطالة بشكل كبير وارتفاع مستوى الفقر بشكل مطرد. وبحسب سكان المخيم، لا ترقى مبادرات "الأونروا" أو اللجان الشعبية أو مؤسسات السلطة الفلسطينية إلى المستوى المطلوب. ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ألحقت عمليات التوغل أضراراً بنحو 90 منزلاً في المخيم لا يمكن إصلاحها، وجعلت 213 منزلاً غير صالحة للسكن موقتاً وبحاجة إلى ترميم، كما ألحقت أضراراً جزئية بعشرات المنازل الأخرى.
وأشار محمد الصباغ، رئيس اللجان الشعبية في المخيم، إلى إن الوضع صعب للغاية نتيجة عمليات التوغل المتكررة والتدمير المستمر للبنية التحتية. وتتمثل الأولوية بإصلاح الأضرار واستعادة الحد الأدنى من الوظائف في المخيم، وإعادة بناء المنازل المدمرة وتقديم تعويض جزئي لمرة واحدة للمنازل المتضررة جزئياً. وقال لموقع "ميدل إيست آي" إن "الوضع الاقتصادي في حالة مزرية. ووصلت نسبة البطالة في المخيم إلى نحو 90% أو أكثر". وأوضح أنه حتى قبل الحرب، لم يكن سكان مخيم جنين ضمن المستفيدين من فرص العمل في "إسرائيل" بسبب إجراءات العقاب الجماعي، التي تمنعهم من الحصول على تصاريح.
وأدّت عمليات التوغل المتكررة إلى تفاقم الوضع الاقتصادي للمخيم، لقد دُمرت معظم المحلات التجارية في الشوارع الرئيسة، وتعطلت الحياة اليومية. ويعمل نحو 800 شخص فقط من المخيم داخل السلطة الفلسطينية. وهذه العوامل مجتمعة، إلى جانب الموارد المحدودة والأولويات الأخرى للمسؤولين عن المخيم وسكانه، تساهم في شعور سكان المخيم بالتخلي عنهم. وفي هذا الإطار، قالت السيدة زهرة مرعي: "لقد تُركنا لمصيرنا في هذا المخيم. فلا أحد يستمع إلى معاناتنا".
نقلته إلى العربية: زينب منعم