"فورين بوليسي": إعادة بناء دمشق القديمة بعد رحيل الأسد
على الرغم من إعلان السوريين بداية مرحلة جديدة في سوريا، إلا أنّ الشكوك حول مستقبل البلاد وماضيها لا تزال قائمة.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً كتبته الصحافية ليز كوكمان التي تغطي التكلفة البشرية للحروب، تتحدث فيه عن إعادة بناء دمشق القديمة بعد سقوط النظام السوري، والشكوك وعدم اليقين لدى السوريين حول مستقبل البلاد.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
ذات يوم، كان هناك نصب تذكاري لبشار الأسد يظهر للسكان المحليين من قاعدة في وسط دمشق، وهو يمثل القبضة الحديدية لنظامه. واليوم، وبعد مرور شهر على سقوط نظام الأسد، لم يتبق سوى قضيب حديدي صدئ. عقب ساعات من سقوط نظام الأسد، بدأ السوريون في محو بقايا حكمه الوحشي. فأسقطوا نصباً تذكارياً يعود للرئيس الفار ووالده حافظ الأسد وشوهوا صورهما ونهبوا المكاتب الحكومية والقصور التابعة للعائلة وهاجموا السجون.
كانت معظم أبواب البلدة القديمة في دمشق مزينة بالعلم السوري، لكن السكان تسلقوا السلالم ليطلوها باللون الأبيض الناصع، في إشارة إلى فتح صفحة جديدة لبلد يتطلع اليوم إلى النهوض من تحت رماد حكم عائلة الأسد الذي دام لأكثر من نصف قرن.
وعندما زرتُ المدينة في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر، كانت الاحتفالات الصاخبة لا تزال تملأ أرجاء دمشق. وكانت ساحة الأمويين مفعمة بالحيوية، والألعاب النارية الحمراء تضيء السماء، وكان أحد المتحدثين على منصة مؤقتة يَعد بمستقبل أكثر شمولاً. وقام الجمهور بالغناء وتسجيل مقاطع فيديو، حرصاً منه على توثيق هذه اللحظة العظيمة في التاريخ.
إلا أنّه وسط هذه المشاهد الباعثة على الفرح، لا تزال الشكوك حول ما ينتظر السوريين في المستقبل قائمة. فسوريا تحمل ندوباً عميقة نتيجة حرب أهلية استمرت عقداً من الزمن وسنوات من الانهيار الاقتصادي. وعندما شنّت الجماعات المتمردة بقيادة "هيئة تحرير الشام" هجومها الخاطف في مطلع كانون الأول/ديسمبر، تسلّمت زمام أمة غارقة في الأزمات. فبعد نحو 14 عاماً من الحرب الأهلية الوحشية، تشير التقديرات إلى أنّ أكثر من نصف مليون شخص لقوا حتفهم، فضلاً عن تهجير 14 مليوناً آخرين من ديارهم.
بالإضافة إلى ذلك، تعرضت أجزاء كبيرة من الأطراف الشرقية والجنوبية للعاصمة لأضرار بالغة أو دمرت. وكان الطريق الرئيسي لشمال العاصمة في يوم من الأيام يشكل الشريان الحيوي للبلاد. أما اليوم، فيغطيه الركام. وأدّت سنوات من القصف إلى تجريد المباني السكنية من هياكلها، تاركة وراءها أرضاً قاحلة مروّعة. وتحت أشعة شمس الشتاء في سوريا، يمتد مزيج من الغبار والركام لأميال.
وكان حي جوبر، وهو أحد أحياء الغوطة الشرقية بدمشق، في السابق معقلاً للمتمردين وواحداً من أكثر ساحات القتال المتنازع عليها خلال الحرب. وقد تعرّض لأسوأ أنواع التدمير، إذ قدرت الأمم المتحدة أنّ 93% من مبانيه قد دمّرتها الغارات الجوية بحلول عام 2018. كما تعرّضت المنطقة إلى هجمات كيميائية متعددة. ولا تزال هناك حفرة ضخمة في الموقع الذي تعرض لهجوم بغاز السارين عام 2013، ويُعتقد أنه خلال هذا الهجوم استخدمت الأسلحة الكيميائية الأكثر فتكاً في هذا القرن.
وأخبرني محمد، وهو أحد الناجين من هذا الهجوم وأحد السكان المحليين السابقين، قائلاً: "لقد غطى الناس وجوه الأطفال بملابس مبللة بالبول البشري في محاولة لإنقاذهم". ولم يرغب في استخدام اسمه الكامل، لأنه كان قد تم تجنيده قسراً في وقت لاحق في قوات النظام.
الدمار هائل في دمشق وحلب وإدلب وحماة وحمص. فقد تم تدمير أكثر من 40% من البنية التحتية للبلاد، فضلاً عن انتشار الفقر المدقع في كل مكان. ويعيش نحو 96% من السكان على أقل من 7 دولارات في اليوم، وفقاً للبنك الدولي. كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي في سوريا من 60 مليار دولار أميركي في عام 2010 إلى أقل من 9 مليارات دولار أميركي، في حين تشير التقديرات إلى أنّ الاحتياطيات الأجنبية انخفضت بنحو 200 مليون دولار أميركي، أي ما يعادل أقل من شهر من الواردات.
وخلال الحرب، فقدت الليرة السورية 99% من قيمتها التي تبلغ حالياً 13 ألف ليرة مقابل دولار واحد. ويتطلب شراء القهوة فحسب رزمة من النقود. كما أنّ أكثر من نصف أطفال سوريا خارج المدرسة، ويضطر الكثير منهم إلى القيام بأعمال مثل جمع النفايات لتعزيز دخل أسرهم.
التقيت بعبد الرحمن، البالغ من العمر 12 عاماً، وهو يتجول في سيارة محترقة على طول الطريق الذي يحيط بأنقاض الغوطة الشرقية. بالنسبة له، كل يوم هو بمنزلة معركة من أجل البقاء؛ أخبرني أنه يعمل من الصباح إلى المساء ليكسب 1.50 دولار فقط حتى يتمكن من شراء الخبز لأسرته.
علاوة على ذلك، تُعد الكهرباء ضحية أخرى لهذه الحرب. فمع تعرّض خطوط نقل الكهرباء للتدمير نتيجة سنوات من الاقتتال، بات أكثر من نصف الشبكة معطلاً. وتتوافر الكهرباء التي تؤمنها الدولة لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات فقط يومياً في معظم المناطق. وفي الليل، تغرق سوريا في الظلام. وتشبه القيادة على الطريق السريع بين حلب ودمشق التنقل في فراغ أسود، وتكون المصابيح الأمامية المصدر الوحيد للضوء على الطرقات. وتتحول البلدة القديمة في دمشق، العاصمة التي يبلغ عدد سكانها 2.5 مليون نسمة، إلى متاهة غامضة بعد غروب الشمس، حيث يمشي المارة بحذر غير قادرين على الرؤية أمامهم. ويتمتع ثلث البلاد فقط بإمكانية الوصول إلى الإنترنت، وفقاً لبحث نشره موقع "DataReportal" في مطلع عام 2024.
وقد تولّت حكومة مؤقتة جديدة، بقيادة قائد فعلي ورئيس "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسمه الحركي محمد الجولاني، المهمة الضخمة المتمثّلة في إعادة بناء سوريا. وتعهّدت الإدارة بإدخال تحسينات ملموسة في غضون عام واحد وإجراء انتخابات في غضون أربعة أعوام.
هناك تفاؤل حذر بين السوريين، ممزوج بالخوف من الاتجاه الذي سيسلكه التنظيم في البلاد. ونظراً لتجذرها في التشدد الإسلامي، تبقى "هيئة تحرير الشام" مصنفة كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والأمم المتحدة وغيرها من الدول والمنظمات. إلا أنّ التنظيم وعد بالشمولية في الاستجابة لدعوات المجتمع الدولي لاحترام حقوق النساء والأقليات.
وفي هذا السياق، قال محمد درحي الزوبية، وهو أحد مقاتلي "هيئة تحرير الشام"، متحدثاً خارج الجامع الأموي التاريخي خلال صلاة الجمعة: "آمل أن تصل الرسالة إلى الغرب. لقد تم تصنيفنا كإرهابيين لكننا أصحاب قضية".
لقد فرّ محمد إلى تركيا كلاجئ بعد أن قُطعت حناجر زوجته الحامل وأطفاله الثلاثة أمام ناظريه. وعاد في تشرين الثاني/ نوفمبر للمشاركة في هجوم المتمردين. وقال: "نحن آباء الأطفال المذبوحين، وإخوة الأشقاء المسجونين؛ نحن أبناء هذا البلد، وهيئة تحرير الشام هي مجرد وسيلة للحصول على ما نريد؛ سوريا حرة".
وسيراهن الكثيرون اليوم على ما إذا كان القادة الجدد قادرين على تحقيق الاستقرار في بلد منقسم. وقد وعد الشرع بحل فصائل المتمردين المختلفة، بما في ذلك تنظيمه، ودمج المقاتلين في وزارة دفاع مركزية مع فرض الضوابط على الأسلحة. إلا أنّ ثلث البلاد لا يزال تحت سيطرة القوات التي يقودها الكرد والتي تتصدى لهجمات الجماعات المدعومة من تركيا. وقال أحد المتمردين الأتراك، الذي عرف نفسه باسم عمر: "إنّ سوريا معقدة للغاية. لقد أمضينا سنوات في قتل بعضنا البعض، فكيف يمكن أن نكون جميعاً في الجانب نفسه؟"
ومع مرور أكثر من عقد من العنف الداخلي الذي أفسح المجال لإرساء سلام هش وسريالي، يتصارع السوريون مع ماضيهم بقدر ما يتصارعون مع مستقبلهم. فقد كشف سقوط نظام الأسد عن أدلة واسعة النطاق على فظائع مخفية، تم إنكارها منذ فترة طويلة. وتم اكتشاف العشرات من المقابر الجماعية في جميع أنحاء البلاد، ويُعتقد أنّ الكثير من الأشخاص الذين يقدر عددهم بأكثر من 100 ألف شخص ممن هم في عداد المفقودين قد ماتوا.
إنّ تحقيق العدالة في ما حدث لهو حاجة ملحة، ولكن هل يمكن تحويل نظام استخدم منذ فترة طويلة كسلاح للقمع للتعامل مع المهمة الشاقة المتمثلة في المساءلة؟ ويتفاوض المحققون الدوليون من أجل الوصول إلى توثيق جرائم الحرب المحتملة، لكنهم يواجهون عقبات في وقت مبكر مثل العقوبات التي تحد من التعامل مع "هيئة تحرير الشام". ففي مواقع مثل التضامن، إحدى ضواحي دمشق الجنوبية، تم الكشف عن الفظائع. لقد كان الحي في السابق معقلاً للمتمردين، لكنه بات اليوم موقعاً مدمراً يتجول فيه الأطفال والجماجم البشرية وبقايا العمود الفقري التي اكتشفتها الكلاب تحيط بهم.
لقد شكلت المنطقة ساحة اقتتال، وبحسب السكان المحليين، فإن المدنيين تعرضوا للاختطاف والاغتصاب والذبح بشكل منهجي. وبات حي التضامن مرادفاً لسفك الدماء، عندما كشفت مقاطع فيديو مسربة عن مذبحة تاريخية راح ضحيتها نحو 300 شخص.
وقالت لميس علوش، وهي إحدى سكان هذه المنطقة وتبلغ من العمر 50 عاماً: "لقد تم ذبح الكثير من الناس هنا. وكل ما فعلناه هو أننا طلبنا أن نكون أحراراً. حرية حرية، هذه هي الكلمة التي يتردد صداها كثيراً في سوريا اليوم، بعد خمسة عقود من القمع والحرب الأهلية الوحشية. ويُعد تحرير السجناء من سجن صيدنايا، "المسلخ البشري" سيئ السمعة في سوريا، إحدى اللحظات الأكثر رمزية لتقدم المتمردين".
وكان من بين سجناء صيدنايا يوسف رحمة البالغ من العمر 36 عاماً، والذي أمضى 7 سنوات محتجزاً في زنزانة ضيقة مساحتها 7 أمتار في 5 أمتار مع 20 سجيناً آخرين. وكان الكلام ممنوعاً، وأي انتهاك يقابل بالتعذيب. وقال: "كان حراس السجن يشغلون الآلات الثقيلة عندما يعدمون الأشخاص حتى لا يُسمع صراخهم. جريمتي الوحيدة هي أنني طالبت بحريتي".
قد تتم إزالة الأنقاض والغبار من سوريا. ويواجه السوريون مهمة شاقة تتمثل في إعادة بناء ليس مدنهم فحسب بل مجتمعهم أيضاً، بينما يتصارعون مع جروح الماضي العميقة.
نقلته إلى العربية: زينب منعم