"Counterpunch": التحولات السياسية الكبرى في بريطانيا
تلقى حزب المحافظين هزيمة ساحقة في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة الأسبوع الماضي، وسجّل أسوأ أداء له في تاريخه الممتد منذ 190 عاماً.
موقع "Counterpunch" ينشر مقالاً للكاتب كينيث سورين، يتحدث فيه عن نتائج الانتخابات البريطانية، وما تعنيه من تحولات سياسية تعيشها المملكة المتحدة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
تلقى حزب المحافظين هزيمة ساحقة في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة في الأسبوع الماضي، إذ سجّل الحزب أسوأ أداء له في تاريخه الممتد منذ 190 عاماً بخسارة نصف حصته من الأصوات و252 مقعداً برلمانياً في مجلس العموم الذي يتألف من 650 مقعداً. تتجاوز الهزيمة الآن أكبر كارثة انتخابية للحزب في الماضي، حين انهارت حكومة جيمس بلفور عام 1906، وخسرت 246 مقعداً. واليوم، أصبح لدى المحافظين 121 نائباً لا يوجد بينهم من يمثل وسط لندن وويلز وأكسفورد شاير، المقاطعة التي كانت معقلاً لهم في السابق، وكذلك هو حال مقاطعة كورنوال التي كان فيها نائب محافظ واحد على الأقل منذ عام 1924.
من الواضح أنّ حملة المحافظين الانتخابية لم تكن جيدة مطلقاً، برعاية ريشي سوناك، الذي لا يمكن وصفه بأنّه من السياسيين الجذّابين. لقد بدا أشبه بفأر غارق معذّب حين أطلق الحملة الانتخابية خارج مقر إقامة رئيس الوزراء في داونينغ ستريت أثناء هطول أمطار غزيرة ورفض استخدام المظلة. كذلك، كانت زيارته إلى حوض بناء تيتانيك في بلفاست بمنزلة دعوة مفتوحة للصحافيين لسؤاله عما إذا كان قائد السفينة الغارقة. كذلك، ارتكب سوناك خطأ فادحاً حين تخلّى عن نصف تحضيرات مراسم الاحتفال بذكرى يوم النصر في إنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية قبل 80 عاماً، مع أنّ حزب المحافظين لطالما أعتقد أنّه الحزب الوطني أو القومي الذي يمثل مصالح البلاد الشاملة.
علاوة على ذلك، رفض سوناك أيضاً حضور آخر احتفال بيوم النصر لقدامى المحاربين المسنّين أدّى إلى ضجة عنصرية مستترة في وسائل الإعلام اليمينية مع تلميحات ساخرة حول بشرة سوناك البنيّة وخلفيته المهاجرة الهندية، متجاهلين حقيقة أنّ 87000 جندي هندي قتلوا من أجل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. مع ذلك، تعلم سوناك بالطريقة الصعبة أنّه لا يمكن لأحد أن يكون زعيماً لحزب المحافظين من دون مراعاة المناسبات الوطنية المزعومة.
عدم جاذبية سوناك في قيادة الحملة الانتخابية دفعت العديد من المحافظين البارزين إلى التقاعد بدلاً من خوض الانتخابات، فيما لم ينشط الذين واظبوا على ترشحهم، وكانت الحملة الإعلامية المحافظة بقيادة أشخاص من الدرجة الثانية لا يمكن التعرف إليهم إلا من قبل القلة المتحمّسة التي لا تكترث لوهن المرشحين أمام مقدمي البرامج التلفزيونية، الذين لا يطرحون أسئلة "سهلة" على المرشحين، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية. ربما كان سام دونالدسون وهيلين توماس في غرفة الصحافة في البيت الأبيض آخر شخصية إعلامية أميركية تتحدى السياسيين بجدية على الشاشة وعلى الهواء، وكانت سنوات ذروتهم خلال رئاسة ريغان وبوش الأب وبيل كلينتون.
وكقشة أخيرة، زادت على حمل المحافظين فضيحة شهدتها الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية عن استغلال مسؤولين وسياسيين من حزب سوناك معلومات داخلية للرهان على موعد الانتخابات العامة. وبسبب افتقارهم إلى الأفكار، وانغماسهم في الفساد والرشوة، لجأ المحافظون إلى الحرب على المستيقظين من حزبهم، ولكن للأسف أدّى هذا إلى إيقاظ الرأي العام البريطاني.
وفي ما يتعلق بالانتخابات نفسها، فقد انخفضت نسبة المشاركة بشكل حاد عن انتخابات 2019، وانزلقت من 67.3% آنذاك إلى 59.9% الآن، وهي أدنى نسبة مشاركة في انتخابات عامة منذ عام 2001، حين صوت 59.4% فقط، وهي أدنى نسبة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.
ومع أنّ حزب العمال حصد نحو 34% من الأصوات و64% من المقاعد، لكنّها أدنى درجة لحزب فائز بالأغلبية منذ عام 1832، وهي لا تزيد كثيراً عن نسبة 30.7% التي حصل عليها المحافظ جون ميجور عام 1997، حين سحقه حزب العمال بزعامة طوني بلير، الذي فاز بنسبة 43.2% من الأصوات و418 مقعداً مقابل 165 مقعداً للمحافظين. أمّا الآن، فانخفضت حصة المحافظين من 44% مع بوريس جونسون عام 2019 إلى 24% مع سوناك.
وتشير هذه الأرقام بشكل عام إلى أنّ أغلبية حزب العمال كانت واسعة، ولكنها سطحية نسبياً، بزعامة كير ستارمر، ولم يحقق حزب العمال الأغلبية الساحقة التي بلغت 253 مقعداً، والتي حققها بلير في عام 1997، فما الذي منع فوزاً أكثر عمقاً؟
من الواضح أنّ نسبة المشاركة المنخفضة المذكورة أعلاه أدت دوراً في ذلك، فمن الناحية التاريخية، كان الناخبون المحافظون الأكثر نشاطاً بشكل عام والأكثر تصميماً من أنصار حزب العمال على الدفاع عن مصالحهم، إذ كانوا يحضرون بأعداد أكبر نسبياً إلى مراكز الاقتراع. كذلك، استفاد حزب العمال من المكاسب التي حققها حزب الإصلاح اليميني المتشدد، والذي انتزع عدداً كبيراً من أصوات المحافظين. ورغم فوزه بخمسة مقاعد فقط، فقد حل في المرتبة الثانية في 103 دوائر انتخابية، وخصوصاً تلك التي صوتت لمصلحة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وحصل بالمجمل على أكثر من 4 ملايين صوت، ما منحه 14% في العموم.
لا شك في أنّ تقلبات نظام الانتخاب الذي يعتمد على الأغلبية البسيطة في المملكة المتحدة ساهم في حصول حزب الإصلاح على 5 مقاعد فقط، من ضمنها مقعد لزعيمه نايجل فاراج، الذي لديه الآن قاعدة يمكنه من خلالها الاستفادة بشكل أكبر من فوضى حزب المحافظين، فضلاً عن الاستياء المحتمل من حزب العمال بشأن الهجرة، الموضوع المفضّل للإصلاح، والذي يعتمد إلى حد كبير على خطاب شعبوي يتهم المهاجرين بانتزاع العمل والوظائف من الإنكليز واستنزاف نظام إعانات البطالة في البلاد.
ومن المؤكد أنّ شيئاً أشبه بالتحدي لحزب العمال بشأن هذه القضية سوف يحدث، نظراً إلى أنّه تعهد بإصلاح هيكل الهجرة الفوضوي لجعله أكثر عدالة وتماسكاً، ولم يظهر أي علامات على التراجع عن هذا التعهد. ولا يوجد شيء إيثاري في هذا الموقف، لأنّ الجميع يعلمون أنّ الناخبين من ذوي الخلفيات المهاجرة القريبة يميلون إلى التصويت لحزب العمال.
كانت نسبة تصويت المحافظين والإصلاحيين مجتمعة، والتي بلغت 38%، أكبر من نسبة تصويت حزب العمال التي بلغت 34%، فهل كانت النتيجة في النهاية تصويتاً معادياً للمحافظين أكثر من كونها تصويتاً مؤيداً لحزب العمال؟
كان هناك عامل آخر ساهم في النتيجة الانتخابية الساحقة، لكن الضحلة، لحزب العمال بسبب المناطق التي تضم ناخبين مسلمين بنسبة تزيد على 20%، والذين ترددوا في قبول صهيونية ستارمر في ما يتعلق بجرائم "إسرائيل" في غزة، ما أدى إلى خسارة 5 مقاعد أمام مرشحين مؤيدين للفلسطينيين ترشحوا كمستقلين، بما في ذلك زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين، الذي طرده ستارمر من الحزب.
كذلك، ساهم انهيار الحزب الوطني الإسكوتلندي في زيادة مكاسب حزب العمال، فالاسكتلندي الذي فاز بـ 48 مقعداً في انتخابات عام 2019، خرج بـ 9 مقاعد هذه المرة، في حين حزب العمال، الذي فاز بمقعد إسكوتلندي واحد في عام 2019، فاز الآن بـ 37 مقعداً، وهذا يخلق معضلة للإسكتلنديين الساعين إلى الاستقلال، الذين يبلغ عددهم نحو 45% باستمرار في استطلاعات الرأي، ولكنهم الآن ليس لديهم حزب سياسي قوي لتعزيز هذا الطموح.
كان هناك عامل آخر ساهم في هزيمة حزب المحافظين، وهو الأداء الأقوى الذي حققه "الديمقراطيون الأحرار" منذ عام 1923، الذين حصلوا على 71 مقعداً من حساب المحافظين في الأغلب الأعم، وهو ما يشير بوضوح تام إلى أنّ العديد من الناخبين المناهضين للمحافظين فضّلوا الديمقراطيين الأحرار على حزب العمال.
لقد نجح حزب الخضر الأكثر تقدمية من حزب العمال الواقف الآن في الوسط أو حتى أقرب إلى يمين الوسط في زيادة حصته من الأصوات من أقل من 3% إلى 7%، ولكنّه لم يكسب سوى 4 مقاعد، مع أنّه في المرتبة الثانية بعدد من الدوائر الانتخابية بعد حزب العمال، لكن العيوب في النظام الانتخابي ظلمه بقوة الاعتماد على الأغلبية البسيطة.
ويعتمد حزب الخضر على المصوّتين في المناطق الحضرية، من الشباب الذين يعيش كثر منهم في عقارات مستأجرة، ويتحمّلون في كثير من الأحيان عبء ديون الطلاب، ويشغلون نسبة كبيرة منهم وظائف غير مستقرة. أما حزب العمال، الذي يتسم بتصميم أكبر على تلبية مصالح الرأسماليين وطبقة مديري الأصول على وجه الخصوص، فإنّه يشكل جاذبية أقل لهذا النوع من الأفراد.
ونتيجة لهذا، سوف يضطر المزيد من نواب حزب العمال في تلك المناطق إلى التنافس على الأصوات مع الخضر الأكثر تقدمية. وسوف ينعكس هذا في الحوافز المتزايدة لفرض الضرائب على الأثرياء، وتعزيز الملكية العامة للصناعات التي تم خصخصتها الآن، وإلغاء الرسوم الدراسية، وزيادة الاستثمار من جانب الحكومة، وتخفيف حدة الفقر بين الأطفال، وتوسيع نطاق التعليم.
14 عاماً من حكم المحافظين للبريطانيين جلبت لهم تقشفاً قاسياً، و"بريكست" مدمراً، وحفلات بوريس جونسون في عصر كوفيد، وفساد معدات الوقاية الشخصية كذلك، والتدهور الاقتصادي، وانتشار بنوك الطعام، وكارثة حريق برج غرينفيل، فقد وصل المحافظون إلى السلطة عام 2010، وكل شيء عام 2024 أصبح أسوأ بالنسبة إلى معظم البريطانيين.
كان "التغيير" هو الشعار الدائم الذي يردده كير ستارمر أثناء الحملة الانتخابية. وفي الوقت نفسه، كان كل ما عرضه على الناخبين هو سياسات خفيفة ورجعية من حزب المحافظين. ومع خفة النقد والعرض، حظي بتأييد وسائل الإعلام المملوكة لروبرت مردوخ، ما يشكك في السياق الذي قد يحدث فيه التغيير.
إضافة إلى المشكلات الناجمة عن السياسات الضارة التي انتهجها حزب المحافظين منذ عام 2010، تواجه المملكة المتحدة مشكلات هيكلية أعمق وأطول أمداً. كان نمو الأجور من عام 2010 إلى عام 2020 هو الأدنى على الإطلاق خلال أي فترة سلمية مدتها 10 سنوات منذ الحروب النابليونية. وكان معدل النمو السنوي للإنتاجية في المملكة المتحدة منذ عام 2007 ضئيلاً للغاية، إذ بلغ 0.4%، وهو أدنى مستوى له خلال فترة مماثلة منذ عام 1826.
لقد سجل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نمواً ضعيفاً بلغ 4.3% على مدى السنوات الست عشرة الماضية، مقارنة بنحو 46% خلال 16 عاماً. وعلاوة على ذلك، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات القليلة الماضية بشكل شبه حصري ناجماً عن حجم النمو السكاني الإجمالي، وهذا يعني الهجرة التي يقول كل من حزب العمال والمحافظين إنهما يريدان الحد منها.
إنّ الحكومات المحافظة تتبنى شعار الضرائب المنخفضة، ولكن هذه الحكومة اضطرت إلى زيادة الضرائب إلى مستوى لم نشهده منذ ما يقارب 75 عاماً، عندما كانت المملكة المتحدة لا تزال تعاني الأعباء الاقتصادية التي تكبدتها في الحرب العالمية الثانية. إنّ الاقتصاد المتعثر يقلل من تدفقات الإيرادات الحكومية، وكان لزاماً على الحكومة أن تقابل هذا الانخفاض في هذه التدفقات بزيادة الضرائب.
انخفض متوسط الأجر الحقيقي السنوي بنحو 14 ألف دولار عن المستوى الذي كان موجوداً قبل الأزمة المالية عام 2008. وسوف تضطر حكومة حزب العمال الجديدة إلى مواجهة هذه المشكلات التي تبدو مستعصية على الحل. ويقول كير ستارمر إنّ حزبه يحتاج إلى فترتين في السلطة لمعالجة هذه المشكلات، وهو متفائل بتحقيق ذلك.
المشكلات الاقتصادية التي تواجهها المملكة المتحدة طويلة الأمد ومنهجية، ولا يمكن التعامل معها في غضون فترتين أو أكثر من حكم حكومة واحدة. وقد كان العقد الاجتماعي الذي استمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عدلته مارغريت تاتشر يضمن استمرار الأجور في مواكبة الإنتاجية. وكان ذلك الجيل يتمتع بقدرة معقولة وسط الأسعار المقبولة، على عكس ما هو قائم اليوم، إذ إن ارتفاع أسعار الأصول يبعدها بشكل متزايد عن متناول الجيل الجديد الذي يحاول الحصول عليها للمرة الأولى.
لقد تم القضاء على جيل كامل. وقد وصفه أحد المقالات الحديثة في صحيفة "الغارديان" بـ"جيل الإيجار" (على الرغم من أن الإيجارات غير ميسورة التكلفة بالنسبة إلى الأسر الشابة عند 66% في كل بريطانيا).
لحل هذه المشكلة، يتعين على الأقل حدوث أمرين؛ الأول هو استعادة الاقتصاد الإنتاجي في المملكة المتحدة، والآخر هو إعادة ترتيب النظام السياسي القديم وغير الوظيفي في المملكة المتحدة بشكل جذري، لكن لا شيء مما يقترحه ستارمر في كثير من الأحيان قريب من التغيير الذي يتحدث عنه مراراً وتكراراً.
نقله إلى العربية: حسين قطايا