"TomDispatch": المجمّع الصناعي العسكري الأميركي.. القوة الأكثر تدميراً في العالم
القنابل تقتل وتدمّر، لكنها تجعل الناس أغنياء أيضاً! لذا لا بدّ أن تتوقّف الهيمنة المخفية للمجمّع الصناعي العسكري، ويجب علينا القضاء عليها.
موقع "TomDispatch" ينشر تحقيقاً لديفيد فاين وتيريزا أريولا، يتناول تمويل المجمّع الصناعي العسكري الأميركي، ونشأته والشكل الذي يبدو عليه الآن، وتأثير تعاظم قوّته على البشرية، والحاجة إلى القضاء عليه.
أدناه نص التحقيق منقولاً إلى العربية:
ما هو الجيّد في الحرب؟ لا شيء على الإطلاق.. ولكن بالنسبة لهذا البلد، فقد تبيّن أنّ الحرب كانت مفيدة لكثير من الأميركيين الذين ينتمون إلى الطبقة العليا، ولا سيمّا صانعي الأسلحة لدينا. المجمّع الصناعي العسكري للكونغرس أثبت أنّه بقرة حلوب من الدرجة الأولى (برغم أنني أكره إهانة الأبقار بهذه الطريقة). فقد تدفّقت عليه الأموال ببساطة خلال هذا القرن؛ ومع ذلك، يبدو أنّها غير كافية بشكل أو بآخر. ومؤخّراً، نسف زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل طلب الرئيس بايدن للحصول على مبلغ 850 مليار دولار لميزانية البنتاغون لعام 2025، معتبراً إياه "غير كافٍ" وطالبه برفع قيمته. وتحقّق له ذلك وذلك يتحقّق دائماً.
وفي بلد تواصل فيه ميزانية البنتاغون وميزانية الأمن القومي الأوسع بكثير في الارتفاع، أتساءل مستغرباً كيف أنّه منذ خروج الولايات المتحدة منتصرة من الحرب العالمية الثانية، بغض النظر عن حجم الأموال التي ضختها في المجمّع الصناعي العسكري أو عدد القواعد العسكرية التي أنشأها جيشها على مستوى العالم، لم تَظهر هذه الدولة في أي حرب كبيرة شاركت فيها - من حرب كوريا في أوائل الخمسينيات إلى حرب فيتنام في الستينيات إلى حروب هذا القرن في أفغانستان وباكستان والعراق والحرب العالمية على الإرهاب التي رافقتها – منتصرة بحقّ.
نعم، إنّ الدولة التي تعادل ميزانيتها "الدفاعية" ميزانية الدول التسع التالية مجتمعة لا يمكنها أن تفوز بالحرب أو تتوقّف عن ضخ الأموال في مؤسستها العسكرية والمجمّع الصناعي الضخم المصاحب لها. واليوم، يسلّط كلّ من فاين وأيرولا الضوء في هذا المقال على حجم الكارثة التي ثبت أنّها حلّت بهذا البلد، مدعومَين بمجموعة استثنائية من الصور الأصلية المتعلقة بالمجمّع الصناعي العسكري التي لم تُنشر من قبل.
المجمّع الصناعي العسكري يقتلنا.. فلنحرّر أنفسنا من الوحش الذي يدمّر كوكبنا ومستقبلنا
نحن بحاجة للتطرّق إلى ما تفعله القنابل في الحرب. القنابل تمزّق اللحم وتهشّم العظام. القنابل تقطّع الأوصال وتسبّب ارتجاجات عنيفة في الدماغ والرئتين وأعضاء الجسد الأخرى لتنزف بعد ذلك وتتمزّق وتتوقّف عن العمل. القنابل تسبّب الجروح وتقتل وتدمّر. لكنها تجعل الناس أغنياء أيضاً!
فعندما تنفجر قنبلة، يجني أحدهم الأرباح. وعندما يجني أحدهم الأرباح، تحصد القنابل المزيد من الضحايا المجهولين. وكلّ دولار يُنفق على قنبلة هو دولار لم يتمّ إنفاقه في سبيل إنقاذ حالات وفيات كان يمكن تجنّبها، ودولار لم يتم إنفاقه على علاج الأمراض السرطانية، ودولار لم يتم إنفاقه في سبيل تعليم الأطفال. ولهذا السبب، وصف الجنرال المتقاعد والرئيس الأميركي السابق دوايت ديفيد أيزنهاور، منذ زمن طويل، الإنفاق على القنابل وجميع الأمور العسكرية بأنّه "سرقة".
قد يكون مرتكب هذه السرقة القوة التدميرية الأكثر إغفالاً في العالم. وهي تقف، من دون أن يلاحظ ذلك أحد، وراء الكثير من المشكلات الكبرى التي تواجهها الولايات المتحدة والعالم اليوم. وقد حذّر دوايت أيزنهاور، الرئيس الأميركي السابق، الأميركيين من هذه القوة في خطاب وداعه عام 1961، حيث أطلق عليه للمرة الأولى اسم "المجمّع الصناعي العسكري" أو "أم آي سي".
فلننطلق من حقيقة أنّه بفضل قدرة المجمّع الصناعي العسكري على الاستحواذ على الموازنة الفيدرالية، يُعدّ إجمالي الإنفاق العسكري السنوي أكبر بكثير مما يتصوّره معظم الناس، إذ يبلغ نحو 1.500.000.000.000 دولار أميركي (1.5 تريليون دولار). وعلى عكس ما يخوّفنا به المجمّع الصناعي العسكري، فإنّ هذا الرقم الكبير، الذي لا يمكن تفسيره، لا يتناسب بشكل مخيف مع التهديدات العسكرية القليلة التي تواجه الولايات المتحدة. فمبلغ التريليون ونصف التريليون دولار يعادل ضعف ما ينفقه الكونغرس سنوياً على كلّ الأغراض غير العسكرية مجتمعة.
إنّ وصف هذا النقل الهائل للثروة بالـ"سرقة" غير مبالغ فيه، لأنه مسلوب من درب الاحتياجات الملحة مثل القضاء على الجوع والتشرد، وتقديم التعليم المجاني لمرحلتي الجامعة والروضة، وتوفير الرعاية الصحية الشاملة، وبناء بنية تحتية للطاقة الخضراء لإنقاذ أرواحنا من التغيّرات التي يشهدها المناخ. وعملياً، يمكن حلّ كلّ مشكلة كبيرة تتأثر بها الموارد الفيدرالية بأجزاء صغيرة من الأموال التي يطالب بها المجمّع الصناعي العسكري؛ فالمال كلهّ لديه.
في بلادنا، يتم الاستيلاء على الجزء الأكبر من أموال دافعي الضرائب من قبل مجموعة صغيرة نسبياً من الشركات المستفيدة من الحرب بقيادة أكبر خمس شركات تجني أرباحاً طائلةً من الصناعات العسكرية، وهي "لوكهيد مارتن" و"نورثروب غرومان" و"رايثيون" و"بوينغ" و"جنرال داينمكس". ومع تحقيق هذه الشركات للأرباح، تسبّب المجمّع الصناعي العسكري بإحداث دمار غير مفسّر على مستوى العالم، تاركاً الولايات المتحدة رهينة حروب لا نهاية لها أدّت، منذ عام 2001، إلى مقتل ما يُقدّر بنحو 4.5 ملايين شخص وإصابة عشرات الملايين وتشريد ما لا يقل عن 38 مليوناً، وفقاً لـ"مشروع تكاليف الحرب" في جامعة براون.
لا بدّ أن تتوقّف الهيمنة المخفية للمجمّع الصناعي العسكري على حياتنا، ما يعني أنّه يجب علينا تفكيكها. وقد يبدو ذلك أمراً غير واقعي على الإطلاق، بل وحتى خيالياً، لكنّه ليس كذلك. وبالمناسبة، نحن نتحدث عن تفكيك المجمّع الصناعي العسكري، وليس الجيش نفسه. (معظم أفراد الجيش هم في الواقع من بين ضحايا المجمّع الصناعي العسكري).
وبينما كان الربح جزءاً من الحرب لفترة طويلة، فإنّ المجمّع الصناعي العسكري يُعدّ ظاهرة جديدة نسبياً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تشكّلت بفضل سلسلة من القرارات التي تمّ اتخاذها على مرّ الزمن. وعلى غرار العمليات والقرارات الأخرى التي يمكن نقضها، يمكن تفكيك المجمّع الصناعي العسكري.
والسؤال البديهي بالطبع هو كيف؟
ظهور الوحش
لمواجهة ما قد يتطلّبه الأمر لتفكيك المجمّع الصناعي العسكري، لا بدّ أن نفهم أولاً كيف نشأ والشكل الذي يبدو عليه. ونظراً لحجمه المذهل وتعقيداته، أنشأنا وفريقاً من الزملاء سلسلة من المعلومات التي تُنشر للمرّة الأولى للمساعدة في تصوّر المجمّع الصناعي العسكري والضرر الذي يتسبّب به.
لقد نشأ المجمّع الصناعي العسكري بعد الحرب العالمية الثانية، كما أوضح أيزنهاور، بفعل "عملية دمج مؤسسات عسكرية ضخمة"، كالبنتاغون والقوات المسلحة ووكالات الاستخبارات وسواها، مع "قطاع ضخم لتصنيع الأسلحة". فاتحدت هاتان القوتان، العسكرية والصناعية، مع الكونغرس لتشكيل "المثلث الحديدي" الاستثنائي أو ما يعتقد بعض العلماء أن ّأيزنهاور أطلق عليه في البداية وبشكل أكثر دقة تسمية المجمّع العسكري الصناعي التابع للكونغرس. وحتى يومنا هذا، بقي هؤلاء الثلاثة أساس المجمّع الصناعي العسكري ورهينة دوامة دائمة من الفساد المقنّن (الذي يتضمن أيضاً الكثير من المخالفات غير القانونية).
ويعمل النظام الأساسي لهذا المجمّع على النحو الآتي: أولاً، يأخذ الكونغرس مبالغ طائلة منّا نحن دافعي الضرائب كل عام ويعطيها للبنتاغون. ثانياً، يقوم البنتاغون، بناءً على توجيهات الكونغرس، بتحويل أجزاء ضخمة من هذه الأموال إلى الشركات المصنّعة للأسلحة والشركات الأخرى بواسطة جميع العقود المربحة للغاية، ما يمنحه أرباحاً بقيمة عشرات المليارات من الدولارات. ثالثاً، تستخدم الشركات المتعاقدة جزءاً من الأرباح للضغط على الكونغرس من أجل الحصول على المزيد من عقود البنتاغون، التي يسعد الكونغرس عموماً بتقديمها، ما يؤدي إلى استمرار دوامة لا نهاية لها على ما يبدو.
إلّا أنّ المجمّع الصناعي العسكري يُعدّ أكثر تعقيداً وغدراً من ذلك. وفي ما يعدّ فعلياً نظام رشوة مشروعة، تساعد تبرعات الحملات الانتخابية بانتظام في تعزيز ميزانيات البنتاغون وضمان منح عقود أكثر ربحية، غالباً ما يستفيد منها عدد صغير من الشركات المتعاقدة في منطقة أو ولاية تابعة للكونغرس. وتطرح هذه الشركات قضيتها بمساعدة جيش افتراضي يضم أكثر من 900 من مجموعات الضغط في واشنطن. والكثير منهم مسؤولون سابقون في البنتاغون، أو أعضاء سابقون في الكونغرس أو موظفون في الكونغرس، تمّ تعيينهم من خلال سياسة "الباب الدوّار" التي تستفيد من قدرتهم على الضغط على زملائهم السابقين. وتتبرّع هذه الشركات المتعاقدة أيضاً لمراكز الأبحاث والمراكز الجامعية الراغبة في دعم زيادة إنفاق البنتاغون، وبرامج الأسلحة، والسياسة الخارجية المعسكرة إلى أبعد حدود. كما تُعدّ الإعلانات وسيلة أخرى لدفع برامج الأسلحة إلى المسؤولين المنتخبين.
بالإضافة إلى ذلك، يقوم صانعو الأسلحة بنشر صناعتهم بين أكبر عدد ممكن من دوائر الكونغرس، ما يسمح لأعضاء مجلس الشيوخ والنواب بنسب الفضل إليهم في خلق الوظائف. في المقابل، تخلق وظائف المجمّع الصناعي العسكري غالباً دوامة من التبعية في المجتمعات ذات الدخل المنخفض التي لا تملك سوى عدد قليل من المحركات الاقتصادية الأخرى، ما يؤدي فعلياً إلى شراء دعم السكان المحليين.
من جانبها، تنخرط الشركات المتعاقدة بانتظام في التلاعب القانوني بالأسعار، ما يؤدي إلى فرض رسوم زائدة على دافعي الضرائب مقابل جميع أنواع الأسلحة والمعدات. وفي حالات أخرى، يؤدي احتيالها إلى سرقة أموال دافعي الضرائب. ويُعدّ البنتاغون الوكالة الحكومية الوحيدة التي لم تجتز أيّ عملية تدقيق على الإطلاق، ما يعني أنه لا يستطيع فعلياً تتبع أمواله وأصوله؛ ومع ذلك، فهو لا يزال يتلقّى من الكونغرس أكثر مما تحصل عليه أي وكالة حكومية أخرى مجتمعة.
ويضمن المجمّع الصناعي العسكري، كنظام، أن يكون إنفاق البنتاغون والسياسة العسكرية مدفوعاً ببحث الشركات المتعاقدة عن أرباح أعلى من أي وقت مضى ورغبة في إعادة انتخاب أعضاء الكونغرس، وليس من خلال إجراء أي تقييم حول كيفية الدفاع عن البلاد بأفضل طريقة. وليس مستغرباً أن يكون الجيش المؤلّف غير مطابق للمواصفات، خاصة في ضوء الأموال التي تمّ إنفاقها. ويتحتّم على الأميركيين الصلاة لئلا يضطروا فعلياً إلى الدفاع عن الولايات المتحدة.
ولا يمكن لأي قطاع آخر، ولا حتى شركات تصنيع الأدوية الكبرى أو شركات النفط الكبرى، أن تضاهي قوة المجمّع الصناعي العسكري في تشكيل السياسة الوطنية والسيطرة على الإنفاق. ففي الواقع، بات الإنفاق العسكري اليوم أكبر (مع مراعاة معدل التضخم) مما كان عليه خلال الحرب في فيتنام أو أفغانستان أو العراق أو حتى في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية، على الرغم من عدم وجود تهديد يبرّر هذا الإنفاق ولو من بعيد. ويدرك الكثيرون الآن أنّ المستفيد الأساسي من أكثر من 22 عاماً من الحروب الأميركية التي لا نهاية لها في هذا القرن كان القسم الصناعي من المجمّع الصناعي العسكري، الذي حقّق مئات المليارات من الدولارات منذ عام 2001.
"من انتصر في أفغانستان؟ متعاقدو القطاع الخاص"، كان عنوان الصفحة الرئيسة لصحيفة "وول ستريت جورنال" في عام 2021.
حروب لا تنتهي.. موت مستمر ودمار متواصل
كان من الممكن استبدال كلمة "أفغانستان" في هذا العنوان بكوريا أو فيتنام أو العراق، من بين حروب أميركية أخرى تبدو وكأنها لا تنتهي منذ الحرب العالمية الثانية. لكنّ استفادة المجمّع الصناعي العسكري من هذه الحروب ليست مصادفة. وقد جرّت البلاد إلى الدخول في صراعات في بلدان عديدة بدءاً من كوريا وفيتنام وكمبوديا ولاوس، مروراً بالسلفادور وغواتيمالا وبنما وغرينادا، وصولاً إلى أفغانستان وليبيا والصومال وغيرها الكثير.
وقد وصل عدد القتلى والجرحى في هذه الحروب إلى عشرات الملايين. فعدد الوفيات المقدّرة الناجمة عن حروب ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر في أفغانستان والعراق وباكستان وسوريا واليمن يشبه إلى حد مخيف عدد الوفيات الناجمة عن الحروب في فيتنام ولاوس وكمبوديا الذي يقدّر بـ 4.5 ملايين شخص. هذه الأرقام كبيرة جداً بحيث يمكن أن تصبح مخدّرة.
الضريبة البيئية
يتسبّب المجمّع الصناعي العسكري بأضرار بيئية لا يمكن إصلاحها في كثير من الأحيان، بما في ذلك تسمّم النظم البيئية، وفقدان التنوّع البيولوجي المدمّر، والبصمة الكربونية للجيش الأميركي، الذي يُعدّ أكبر من أي منظمة أخرى على وجه الأرض. فخلال فترة الحرب أو التدريب اليومي، يقوم المجمّع الصناعي العسكري فعلياً بتعزيز ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ من خلال حرق الوقود لتشغيل القواعد والمركبات وإنتاج الأسلحة.
إنّ التكاليف البشرية والبيئية التي يتحمّلها المجمّع الصناعي العسكري غير مرئية بشكل خاص خارج الولايات المتحدة الأميركية. وفي الأراضي الأميركية وغيرها من "المناطق الرمادية" السياسية، تعتمد الاستثمارات في البنية التحتية والتكنولوجيات العسكرية جزئياً على مواطنة الدرجة الثانية لمجتمعات السكان الأصليين، التي غالباً ما تعتمد على الجيش في كسب معيشتها.
حروب لا نهاية لها في الداخل
مثلما دعم المجمّع الصناعي العسكري الحروب في الخارج، دعم التسلّح في الداخل. فعلى سبيل المثال، لماذا أصبحت قوات الشرطة المحلية مسلّحة إلى هذا الحد؟ بالمختصر، منذ عام 1990، سمح الكونغرس للبنتاغون بنقل أسلحته ومعداته "الفائضة" (بما في ذلك الدبابات والطائرات المُسيّرة) إلى وكالات إنفاذ القوانين المحلية. تتيح عمليات النقل هذه للبنتاغون والشركات المتعاقدة معه الطلب من الكونغرس القيام بعمليات شراء بديلة؛ الأمر الذي يؤدي إلى دعم المجمّع الصناعي العسكري بشكل أكبر.
وسعياً لتحقيق أرباح جديدة من أسواق جديدة، قامت الشركات المتعاقدة أيضاً ببيع منتجاتها العسكرية على نحو مطرد مباشرة إلى فرق الأسلحة والتكتيكات الخاصة (SWAT) وقوات الشرطة الأخرى، وفرق دوريات الحدود، وأنظمة السجون. وقد أنفق السياسيون والشركات مليارات الدولارات على تسليح الحدود والسجن الجماعي، ما ساعد في دعم ظهور "مجمّع الحدود الصناعي" و"مجمّع السجون الصناعي" المربحين، على التوالي. وقد ألحقت عمليات التسليح المحلية الضرر بمجتمعات السود واللاتينيين والسكان الأصليين بشكل غير متناسب.
تهديد وجوديّ
سيدافع البعض عن المجمّع الصناعي العسكري من خلال الإصرار على أننا نحتاج إلى وظائفه؛ والبعض الآخر من خلال الادّعاء بأنه يبقي الأوكرانيين على قيد الحياة ويحمي بقية أوروبا من روسيا فلاديمير بوتين؛ وآخرون من خلال التحذير من النفوذ الصيني. وتعدّ كلّ هذه الحجج مثالاً على الدرجة التي تعتمد بها قوة المجمّع الصناعي العسكري على صناعة الخوف والتهديدات والأزمات بشكل منهجي لمساعدة تجار الأسلحة وغيرهم في المجمّع الصناعي العسكري على زيادة ثرواتهم من خلال تحفيز الإنفاق بشكل أكبر على التسلّح والحرب (على الرغم من السجل شبه المتواصل من الفشل الكارثي في ما يتعلّق بكلّ صراع أميركي منذ الحرب العالمية الثانية).
إنّ الحجة القائلة بضرورة الحفاظ على المستويات الحالية للإنفاق العسكري من أجل الحفاظ على "الوظائف" لهي مثيرة للضحك. إذ لا ينبغي لأي جيش أن يكون بمثابة برنامج توظيف. وفي الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى برامج توظيف، أثبت الإنفاق العسكري أنّه غير قادر على خلق فرص عمل أو تأدية دور محرّك للنمو الاقتصادي. بل على العكس من ذلك، تظهر الأبحاث أنه يخلق فرص عمل أقل بكثير من الاستثمارات المماثلة في قطاعات الرعاية الصحية أو التعليم أو البنية التحتية.
لقد ساعدت الأسلحة الأميركية أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، على الرغم من أنّ الشركات المصنّعة للأسلحة ليست مؤثِّرة. فلو كانت مهتمة حقاً بالأوكرانيين، لتنازلت عن الأرباح وتركت أموالاً أكثر لتوفير المساعدات الإنسانية لذلك البلد. وبدلاً من ذلك، استخدمت تلك الحرب، كما فعلت مع حرب الإبادة الجماعية التي شنتها "إسرائيل" على غزة والتوترات المتزايدة في المحيط الهادئ، بكل وقاحة لتضخيم أرباحها وأسعار أسهمها بشكل كبير.
والجدير ذكره أنّ الميزانية السنوية للجيش الروسي تبلغ عُشر حجم الميزانية الأميركية أو أقل من ذلك، في حين تبلغ ميزانية الصين العسكرية ثلث إلى نصف حجمها. وستكون الفوارق أكبر بكثير إذا قمتم بدمج الميزانية العسكرية الأميركية مع ميزانية حلف شمال الأطلسي وحلفائها الآسيويين.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ أعضاء المجمّع الصناعي العسكري يشجعون بشكل مطرد المواجهات المباشرة مع روسيا والصين، استناداً إلى حرب بوتين واستفزازات الصين. وفي منطقة "المحيط الهادئ الهندي" (كما يسميها الجيش)، يواصل المجمّع الصناعي العسكري الاستفادة من بناء البنتاغون لقواعد ونشر قوات تحيط بالصين في أستراليا، وجزيرة غوام، وولايات ميكرونيسيا الموحّدة، واليابان، وجزر مارشال، وجزر ماريانا الشمالية، وبالاو، وبابوا غينيا الجديدة، والفلبين.
وبالتالي، فإنّ مثل هذه الخطوات والحشد العسكري المماثل في أوروبا لن يؤدي إلّا إلى تشجيع الصين وروسيا على تعزيز جيشيهما. (ولكم أن تتخيّلوا كيف قد يستجيب الساسة الأميركيون إذا قامت الصين أو روسيا ببناء قاعدة عسكرية واحدة في أيّ مكان بالقرب من حدود هذا البلد). وفي حين أنّ كل هذا قد يضاعف من أرباح المجمّع الصناعي العسكري، فإنّه يزيد من خطر حدوث صراع عسكري يمكن أن يتطور إلى حرب نووية محتملة بين الولايات المتحدة والصين أو روسيا أو كليهما تقضي على الجنس البشري.
ضرورة تفكيك المجمّع الصناعي العسكري
ينبغي أن تكون الضرورة الملحة لتفكيك المجمّع الصناعي العسكري واضحة. فمستقبل الكائنات والكوكب يعتمد على ذلك.
إنّ الطريقة الأكثر وضوحاً لإضعاف المجمّع الصناعي العسكري تكمن في حرمانه من مصادر تمويله، ألا وهي أموال ضرائبنا. وقليلون هم من لاحظوا أنّه بعد ترك منصبه، دعا رئيس البنتاغون السابق كريستوفر ميللر في عهد ترامب إلى خفض ميزانية البنتاغون إلى النصف. نعم إلى النصف!
فحتى التخفيض بنسبة 30%، كما حدث لفترة وجيزة بعد انتهاء الحرب الباردة في عام 1991، من شأنه أن يحرّر مئات المليارات من الدولارات سنوياً. تخيّلوا كيف يمكن لهذه المبالغ أن تبني حياة أكثر أمناً وصحة وأماناً في هذا البلد، بما في ذلك التحوّل الاقتصادي العادل للعسكريين وموظفي الشركات المتعاقدة الذين يفقدون وظائفهم. وتذكّروا أنّ هذه الميزانية العسكرية ستظلّ أكبر بكثير من ميزانية الصين أو روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية مجتمعة.
إنّ مجرّد التفكير في خفض ميزانية البنتاغون لهو أمر صعب، لأنّ المجمّع الصناعي العسكري قد استحوذ على كلا الحزبين السياسيين، ما يضمن عملياً استمرار الإنفاق العسكري المتزايد. الأمر الذي يعيدنا إلى لغز كيفية تفكيك المجمّع الصناعي العسكري كنظام.
باختصار، نحن نعمل على إيجاد الإجابات ونحاول أن ندرس مع المجموعة المتنوعة من الخبراء الذين ساعدوا في إنتاج معلومات هذا المقال، حملات سحب الاستثمارات والدعاوى القضائية؛ وحظر أنشطة جني الأرباح من الحرب؛ وتنظيم أو تأميم الشركات المصنّعة للأسلحة؛ وتحويل أقسام من الجيش إلى قوة غير مسلحة للإغاثة في حالات الكوارث والمساعدة في مجالي الصحة العامة والبنية التحتية، من بين أفكار أخرى.
على الرغم من أنّ الكثير منا سيستمرّ في الاعتقاد بأن تفكيك المجمّع الصناعي العسكري يُعدّ أمراً غير واقعي، نظراً للتهديدات التي تواجهنا، فقد حان الوقت للتفكير على أوسع نطاق ممكن حول كيفية مقاومة الفكرة المخترعة بأنّ الحرب أمر حتميّ وبناء العالم الذي نريد رؤيته. فكما حدّت الحركات السابقة من قوة شركات التبغ الكبرى وبارونات السكك الحديدية، وكما يهاجم البعض اليوم شركات الأدوية الكبرى وشركات التكنولوجيا الكبرى ومجمّع السجون الصناعي، يتعيّن علينا أن نتعامل مع المجمّع الصناعي العسكري لبناء عالم يركّز على جعل حياة البشر غنية (بكل ما للكلمة من معنى) بدلاً من عالم يركّز على القنابل والأسلحة الأخرى التي تجلب الثروة لقلة مختارة تستفيد من الموت.
نقلته إلى العربية: زينب منعم