"فورين أفيرز": الولايات المتحدة غير مستعدة للحروب المستقبلية
ستهيمن على الحروب المستقبلية أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل والخوارزميات القوية على نحو مطرد. هذا المستقبل لا تزال الولايات المتحدة غير مستعدة له.
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً لرئيس هيئة الأركان الأميركي السابق مارك ميلي، ورئيس مشروع الدراسات التنافسية الخاصة والرئيس التنفيذي السابق لشركة "Google" إريك شميدت، يتحدثان فيه عن واقع الحروب الحالية والمستقبلية التي تعتمد بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي، واستعداد الولايات المتحدة لمثل هذا النوع من الحروب وأنظمة القتال التي يفتقر الجيش الأميركي إليها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
في ساحات القتال الأوكرانية، يتحول مستقبل الحرب بسرعة إلى حاضر. آلاف الطائرات المسيرة تملأ السماء وهي تستخدم مع مشغليها أنظمة الذكاء الاصطناعي لتفادي العقبات وتحديد الأهداف المحتملة. وتتسابق كلتا الدولتين، روسيا وأوكرانيا، لتطوير تقنيات أكثر تقدماً تمكنهما من مواجهة الهجمات المتواصلة والتغلب على دفاعات الخصم.
ولا تُعد الحرب في أوكرانيا الصراع الوحيد الذي تعمل فيه التكنولوجيا الجديدة على تحويل طبيعة الحرب؛ ففي ميانمار والسودان، يستخدم المتمردون والحكومة طائرات مسيرة وخوارزميات في أثناء قتالهم. وعام 2020، قصفت طائرة مسيرة تركية الصنع أرسلتها القوات المدعومة من الحكومة الليبية المقاتلين المنسحبين. ولعلّه كان أول هجوم يتم تنفيذه بطائرة مسيرة من دون أي تدخل بشري. وفي العام نفسه، استخدم الجيش الأذربيجاني طائرات مسيرة تركية وإسرائيلية الصنع، إلى جانب طائرات مسيّرة محملة بالمتفجرات، للاستيلاء على جيب ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه. وفي غزة، أرسلت "إسرائيل" آلاف الطائرات المسيرة المتصلة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لمساعدة القوات الإسرائيلية على التنقل في الأخاديد الحضرية في المنطقة.
إلى حد ما، ليس هناك ما يثير الدهشة في وتيرة هذه التطورات، فلطالما حفزت الحرب على الابتكار، ولكن التحولات التي نشهدها اليوم باتت سريعة إلى حد غير عادي، وسيكون لها تأثير أكبر بكثير، ولن تدور الحروب المستقبلية حول من يستطيع حشد أكبر عدد من الناس أو استخدام أفضل الطائرات والسفن والدبابات. وبدلاً من ذلك، ستهيمن عليها أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل والخوارزميات القوية على نحو مطرد.
ولسوء الحظ، فإن هذا هو المستقبل الذي لا تزال الولايات المتحدة غير مستعدة له، فقواتها ليست جاهزة تماماً للقتال في بيئة نادراً ما تستمتع فيها بعنصر المفاجأة، وطائراتها وسفنها ودباباتها غير مجهزة للدفاع ضد هجوم الطائرات المسيرة، ولم يتبنَّ الجيش بعد الذكاء الاصطناعي، ولا يملك البنتاغون ما يكفي من المبادرات الرامية إلى تصحيح هذه الإخفاقات، كما أنّ جهوده الحالية تتحرك بوتيرة بطيئة جداً. في المقابل، أرسل الجيش الروسي الكثير من الطائرات المسيرة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي إلى أوكرانيا. وفي نيسان/أبريل، أعلنت الصين عن أكبر عملية إعادة هيكلة عسكرية لها منذ نحو عقد، مع التركيز الجديد على بناء قوات تعتمد على التكنولوجيا.
وفي حال أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على مكانتها كقوة عالمية بارزة، فسيتعين عليها تغيير مسارها بسرعة، إذ تحتاج البلاد إلى إصلاح هيكل قواتها المسلّحة، ويحتاج الجيش الأميركي إلى إصلاح تكتيكاته وتطوير قيادته. كما يحتاج إلى طرق جديدة لشراء المعدات وشراء أنواع جديدة من العتاد، فضلًا عن تدريب الجنود على تشغيل الطائرات المسيرة واستخدام الذكاء الاصطناعي على نحو أفضل.
ومن المحتمل أن لا يحبذ صناع القرار الأميركيون الذين اعتادوا حكم أقوى جهاز دفاعي في العالم فكرة إجراء مثل هذا الإصلاح الشامل، لكن الروبوتات والذكاء الاصطناعي موجودة لتبقى. وإذا فشلت الولايات المتحدة في قيادة هذه الثورة، فإن الجهات الفاعلة الحاقدة المجهزة بالتقنيات الجديدة ستصبح أكثر استعداداً لمحاولة شن هجمات على الولايات المتحدة. وقد تنجح هذه الأطراف في حال نفذت هجماتها.
التغيير أو الهلاك
يمكن القول إنّ طبيعة الحرب غير قابلة للتغيير؛ ففي أي صراع مسلح، يسعى أحد الأطراف إلى فرض إرادته السياسية على الطرف الآخر من خلال العنف المنظم. ويتم خوض المعارك استناداً إلى معلومات ناقصة. ويتعين على الجيوش أن تتعامل مع ديناميكيات متقلبة باستمرار، بما في ذلك داخل صفوفها، وبينها وبين حكوماتها، وبينها وبين الناس العاديين، فهي تواجه الخوف وسفك الدماء والموت، ومن المستبعد أن تتغير هذه الحقائق حتى مع ظهور الروبوتات.
لكن طبيعة الحرب - كيف تقاتل الجيوش؟ وأين؟ ومتى يحدث القتال؟ وبأي أسلحة وأساليب قيادية؟ – يمكن أن تتطور، ويمكن أن تتغير أيضاً استجابة للسياسة والديموغرافية والاقتصاد. ومع ذلك، هناك قوى قليلة قادرة على إحداث تغيير أكبر من التطور التكنولوجي. على سبيل المثال، ساعد اختراع السروج والحدوات في ظهور سلاح الفرسان في القرن التاسع قبل الميلاد، ما أدى إلى توسيع ساحة المعركة إلى ما هو أبعد من المساحات المنبسطة الضرورية للمركبات وإلى أنواع جديدة من التضاريس.
وقد مكّن ظهور القوس الطويل الذي يمكنه إطلاق السهام لمسافات طويلة المدافعين من اختراق الدروع الثقيلة وتدمير الجيوش المتقدمة من بعيد، وأدى اختراع البارود في القرن التاسع الميلادي إلى استخدام المتفجرات والأسلحة النارية. في المقابل، قام المدافعون ببناء تحصينات أقوى وركزوا بشكل أكبر على إنتاج الأسلحة. كما أصبح تأثير التكنولوجيا أكثر وضوحاً مع الثورة الصناعية، ما أدى إلى ابتكار المدافع الرشاشة والسفن البخارية وأجهزة الراديو. وفي نهاية المطاف، أدى ذلك إلى ظهور المركبات الآلية والمدرعة والطائرات والصواريخ.
يجب على كل الأنظمة الاستعداد
في كثير من الأحيان، كان يصعب على المخططين العسكريين التنبؤ بالابتكارات التي ستشكّل المعارك المستقبلية. أمّا اليوم، فإنّ التنبؤات باتت أسهل، فالطائرات المسيّرة منتشرة في كل مكان والروبوتات تستخدم بشكل متزايد. وقد أظهرت الحرب في كل من غزة وأوكرانيا أنّ الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل بتغيير الطريقة التي تقاتل بها الأطراف. ومن المرجح أن يشهد الصراع الرئيس التالي دمجاً شاملًا للذكاء الاصطناعي في كل جانب من جوانب التخطيط والتنفيذ العسكريين.
وقد سبق أن ابتكر الجيش الصيني قائداً يعمل بالذكاء الاصطناعي يتمتع بسلطة عليا في ألعاب الحرب الافتراضية واسعة النطاق. وعلى الرغم من أنّ بكين تحظر على أنظمة الذكاء الاصطناعي اتخاذ الخيارات في المواقف الحية، فإنّها يمكن أن تستفيد من الدروس التي تتعلمها من عمليات المحاكاة الافتراضية الكثيرة وتلقيها على صناع القرار من البشر.
وقد تمنح الصين في نهاية المطاف نماذج الذكاء الاصطناعي سلطة اتخاذ الاختيارات أسوةً بدول أخرى. ويمكن للجنود احتساء القهوة في مكاتبهم ومراقبة الشاشات بعيداً عن ساحة المعركة، إذ يدير نظام الذكاء الاصطناعي جميع أنواع آلات الحرب الروبوتية. وقد سعت أوكرانيا بالفعل لتسليم أكبر عدد ممكن من المهام الخطيرة في الخطوط الأمامية للروبوتات للحفاظ على القوى العاملة المحدودة.
وحتى الآن، ركّزت الأتمتة على القوة البحرية والقوة الجوية في شكل مسيّرات بحرية وجوية، لكنها ستتحول إلى حرب برية قريباً. وفي المستقبل، يُرجح أن تقود المرحلة الأولى من أي حرب روبوتات أرضية قادرة على القيام بكل شيء بدءاً من الاستطلاع ووصولاً إلى تنفيذ هجمات مباشرة.
وقد سبق أن نشرت روسيا مركبات برية ذاتية التشغيل يمكنها إطلاق صواريخ مضادة للدبابات وقنابل وطائرات مسيرة. كذلك، استخدمت أوكرانيا الروبوتات لإجلاء المصابين والتخلص من المتفجرات. وستتولى أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تستخدم أجهزة استشعار الروبوتات لرسم خريطة لساحة المعركة والتنبؤ بنقاط الهجوم قيادة الجيل التالي من الآلات. وحتى عند تدخل الجنود البشر، فسيقودهم مشغّل الطائرات المسيرة ليساعدهم في تحديد العدو. كما سيعتمدون على الآلات لتطهير حقول الألغام، ولامتصاص صدمات طلقات العدو الأولى، وكشف أماكن الخصوم المختبئين. وفي حال امتدت حرب روسيا على أوكرانيا إلى أجزاء أخرى من أوروبا، فإنّ الموجة الأولى من الروبوتات الأرضية والطائرات المسيّرة قد تُمكن كلاً من حلف الناتو وروسيا من الإشراف على خط أمامي أوسع، ما يستطيع البشر وحدهم مهاجمته أو الدفاع عنه.
وقد تكون أتمتة الحرب ضرورية لإنقاذ حياة المدنيين. تاريخياً، كانت الحروب تُخاض ويتحقق فيها النصر في مناطق مفتوحة يعيش فيها قلّة من الناس، ولكن مع اجتذاب التحضر العالمي المزيد من الناس إلى المدن وتحول الجهات الفاعلة غير الحكومية إلى أساليب حرب العصابات فيها، فمن المرجح أن تكون ساحات القتال الحاسمة في المستقبل هي المناطق ذات الكثافة السكانية العالية. وبالتالي، فإنّ مثل هذا القتال يُعد أكثر فتكاً بكثير وأكثر استهلاكاً للموارد، وسيتطلب الأمر المزيد من الأسلحة الآلية، وسيتعين على الجيوش نشر روبوتات صغيرة قادرة على المناورة (مثل الكلاب الآلية) في الشوارع وإغراق السماء بمسيرات للسيطرة على المدن، وسيتم توجيهها بالخوارزميات التي يمكنها معالجة البيانات المرئية واتخاذ قرارات في أجزاء من الثانية. وقد أصبحت "إسرائيل" رائدة في هذه التكنولوجيا، باستخدام أول سرب حقيقي من الطائرات المسيّرة في غزة عام 2021.
إضافة إلى ذلك، يُعد استخدام الأسلحة ذاتية التشغيل أمراً ضرورياً نظراً إلى سعرها المنخفض، إذ تعتبر الطائرت المسيّرة من الأسلحة ذات السعر المعقول مقارنة بالطائرات العسكرية التقليدية. على سبيل المثال، تبلغ تكلفة طائرة مسيرة من طراز "إم كيو -9 ريبر" (MQ-9 Reaper) نحو ربع تكلفة طائرة مقاتلة من طراز "إف-35" (F-35). وتعتبر طائرة "إم كيو-9" (MQ-9) من أغلى هذه الأسلحة؛ إذ يمكن أن تكلّف طائرة مسيّرة بسيطة من منظور الشخص الأول 500 دولار فقط. ويستطيع فريق مكوّن من عشرة منها شلّ حركة دبابة تبلغ قيمتها 10 ملايين دولار.
وقد تسمح هذه القدرة على تحمل التكاليف للدول بإرسال أسراب من الطائرات المسيرة - بعضها مصمم للمراقبة والبعض الآخر للهجوم – من دون القلق بشأن استنزافها. ويمكن لهذه الأسراب بعد ذلك أن تطغى على أنظمة الدفاع الجوي القديمة التي لم يتم تصميمها لإسقاط مئات الأجسام في وقت واحد. وحتى عندما تسود أنظمة الدفاع، فإنّ تكلفة الدفاع ضد الأسراب ستتجاوز تكلفة الهجوم بالنسبة إلى العدو بكثير. مثلاً، بلغت تكلفة الهجوم الصاروخي والطائرات المسيرة التي نفذتها إيران في نيسان/أبريل ضد "إسرائيل" 100 مليون دولار كحد أقصى، في حين كلفت جهود الاعتراض الأميركية والإسرائيلية أكثر من 2 مليار دولار.
بطبيعة الحال، فإنّ القدرة على تحمل تكاليف هذه الأسلحة ستجعل الهجوم أسهل بكثير، ما يؤدي بدوره إلى تمكين الجهات الفاعلة المقتصدة وغير الحكومية، إذ يستخدم المقاتلون المدعومون من إيران طائرات مسيّرة لضرب القواعد الجوية الأميركية في العراق، ويقوم اليمنيون بإرسال طائرات مسيّرة لضرب السفن في البحر الأحمر. وقد أدت هجماتهم إلى مضاعفة تكلفة الشحن من آسيا إلى أوروبا ثلاث مرات. ومن الممكن أن تشارك مجموعات أخرى في هذا العمل قريباً. على سبيل المثال قد ينخرط كل من حزب الله في منطقة الشرق الأوسط في المزيد من الهجمات الإقليمية.
وفي حال وقوع هجوم برمائي صيني، يجب على تايوان وحلفائها تصنيع الطائرات المسيّرة بكميات كبيرة، وقد تكون الأنظمة ذاتية التشغيل، في البر والبحر والجو، الطريقة الوحيدة لصدّ الهجوم.
ضرورة إجراء إصلاحات كبرى
لا توجد دولة مستعدة بشكل كامل للحروب المستقبلية، إذ لم تبدأ أي دولة بإنتاج الأجهزة التي تحتاجها للأسلحة الآلية على نطاق واسع، ولم تقم أي دولة بإنشاء البرامج اللازمة لتشغيل الأسلحة الآلية بالكامل، لكن بعض الدول تتقدم أكثر من غيرها. ولسوء الحظ، فإنّ خصوم الولايات المتحدة يتقدمون في عدّة نواح، فقد قامت روسيا بعد اكتسابها خبرة في أوكرانيا بزيادة إنتاجها من الطائرات المسيّرة بشكل كبير، وهي تستخدمها حالياً لإحداث تأثير كبير في ساحة المعركة.
وتهيمن الصين على السوق العالمية للطائرات المسيرة التجارية، إذ تسيطر شركة "دي جاي آي" الصينية (DJI) على نحو 70% من الإنتاج العالمي للطائرات المسيرة التجارية. وبسبب البنية السلطوية للصين، أثبت الجيش الصيني براعته بشكل خاص في دفع التغييرات وتبنّي مفاهيم جديدة. ويستلزم المفهوم الأول، الذي يطلق عليه "الحرب الدقيقة متعددة المجالات"، استخدام جيش التحرير الشعبي للاستخبارات المتقدمة والاستطلاع والتكنولوجيات الناشئة الأخرى لتنسيق القوة النارية.
وعندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، فإن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بأعلى مستويات الجودة وتنفق عليها أكثر من غيرها من الدول. ومع ذلك، فإنّ الصين وروسيا تحرزان تقدماً سريعاً. صحيح أنّ واشنطن تمتلك الموارد اللازمة للاستمرار في الإنفاق أكثر من تلك الدول، ولكن حتى لو حافظت على هذه الريادة، فقد تواجه صعوبات في التغلب على العقبات البيروقراطية والصناعية التي تحول دون نشر ابتكاراتها في ساحة المعركة.
ونتيجة لذلك، فإنّ الجيش الأميركي يخاطر بخوض حرب يصبح فيها تدريبه من الدرجة الأولى وأسلحته التقليدية المتفوقة أقل فعالية؛ فالقوات الأميركية، على سبيل المثال، لم تكن مستعدة بشكل كامل للعمل في ساحة المعركة، إذ يمكن رصد كل تحركاتها، ويمكن استهدافها بسرعة من قبل الطائرات المسيرة التي تحوم في سماء المنطقة. وبالتالي، ستشكل قلة الخبرة خطراً بشكل خاص في ساحات القتال المفتوحة مثل تلك الموجودة في أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية الأخرى أو في مساحات واسعة من المنطقة القطبية الشمالية. كما سيكون الجيش الأميركي معرضاً للخطر بشكل خاص في ساحات القتال في المدن، إذ يمكن للأعداء قطع خطوط الاتصالات الأميركية بسهولة أكبر، وتصبح الكثير من الأسلحة الأميركية أقل نفعاً.
وحتى في البحر، ستكون الولايات المتحدة مهددة بتقدم خصومها، إذ يمكن للصواريخ الصينية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت أن تغرق حاملات الطائرات الأميركية قبل خروجها من قاعدة "بيرل هاربر" العسكرية، وتقوم بكين حالياً بنشر أنظمة مراقبة وحرب إلكترونية تعمل بالذكاء الاصطناعي، الأمر الذي قد يمنحها ميزة دفاعية على الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بأكملها.
وفي الجو، قد تواجه طائرة "إف-35" (F-35 ) القادرة والباهظة الثمن صعوبات في مواجهة أسراب من الطائرات المسيرة الرخيصة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دبابات "أبرامز" و"برادلي" المدرّعة على الأرض. وبالنظر إلى هذه الحقائق المؤسفة، فإنّ المخططين العسكريين الأميركيين محقون في استنتاجهم بأن عصر حملات "الصدمة والرعب" التي يمكن لواشنطن من خلالها القضاء على خصومها بقوة نيران ساحقة ولّى.
ولتجنّب إصابة الجيش الأميركي بالإهمال، فإنه يحتاج إلى إجراء إصلاحات كبرى. ويمكنه أن يبدأ بتغيير عملياته للحصول على البرمجيات والأسلحة.
وعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تتطلع إلى الشراء من مجموعة أكبر من الشركات، وأن لا تكتفي بالشركات الحالية التي تشتري منها؛ ففي عام 2022، تلقت شركات "لوكهيد مارتن" (Lockheed Martin) و"آر تي إكس" (RTX) و"جنرال دايناميكس" (General Dynamics) و"بوينغ" (Boeing) و"نورثروب غرومان" (Northrop Grumman) أكثر من 30% من إجمالي عقود وزارة الدفاع الآجلة. في المقابل، لم تتلقَ الشركات الجديدة المصنعة للأسلحة أي عقد.
وخلال العام الفائت، ذهب أقل من 1% من جميع عقود وزارة الدفاع إلى الشركات المدعومة بالمشاريع، والتي تكون بشكل عام أكثر ابتكاراً من نظيراتها الأكبر حجماً. وبناء عليه، ينبغي أن تكون هذه النسب أكثر مساواة بكثير. ومن المستبعد أن يتم تصميم الجيل التالي من الطائرات المسيرة الصغيرة والرخيصة من قبل شركات الدفاع التقليدية التي يتم تحفيزها لإنتاج معدات فاخرة وباهظة الثمن في آنٍ.
وللتكيف مع المستقبل، ستحتاج الولايات المتحدة إلى القيام بما هو أكثر من مجرد إصلاح الطريقة التي تشتري بها الأسلحة، ويتوجب عليها أيضاً تغيير الهياكل التنظيمية وأنظمة التدريب العسكرية. كما ينبغي لها أن تجعل سلسلة قيادتها المعقدة والهرمية أكثر مرونة، وأن تمنح قدراً أكبر من الاستقلالية للوحدات الصغيرة كثيرة الحركة. ويجب أن تمتلك هذه الوحدات قادة مدربين ومتمكنين من اتخاذ قرارات قتالية حاسمة، وستكون مثل هذه الوحدات أكثر ذكاءً، وهي ميزة مهمة نظراً إلى الوتيرة السريعة للحرب التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وأقل عرضة للإصابة بالشلل في حال قام الخصوم بتعطيل خطوط اتصالاتهم مع المقر الرئيس.
المخاطر والمكاسب
سيكون للعصر الجديد من الحرب فوائد قياسية. ومن الممكن أن يؤدي التقدم في التكنولوجيا الدقيقة إلى تقليل القصف الجوي العشوائي والهجمات المدفعية، ويمكن للطائرات المسيرة أن تنقذ حياة الجنود في المعركة، لكن معدلات الضحايا المدنيين في غزة وأوكرانيا تلقي بظلال الشك على فكرة أنّ الصراعات أصبحت أقل فتكاً بشكل عام، وخصوصاً مع انتقالها إلى المدن.
ويفتح بروز حرب الذكاء الاصطناعي صندوق "باندورا" للقضايا الأخلاقية والقانونية، فقد استخدم الجيش الإسرائيلي برنامج ذكاء اصطناعي يسمى "لافندر" لتحديد مواقع المسلحين المحتملين واستهداف منازلهم بغارات جوية في قطاع غزة المكتظ بالسكان. هذا البرنامج لا يتطلب إشرافاً كبيراً من البشر؛ ووفقاً لمجلة "+972" الإسرائيلية، يحصل الجنود على تصريح لكل هجوم خلال 20 ثانية فقط.
وفي أسوأ السيناريوهات، قد تؤدي حرب الذكاء الاصطناعي إلى تعريض البشرية للخطر، فقد وجدت الألعاب الحربية التي تم ابتكارها باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي من "أوبن إي آي" (OpenAI) و"ميتا" (Meta) و"أنتروبيك" (Anthropic) أنّ نماذج الذكاء الاصطناعي تميل إلى التصعيد فجأة إلى الحرب الحركية، بما في ذلك الحرب النووية، مقارنة بالألعاب التي ابتكرها البشر.
ولا يتطلب الأمر الكثير من الخيال لمعرفة كيف يمكن أن تسوء الأمور بشكل فظيع إذا تم استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه بالفعل.
عام 1983، صنّف نظام الكشف عن الصواريخ السوفياتي الضوء المنعكس من السحب بشكل خاطئ على أنه هجوم نووي قادم. ولحسن الحظ، كان لدى الجيش السوفياتي جندي بشري مسؤول عن معالجة التنبيه، فأكد أن التحذير كاذب، ولكن في عصر الذكاء الاصطناعي، قد لا يكون هناك إنسان ليتأكد من عمل النظام.
ولحسن الحظ أيضاً، يبدو أنّ الصين والولايات المتحدة تدركان ضرورة التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي أعقاب القمة التي عُقدت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، تعهّد كل من الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الصيني شي بمناقشة قضايا مخاطر الذكاء الاصطناعي وسلامته بشكل مشترك، وعُقدت الجولة الأولى من المحادثات في جنيف في أيار/مايو. هذا الحوار ضروري؛ فحتى لو بدأ التعاون بين القوتين العظميين على نطاق صغير، وربما لم يحقق شيئاً أكثر من إنشاء لغة مشتركة في ما يتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب، فقد يؤسس لتحقيق خطوة أكبر.
وخلال الحرب الباردة، وهي حقبة تنافست فيها القوى العظمى بشكل أكثر حدة من المنافسة الحالية بين الولايات المتحدة والصين، تمكّن كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من بناء نظام قوي لتدابير السلامة النووية. وعلى غرار السوفيات، يمتلك المسؤولون الصينيون دوافع للتعاون مع واشنطن للسيطرة على الأسلحة الجديدة، فلكل من الولايات المتحدة والصين رؤى عالمية مختلفة، ولكنْ كلاهما يسعى لعدم تمكين الإرهابيين من حيازة الروبوتات الخطيرة. وقد يرغبان أيضاً في منع الدول الأخرى من الحصول على مثل هذه التكنولوجيا، فالقوى العظمى التي تمتلك التكنولوجيا العسكرية الهائلة لديها دائماً مصلحة متداخلة في الاحتفاظ بها لنفسها.
وحتى لو لم تبدِ الصين أي تعاون، يجب على الولايات المتحدة التأكد من أنّ الذكاء الاصطناعي العسكري الخاص بها يخضع لضوابط صارمة، والتأكد من قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية. وينبغي لها أن تبقي هذه الأنظمة تحت سيطرة البشر واختبارها وتقييمها بشكل مستمر للتأكد من أنها تعمل على النحو المنشود في ظروف العالم الحقيقي. وإضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة الضغط على الدول الأخرى، الحليفة والمعادية على حد سواء، لتبني إجراءات مماثلة.
الحرب سيئة ووحشية، وغالباً ما تكون طويلة جداً. ومن الوهم الاعتقاد بأنّ التكنولوجيا ستغيّر الطبيعة البشرية الكامنة وراء الصراع، إلا أنّ طبيعة الحرب تتغير بسرعة وبشكل جذري، ويتعين على الولايات المتحدة أن تتغير وتتكيف، وعلى المسؤولين الأميركيين أن يفعلوا ذلك بسرعة أكبر من خصوم بلادهم.
نقلته إلى العربية: زينب منعم