"بوليتيكو": بين موسيليني وترامب.. هذا ما تفعله محاولات الاغتيال حقاً
أنف موسوليني المضمد وأذن ترامب المضمدة يتحدثان عن اتخاذ المستبدين الشدائد وسيلة لتعزيز سلطتهم على حساب الديمقراطية.
صحيفة "بوليتيكو" الأميركية تنشر مقالاً لأستاذة التاريخ والدراسات الإيطالية في جامعة نيويورك، روث بنغيت، تتحدث فيه عن محاولات اغتيال الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني واستخدامها لفرض سلطته وتوسيعها، وكيف يمكن أن يحذو دونالد ترامب حذوه مستغلاً محاولة اغتياله.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في 7 نيسان/أبريل 1926، ألقى الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني خطاباً أمام مؤتمر للجراحين، ثم بدأ يسير مع مساعديه في شوارع روما. عندما وصل إلى ساحة ديل كامبيدوجليو، تم إطلاق النار عليه. خدشت الرصاصة أنفه، وحاولت المنفّذة البريطانية من أصل إيرلندي فيوليت جيبسون إطلاق النار عليه مرة أخرى، لكن بندقيتها تعطّلت، وسرعان ما اعتقلتها الشرطة. تم نقل موسوليني إلى مكان آمن، ولكن بعد ساعات قليلة ظهر علناً لطمأنة جمهوره، والتُقطت صورة له، بإيعاز منه، مع ضمادة بيضاء كبيرة على أنفه.
محاولات الاغتيال هي محاولة لتغيير النظام السياسي بضربة واحدة، لكن التاريخ يظهر أنها غالباً ما تأتي بنتائج عكسية. وفي أغلب الأحيان، لا تؤدي إلى القضاء على الرجل القوي، بل تعمل على تعزيزه وتعزيز عبادة شخصيته، وموسوليني خير مثال على ذلك.
بعدما شغل منصب رئيس وزراء الحكومة الائتلافية، أعلن موسوليني النظام الدكتاتوري في كانون الثاني/يناير 1925. وكانت محاولة جيبسون لاغتيال موسيليني هي الثالثة من نوعها، إذ سبقتها محاولة اغتيال من قبل المناهض للفاشية الإيطالي تيتو زامبوني، عضو البرلمان الاشتراكي، الذي اعتقل قبل أن يتمكن من إطلاق النار على موسيليني، وأخرى حاول تنفيذها المدعو جينو لوسيتي، عندما ألقى قنبلة على موكبه، لكنّها لم تنفجر.
واستغل موسيليني محاولات الاغتيال هذه من أجل إصدار سلسلة "قوانين الدفاع عن الدولة" التي حوّلت إيطاليا من الديمقراطية إلى النظام وتبريرها.
ووسّع السلطة التنفيذية على حساب السلطة القضائية والبرلمان، وأنهى وحزبه الفاشي حرية الصحافة، وحظر جميع الأحزاب السياسية المعارضة، وحظر الإضرابات والنقابات غير الفاشية، وأنشأ الشرطة السرية "OVRA" سيئة السمعة، وأوضحت القوانين أنّ أيّ اعتداء على الزعيم يعدّ اعتداء على الدولة والوحدة الوطنية.
بالنسبة إلى الفاشيين، لم يكن القائد يمثل الأمة فحسب، بل كان يجسدها جسدياً. لقد تلقّى الضربات من أجل الأمة، وبالتالي فإنّ جراحه كانت أيضاً جراحاً للشعب الذي يكدح من أجلهم. ولهذا السبب، قام موسوليني بالتقاط الصور بعد الهجوم، وأصبحت الضمادة على أنفه بمنزلة وسام شرف. ولهذا السبب، أصبحت كل محاولة اغتيال فاشلة بمنزلة مادة لعبادته وإثبات صلابته وقدرته على التغلب عليها.
"الرصاص يمر، موسوليني يبقى". الزعيم الإيطالي عن محاولات الاغتيال في سيرته الذاتية التي كتبها عام 1928.
إنّ تاريخ ترسيخ موسوليني للسلطة والهجمات التي تخللتها تلك العملية يحمل دروساً لفهمنا لعقلية وأساليب دونالد ترامب بعد محاولة اغتياله في تجمع حاشد الشهر الماضي.
يمكن المبالغة في المقارنة بين موسوليني وترامب، لسبب واحد، وهو أنّ ترامب ليس في السلطة في الوقت الحالي. إنّه رجل قوي طموح، ولكن لا يمكننا أن نعرف على وجه اليقين ما سيكون رد فعله لو وقع إطلاق النار عندما كان في البيت الأبيض، وما إذا كان سيستخدمه لقمع المنتقدين أو توسيع سلطته.
ما هو واضح بالفعل هو أنّ محاولة الاغتيال جعلت عبادة شخصية ترامب أكبر لدى أتباعه، وأصبحت الآن ادعاءاته بأنه ضحية مستهدفة نيابة عنهم أكثر مصداقية، وتعززت شخصيته كمقاتل لا يقهر.
منذ موسيليني، أظهر القادة مراراً وتكراراً أنهم مبنيون بشكل مختلف عن الآخرين. إنهم يفكرون مسبقاً، ويبقون مسيطرين على المواقف حتى في اللحظات التي يتم فيها استهدافهم شخصياً، وهم يدركون تماماً التأثير السياسي والإعلامي لأحداث التاريخ، بما في ذلك محاولات الاغتيال.
إنّ الإلمام بسلوك الرجال الأقوياء يمنح تصرفات ترامب في الدقائق الدرامية التي أعقبت إطلاق النار عليه إطاراً مرجعياً حاسماً. معظم الناس في هذا الموقف كان لديهم غريزة الفرار إلى بر الأمان. ليس ترامب الذي طلب من عملاء الخدمة السرية "الانتظار، الانتظار" حتى يتمكن من ارتداء حذائه وكشف وجهه وذراعه ويده أمام الكاميرات والحشد، وتوجيه ضربة القبضة ورسالة: "قاتل، قاتل، قاتل" التي خلقت على الفور صورة مميزة.
بهذه المبادرة، كرّس ترامب عبادة شخصيته، وطمأن الملايين من أتباعه المخلصين بأنه نجا ولم يهزم، تماماً كما فعل موسوليني مع صورته قبل 100 عام تقريباً. من المؤكد أنّ قيام الجمهوريين في مؤتمر الحزب الجمهوري بربط ضمادات بيضاء على آذانهم تكريماً لجرح ترامب كان من شأنه أن يثير إعجاب موسوليني.
الخطر هو ما يأتي بعد ذلك.
العنف
وكانت القوانين التي حرمت الإيطاليين من حرياتهم ومحاولات الاغتيال التي رافقتها جزءاً من دورة العنف التي نتجت من ظرف قد يبدو مألوفاً: الرغبة اليائسة لدى الزعيم في تجنب التعرض والملاحقة القضائية على جرائمه.
واكتسبت الفاشية السلطة من خلال زرع الرعب لدى الناس. وبمجرد وصوله إلى السلطة كرئيس للوزراء، استمر موسوليني في استخدام العنف لترهيب المنتقدين، ثم جاء عمل العنف الفاشي الذي أدّى إلى نتائج عكسية عليه؛ فقد أمر بقتل الزعيم الاشتراكي جياكومو ماتيوتي، المحامي والناشط في مكافحة الفساد. واتهمت الصحافة المعارضة موسيليني بالتواطؤ في الجريمة. وبحلول نهاية العام، بدأ حلفاؤه المحافظون بالضغط عليه لتقديم استقالته. وقال الناقد الفني أوغو أوجيتي في ذلك الوقت: "في الواقع، هناك رجلان ميتان، ماتيوتي وموسوليني".
وفي مواجهة السجن المحتمل وانهيار حياته السياسية، اتخذ موسوليني في 3 كانون الثاني/يناير 1925 خطوة جريئة، معلناً أنّ إيطاليا ستصبح دكتاتورية، وأنّه وحزبه فوق القانون.
وقال: "أنا وحدي أتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والتاريخية عن كل ما حدث. إذا كانت الفاشية جمعية إجرامية، فأنا رئيس تلك الجمعية الإجرامية. أيها السادة، إيطاليا تريد السلام والهدوء والعمل". وأضاف بصوت مرعب: "سنعطيها ذلك بالحب إن أمكن أو بالقوة إذا لزم الأمر".
آنذاك، كما هي الحال الآن، كان الاستبداد يستلزم تحويل حكم القانون إلى حكم الخارجين على القانون، وكان الزعماء المستبدون يستخدمون العفو بشكل روتيني لتحرير المجرمين الذين يمكنهم استغلال مهاراتهم القيّمة في الحزب والحكومة. في تموز/يوليو 1925، أصدر موسيليني عفواً عن جميع المجرمين السياسيين، ما أدّى إلى تحرير العصابات البلطجية المعروفة باسم "القمصان السوداء" التي ساعدته في الوصول إلى السلطة.
وقد قام بإصلاح مشكلاته القانونية بإقالة القضاة الذين كانوا يشرفون على تحقيق مقتل ماتيوتي، وأصدر من حلّ محلهم الحكم بالقتل غير العمد، ما أدّى إلى تبرئته من المسؤولية المباشرة عن الجريمة.
كانت هذه هي الخلفية الدرامية والسياق لـ"قوانين الدفاع عن الدولة" التي جاءت نتيجة شعور موسوليني بالتهديد الجسدي والسياسي. لقد كانت في جوهرها قوانين للدفاع عنه. وقد خلقت البنية التحتية القمعية للنظام.
وبعد محاولتي الاغتيال في أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر 1925، قام موسوليني بتوسيع سلطة السلطة التنفيذية لمنحها جميع وظائف الدولة، وجعل الأوامر التنفيذية سارية المفعول من دون موافقة البرلمان، ما خلق وضعاً حكومياً لا يمكن فيه تحدي إرادته.
وقد أنشأ موسيليني أيضاً إطاراً قضائياً منحه حصانة فعلية من أي عواقب لأفعاله.
كما أنّ سلسلة محاولات الاغتيال الموجهة إليه خلال هذه الفترة افتتحت أيضاً تاريخاً من الأشخاص الذين يعتقدون أنّ القضاء على الزعيم هو السبيل لإغراق الدكتاتورية الشخصية بأقصى قدر من الكفاءة. وبدلاً من ذلك، غالباً ما تؤدي محاولة الاغتيال الفاشلة إلى تعزيز عبادة شخصية الزعيم، وتضفي مصداقية على الروايات حول قدرته المطلقة والحاجة إلى قوانينه القمعية للحفاظ على البلاد آمنة من الجريمة.
وكانت هذه هي الحال حتى الآن مع ترامب، الذي استغل أنصاره حادث إطلاق النار، واستشهدوا بالتدخل الإلهي لإنقاذ حياته. ويأتي إطلاق النار أيضاً في جو من العنف السياسي المتصاعد الذي ساعد ترامب في نشره في الاتجاه السائد، ليس من خلال خطابه فحسب، ولكن أيضاً من خلال أفعال مثل زيارة متجر أسلحة للإعجاب بسيارة غلوك التي تحمل اسمه.
لقد أخبر ترامب أتباعه المخلصين دائماً أنّ "الأعداء" لا يلاحقونه، بل يلاحقونهم. أما هو، فقد كان "يقف فقط في الطريق". إنّ محاولة الاغتيال الفظيعة هذه ستؤكد صحة هذا الادعاء، وخصوصاً أنّ أحد المشاركين في المسيرة قُتل على يد مطلق النار، وأصيب مؤيدون آخرون.
وحتى قبل محاولة الاغتيال، كان بوسعك أن تجد أوجه تشابه بين جهود ترامب وحلفائه لتوسيع سلطتهم وما اتبعه موسوليني. إنّ أوجه التشابه بين "مشروع التراث 2025" و"قوانين الدفاع عن الدولة" لموسوليني لافتة للنظر، بدءاً من إلغاء استقلال القضاء، إلى تبني الاستخدام العدواني غير العادي للسلطة التنفيذية الذي من شأنه أن يزيل مشكلات ترامب القانونية والمالية التي لا تعد ولا تحصى.
وتعهد ترامب بالفعل بالعفو عن مثيري الشغب في 6 يناير إذا تم انتخابه، تماماً كما عفا موسوليني عن عصابات "القمصان السوداء". وسيكون ترامب قادراً أيضاً على استخدام وزارة العدل لإلغاء سلسلة الملاحقات القضائية الجنائية التي تواجهه بسهولة. وفي الوقت نفسه، منحت المحكمة العليا الرئيس صلاحيات حصانة واسعة النطاق، ما يضمن أنه لن يجد المزيد من العوائق أمامه.
ستقوي محاولة الاغتيال قبضة ترامب. وفي ضوء ذلك، فإنّ أنف موسوليني المضمد وأذن ترامب المضمدة يتحدثان عن قدرة المستبدين على استخدام الشدائد لتعزيز سلطتهم على حساب الديمقراطية.
نقلته إلى العربية: بتول دياب