"فورين بوليسي": المنافسة الأميركية مع الصين مبنية على مقدمات خاطئة

يراوح مفهوم الجغرافيا السياسية المعاصرة بين صنوين، المنافسة الاستراتيجية والأمن الاقتصادي، والولايات المتحدة تخطئ في التعامل مع أمنها الاقتصادي.

  • صورة من مصنع شركة
    صورة من مصنع الشركة اليابانية "هوندا" للسيارات في الصين

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر تقريراً للكاتب براد غلوسرمان، يتحدث فيه عن المنافسة الأميركية مع الصين المبنية على مقدمات واعتقادات سياسية واقتصادية خاطئة.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرف:

يراوح مفهوم الجغرافيا السياسية المعاصرة بين صنوين، المنافسة الاستراتيجية والأمن الاقتصادي. وفي هذا المسار تكوّنت توجّهات الأمن القومي التي تبنّتها إدارة الرئيس جو بايدن، في استمرار لفرضية موروثة من إدارة الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى، حين كان هناك إجماع في واشنطن ومختلف أنحاء الغرب، على أنّ العالم "في خضمّ منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي". وركّزت هذه السياسات بلا هوادة على البعد الاقتصادي لهذا الصراع. فبعد أقلّ من شهر على تسلّمه ولايته قبل 4 سنوات، أمر الرئيس بايدن بإجراء مراجعة مدّتها 100 يوم لسلاسل التوريد الأميركية الحيوية لتقييم مرونتها ونقاط ضعفها.

ومن قانون خفض التضخّم إلى ضوابط التجارة الموسّعة، جهدت إدارة بايدن على دمج الأمن القومي والسياسة الخارجية بالتكامل مع السياسة الاقتصادية المحلّية والدولية، على قاعدة أنّ الأمن الاقتصادي يشكل عنصراً أساسياً في المنافسة الاستراتيجية، ولكن ليس بالطريقة التي تتبنّاها أغلبية صناع السياسات في المنظومة الغربية. والولايات المتّحدة وشركاؤها يرتكبون خطأً في التعامل مع الأمن الاقتصادي، وإذا استمروا في ذلك فسوف يخسرون. ذلك بأنّهم توصّلوا إلى استنتاج مفاده أنّهم محاصرون في منافسة مع الصين على الزعامة العالمية، وهي معركة تدور رحاها عبر كلّ أبعاد القوّة الوطنية، الاقتصادية والتكنولوجية، والعسكرية، والدبلوماسية، والأيديولوجية.

لطالما شكّل الاقتصاد القوي أساس القوّة الوطنية وحضورها. ولهذا، تهدف سياسة الأمن الاقتصادي الوطني إلى ضمان عمله بطريقة فعالة وكفؤة، وأن يُحصن ضدّ محاولات الحكومات الأجنبية فرض قرارات سياسة ما. وهذا يؤدي إلى التركيز على المرونة والحدّ من التعرض للاضطرابات الخارجية. ويقدّم بيان قمّة مجموعة الدول السبع في العام الفائت، نموذجاً لهذا النهج، بحيث منحت الأولويّة لسلاسل التوريد المرنة، وحماية البنية الأساسية الحيوية، ومعالجة الإكراه الاقتصادي، ومنع تسرّب التقنيّات المتطوّرة والحديثة من ضمن أمور أخرى.

لا شكّ في أنّ المرونة مهمّة، لكنّ الأمن الاقتصادي يتطلّب أكثر من مجرّد الحدّ من المخاطر. لأنّ مفتاح الاقتصاد السليم هو الابتكار، الذي يتطلّب جاهزية على تماسّ قوي مع التكنولوجيّات المستحدثة. وبالنسبة إلى منظّمَة التعاون الاقتصادي والتنمية، الابتكار "ضروري"، لأنّهُ "يوفّر الأساس للشركات الجديدة، والوظائف الجديدة، ونموّ الإنتاجية، ومحرّك رئيس للتنمية".

وكان رئيس البنك المركزي الأوروبّي السابق ماريو دراجي أوضح، في تقرير قدمه مؤخّراً إلى المفوّضية الأوروبّية، أن فشل القارّة في إطلاق عنان "الطاقات الإبداعية" وعدم سدّ هذه الفجوة المتزايدة في الاتّساع مع الولايات المتّحدة من شأنه أن يؤدّي إلى تفاقم هذه الفجوة في أوروبا. وهذا سوف يجعل القارّة "أقلّ ازدهاراً ومساواةً وأماناً، ونتيجة لذلك، أقلّ حرّية في اختيار مصيرنا". والاهتمام بالابتكار، وليس فقط الحماية والتدخّل، هو الدفاع عن النفس والسبيل الوحيد إلى ضمان الأمن الاقتصادي في المستقبل.

كذلك، فإنّ مهمّة الدفاع من دون تخصيص قدر متساوٍ من الاهتمام لتحفيز البحث والتطوير سوف تفشل، لأنّ النجاح يتطلب الاهتمام بكلا الأمرين. ومن الصعب التقدير الدقيق لأهمّية هذه التقنيّات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة، والتكنولوجيا الحيوية، وتقنية النانو، والموادّ المتقدّمة وغيرها، بحيث إنّ كلّ دولة لديها أولويّاتها وقائمتها الخاصّة من التقنيات الناشئة الحاسمة، والتي من شأنها أن تعيد تشكيل العالم، بوصفها ثورة صناعية رابعة.

وكان "معهد ماكينزي العالمي"، خلص إلى أنّ هذه التغييرات "ستؤثّر في حياة المستهلكين بالمليارات، ومئات الملايين من العمّال، وتريليونات الدولارات من النشاط الاقتصادي عبر مختلف الصناعات". وسيتمكّن الفائزون في هذه المسابقة من تأمين القيادة لأجيال من التكنولوجيا من خلال جمع الإيرادات التي تدعم البحث والتطوير في المستقبل أو وضع معايير تمنح منتجاتهم الأولوية.

إنّ نجاح الدول في الشروع في نهج قطاع الابتكار التقني يعزّز قوّتها الناعمة، ويحسّن مكانتها ونفوذها. والشركات والدول المهيمنة في هذه المجالات سوف تقود اقتصاد العالم في القرن الجاري. والرئيس الصيني شي جين بينغ، يدرك هذه الحقيقة. وفي خطاب ألقاه في عام 2014، قال: "لقد أصبح الابتكار العلمي والتكنولوجي داعماً بالغ الأهمية لزيادة القوة الوطنية الشاملة". وحقيقة أنّ من يملك هذا المفتاح هو الذي سيكون بمقدوره القيام بحركة هجومية في لعبة الشطرنج الكبرى، وسيكون قادراً على استباق المنافسين والفوز بالمزايا. والرهان على القيادة التكنولوجية الآن هو الذي يشكّل مفهوم الأمن الاقتصادي الحديث. وكانت إدارة بايدن ركّزت بشكل متزايد على التقنيّات الجديدة والناشئة بإطار بيئة تكنولوجية تحدث من دفاعات أسلحتها، حيث "الولايات المتّحدة تسيطر على كلّ شيء من أجل صنع ما من شأنه أن يمنح جيشها ميزة على أيّ جيش آخر"، بحسب ما قال المسؤول السابق بوزارة التجارة، كيفن وولف.

كذلك، أوضح مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، في العام الماضي، أنّ بلاده "ستركّز على نحو دقيق على التكنولوجيا التي قد ترجّح كفّة التوازن العسكري وتضمن للولايات المتّحدة قدرة على تحقيق أهدافها العسكرية"، من دون قدرة المنافس أو الخصم على استخدامها ضدّها. لكن هذا ليس كافياً. ففي نهاية المطاف، تعترف الولايات المتّحدة وحلفاؤها أنّ المنافسة الاستراتيجية تمتدّ إلى ما هو أبعد كثيراً من المجال العسكري. والواقع أنّ مفتاح الفوز في هذا السباق يكمن في النجاح الاقتصادي، وهو ما يعني أنّ الولايات المتحدة لن تكون قادرة على تحقيق هذا النجاح إذا لم تستغلّه. وهي بحاجة إلى التفوّق على خصومها، وهذا يتطلّب منها في بعض الأحيان إبطاء قدرة المنافسين على الوصول إلى هذه التقنيات على نطاق أوسع، وليس فقط تلك التي لها استخدامات عسكرية واضحة. وإنّ التقليديّين، الذين ينعمون بالراحة في المؤسّسات الموقّرة مثل مؤسّسة "هوفر" ومعهد "كاتو"، هم من يزعمون أنّ الولايات المتّحدة تتبنّى سياسة صناعية، وتتخلّى عن سياسات السوق الحرّة التي كانت مسؤولة عن النجاحات السابقة، يعتبرون هذا قراءة خاطئة للتاريخ. في حين أنّ السردية الأميركية تدور حول رجل الأعمال المنفرد الذي يعمل في مرأب منزله، أو في الشركات الكبرى، لكنّ هذا لا يلغي حقيقة هي أنّ الولايات المتحدة لا تزال تعاني نقص التمويل، مع أنّ البلد ومنذ تأسيسها عملت على تعزيز السياسة الصناعية. ويزعم المؤرّخ الاقتصادي مايكل ليند أنّ "أكثر روّاد الأعمال ابتكاراً في القرن العشرين كانت حكومة الولايات المتّحدة". وهذه وجهة نظر يدعمها أشخاص مثل الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل" إريك شميت.

إنّ ادّعاءات العقيدة الرأسمالية لا تقلّ هرطقة عن مزاعم فهمها الخاطئ للتاريخ، بحيث يتشكّل ضر كبير لقدرتها على الوعي بالأمن الاقتصادي والسعي لتحقيقه. وإنّ التركيز المستمرّ على عائدات المساهمين، أي دافعي الضرائب، كونه مسألة رئيسة في النسخة الأميركية من الرأسمالية، هو ما يدفع إلى إعطاء الأولوية للكفاءة والأرباح على كلّ الاعتبارات الأخرى. وأدّى هذا إلى ظهور شبكات الإنتاج في الوقت الملائم الذي حوصر فيه العالم في البحث عن عائدات أكبر، والذي ثبت أنّه توجّه ركيك بشكل خطير خاصّة في أوقات الأزمات.

لقد اتّضحت حماقة هذا النهج خلال جائحة كورونا، عندما سارعت الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى تأمين معدّات الحماية الشخصية اللازمة لمكافحة انتشار الفيروس. لكن في الأساس، تعكس هذه المشكلة الضغوط التي تمأسست داخل النموذج الرأسمالي الذي يشجّع الشركات على خفض جميع التكاليف الإنتاجية من ضمنها تلك المتعلّقة بالتدابير الأمنية، اعتقاداً منه أنّ الحكومة ستتدخّل في أيّ أزمة. بإيجاز، الأرباح يتمّ خصخصتها والخسائر تُوزّع على المجتمع. لكن الأمن الاقتصادي الحقيقي يتطلّب تقييماً أفضل وأكثر دقة لثمن انعدام الأمن وتوزيع تلك التكاليف بشكل أفضل بين جميع الأطراف المعنية، وليس مجرّد تركها للعامّة. ومن المرجّح أن تكون هذه التكاليف أعلى من المتوقّع عندما لا تتّخذ القرارات من جانب شركاء الأعمال والمنافسين وفقا لمنطق السوق، حين تفيض بالاعتبارات الجيوسياسية التي تحدّدها بكين.

لكنّ الصين، الخصم الرئيس للولايات المتّحدة، لا تتحمّل هذه الافتراضات. لقد تبنّت الصين بشغف السياسة الصناعية، وفي الوقت عينه ترعى العديد من الخطط الوطنية وتوفّر مئات المليارات من الدولارات لتعزيز تطوير التكنولوجيا ورؤيتها للأمن الاقتصادي. وإنّ نسختها من الرأسمالية ترفض العقيدة الغربية، وتتبنّى سياسة المزج بين القطاعين العامّ والخاص بشكل تامّ، حتّى إنّ المراقبين يتحدّثون عن "الحزب الشيوعي الصيني"، كمعبر عن هذا المزيج المذهل بين الشركات العامّة والخاصّة والشركات الهجينة، الأمر الذي يجعل من المستحيل تقريباً القول بأيّ قدر من الدقّة، أين ينتهي نفوذ الحزب وأين تبدأ استقلالية الشركة.

زيادة على ذلك، عزّزت الصين الانفصال عن الغرب في التكنولوجيات الرئيسية، ممّا أدّى إلى ميل أرضية المنافسة في السوق المحلّية لصالح شركاتها الوطنية، بهدف تعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، وتضع شركاتها في موقع القادة العالميين في الصناعات الحيوية، وهو النموذج الحقيقي للأمن الاقتصادي. ويردّ المنتقدون الغربيون على ذلك، بأنّ هذا النموذج سوف يفشل. ويزعمون أنّه لا يستطيع الابتكار أو الاستجابة للسيولة التي تتطلّبها المتغيّرات التكنولوجية السريعة. لكن، من الناحية التاريخية، كان الاقتصاد العالمي في حالة من الفوضى، وكان الصينيون خلاله مبتكرين غير عاديّين، اخترعوا الورق والطباعة والبوصلة والبارود. وتظهر تحليلات أنّ الصين متقدّمة على الولايات المتّحدة أو متساوية معها في التقنيّات الجديدة والناشئة الحاسمة. وإنّ عدّ الصين قادرة فقط على السرقة أو التقليد هو قصر نظر بصورة خطيرة.

نقله إلى العربية: حسين قطايا