"ريسبونسابل ستيتكرافت": الخلاف الحالي بين أوكرانيا وبولندا يفضح مشاكل التاريخ
معهد "ريسبونسابل ستيتكرافت" الأميركي يقول إن الحكومة الأوكرانية وجهت اتهامات ضد بولندا في منظمة التجارة العالمية، وزعمت أن التحرك البولندي كان مدفوعاً.
نشر معهد "ريسبونسابل ستيتكرافت" الأميركي، اليوم الخميس، مقالاً للكاتب أناتول ليفين، يتحدث فيه عن الخلاف الحالي بين أوكرانيا وبولندا، ويقول إن كيييف و وارسو سعتا للتخفيف من الثقل التاريخي على علاقتهما في السنوات الأخيرة.
وفيما يلي نص المقال نشوراً إلى العربية:
يسلط تصاعد النزاع العنيف بين وارسو و كييف، الضوء على بعض جوانب النهج الغربي في التعامل مع الحرب في أوكرانيا، والتي تفرض على حكومة زيلنسكي أن تدرسها بعناية.
صادرات أوكرانيا من الحبوب المتزايدة إلى أوروبا، نتيجة لإغلاق روسيا للبحر الأسود بوجه أوكرانيا، كانت أدت إلى إغراق الأسواق الأوروبية وانخفاض الأسعار بالنسبة للمزارعين البولنديين وغيرهم من المزارعين، مما أشعل النزاع بين "حلفاء" الحرب من شرق أوروبا إلى وسطها.
وكان الاتحاد الأوروبي قد فرض حظراً مؤقتاً على صادرات الحبوب الأوكرانية، انتهى سريانه في 15 أيلول/سبتمبر، ورفضت بروكسل تمديده، لكن بولندا وسلوفاكيا وهنغاريا استمروا بالتزام الحظر، في تحد لقرار الاتحاد الأوروبي.
وقد وجهت الحكومة الأوكرانية اتهامات ضد بولندا في منظمة التجارة العالمية، وزعمت أن التحرك البولندي كان مدفوعاً في الأساس برغبة الحكومة في الاستحواذ على أصوات المزارعين في الانتخابات العامة البولندية المقرر إجراؤها الشهر المقبل. وفي حديثه أمام الأمم المتحدة، اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بولندا ودولًا أخرى بالانخراط في مسرحيات و"صنع قصص مثيرة من توريد الحبوب".
ورد رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي بشدة على زيلينسكي قائلاً له:" عليك أنّ لا تحاول إهانة البولنديين مرة أخرى، ولن يسمح الشعب البولندي بحدوث ذلك أبدًا، والدفاع عن السمعة الطيبة لبولندا ليس واجبي وشرفي فحسب، بل أيضًا أهم مهمة للحكومة البولندية".
وكان الرئيس البولندي أندريه دودا قد وصف أوكرانيا، " كشخص يغرق يحاول التمسك بكل ما هو متاح بشكل خطير للغاية، وتسحب منقذها إلى الغرق معها إلى الأعماق".
وفي خطوة فُسرت على نطاق واسع باعتبارها انتقاماً لاحتجاجات أوكرانيا ضد حظر الحبوب، أوقفت بولندا شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، وأصرت على أنها ستركز الآن على تجهيز قواتها المسلحة للدفاع عن بولندا.
وما يجعل هذا الأمر غير عادي هو أن بولندا تصور نفسها منذ فترة طويلة على أنها أعظم صديق لأوكرانيا في الغرب، وتتهم الحكومات الغربية الأخرى بالجبن لعدم بذل المزيد من الجهد لتسليح ودعم أوكرانيا.
الدرس الأول الذي يمكن تعلمه من كل هذا هو أنه حتى في البلدان التي يعتبر سكانها الأكثر دعما لأوكرانيا، فإن هذا الدعم سوف يكون له حدود عندما يفرض تكاليف باهظة وواضحة على أنفسهم، وأن الساسة سوف يستغلون حتما ردة الفعل السياسية الناتجة عن ذلك. وهذا له آثار خاصة على فرص أوكرانيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي حالة بولندا وغيرها من "الدول الاشتراكية" السابقة في أوروبا الوسطى، فإن طريقها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي كان مدعوماً بكميات وفيرة من المساعدات المالية التي قدمها الاتحاد الأوروبي. ويواصل صندوق التنمية الإقليمية التابع للاتحاد الأوروبي دعم المناطق المنكوبة في بولندا وجيرانها. ولكن دعم أوكرانيا إلى الحد الذي يمكنها من دخول الاتحاد الأوروبي سوف يكون مهمة ذات مستوى مختلف من حيث الحجم.
حتى قبل الغزو الروسي، كانت أوكرانيا واحدة من أفقر الدول في أوروبا، حيث بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، ما يساوي 4828 دولاراً فقط ، وبالمقارنة بمتوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 38436 دولاراً، كانت فرصها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل المنظور تعتبر ضئيلة وهشة.
فضلاً عن ذلك فإن دول الاتحاد الأوروبي في أوروبا الغربية والوسطى على السواء كانت دائماً تخشى الواردات الغذائية الرخيصة من أوكرانيا. منعت اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي صراحة معظم صادرات الحبوب الأوكرانية كجزء من استراتيجية الاتحاد الأوروبي للدفاع عن المزارعين الأوروبيين من خلال سياسته الزراعية المشتركة. تمت إزالة هذا الحظر من قبل بروكسل فقط رداً على الغزو والحصار الروسي. وقد استعادتها بولندا الآن.
وفي شهر آذار/مارس من هذا العام، قدر البنك الدولي تكلفة إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب حتى ذلك الحين بنحو 411 مليار دولار، وستزداد هذه التكلفة بالطبع كلما طال أمد الحرب. بلغ إجمالي إنفاق الاتحاد الأوروبي على المناطق المصابة بالكساد بين دوله من عام 2014 إلى عام 2021، 200 مليار دولار. وبالحكم على تحركات بولندا الأخيرة، يبدو من غير المحتمل أن تطلب الحكومة البولندية المستقبلية من ناخبيها دفع حصة بولندا في مثل هذه التكاليف، وإذا لم تفعل بولندا ذلك، فمن سيفعل؟
الأمر الآخر الذي يتعين على الأوكرانيين أن ينتبهوا إليه هو أن الكراهية لروسيا والتعاطف الحقيقي مع أوكرانيا، كما تجسدت في تصرفات بولندا الأخيرة، ليسا نفس الشيء على الإطلاق، بل وربما يتناقضان. فيما يتعلق بالكراهية البولندية لروسيا، لا يمكن أن يكون هناك شك؛ ولكن يكمن وراء الخطاب القاسي بشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة حقيقة مفادها أن البولنديين والأوكرانيين كانوا أعداء لدودين في مراحل تاريخية طويلة.
سعت المملكة البولندية، والجمهورية البولندية بين عامي 1919 و1939، إلى جعل رعاياهم الأوكرانيين بولونيين، تماماً كما حاول الروس ترويس رعاياهم. أدت الثورات الأوكرانية ضد الحكم البولندي إلى ذبح البولندييين إلى جانب اليهود. وساعدت الصراعات السياسية بين البولنديين والأوكرانيين للسيطرة على غاليسيا في تقويض الإمبراطورية النمساوية الهنغارية في السنوات التي سبقت عام 1914. وبعد عام 1918، ضمت بولندا المناطق الأوكرانية في غاليسيا بالقوة، واحتفظت بها حتى تم نقلها إلى أوكرانيا السوفيتية على يد جوزيف ستالين.
أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ذبح الثوار القوميون الأوكرانيون عشرات الآلاف من البولنديين لأسباب عرقية، وشارك الأوكرانيون الذين يخدمون في الفرقة النازية الألمانية "أس أس" في القمع القاسي للمقاومة البولندية خلال الحرب العالمية الثانية. ومع أنّ كيييف و وارسو سعتا للتخفيف من الثقل التاريخي على علاقتهما في السنوات الأخيرة، لكنه لا يزال يتدفق إلى العلن من كلا الجانبين.
هذا بما يخص علاقات بولندا وأوكرانيا، التي لا تقل أهمية عن علاقة أوكرانيا بالولايات المتحدة الأميركية،وعلى الأوكرانيين أنّ يسألوا أنفسهم أيضاً عن مقدار الدعم الأميركي لهم الذي يحركه التعاطف الحقيقي معهم، نسبة لهدفهم في قتل أكبر عدد ممكن من الروس وإضعاف روسيا قدر الإمكان؟.
وهل من أسئلة عن عدد الأوكرانيين الذين سيموتون وما مدى الضعف الذي ستجنيه أوكرانيا من هذه العملية، في وقت تصدر فيه بعض التصريحات عن سياسيين ومسؤولين أمريكيين، وهم يتفاخرون بأنهم يدمرون الجيش الروسي دون أن يخسروا جندياً أميركياً واحداً. ويعتبر هؤلاء أنّ هزيمة روسيا ضرورة لإضعاف الصين، ويغضون النظر عن أن الجنود الأوكرانيين لا يقاتلون ويموتون لهذا السبب على الاطلاق.
قد تضعف الحرب روسيا بنسبة ما، لكنها ستؤدي إلى تدمير أوكرانيا كبلد مستقل، مما يمنع عنها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، والوعود الغربية حول هذا المسار سوف تتبخر في نهاية المطاف، وسوف تظل أوكرانيا، كما كانت طيلة القسم الأعظم من التاريخ منطقة حدودية فقيرة بين بولندا وروسيا.