"بلومبرغ": ماكرون يراهن: أنا ومن بعدي الطوفان

ربما يأمل الرئيس الفرنسي في أن يخشى الناخبون أقصى اليمين أو أقصى اليسار أكثر منه في انتخابات مبكرة. والأسواق المالية لن تحبذ ذلك أيضاً.

  • الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
    الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

شبكة "بلومبرغ" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب المتخصص بأخبار الأسواق المالية، جون أوثرز، تحدث فيه عن تأثير نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي وما تلاها من أحداث، وخصوصاً في فرنسا، في الأسواق المالية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

تركت الانتخابات الأخيرة التي شهدتها 3 دول ناشئة كبيرة، هي الهند والمكسيك وجنوب أفريقيا، الأحزاب الحاكمة في السلطة، إلّا أنّها أحدثت تداعيات صادمة في السوق. واليوم، حان دور العالم المتقدم، مع توجه الاتحاد الأوروبي يوم الأحد إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء جدد في البرلمان الأوروبي.

وبحسب هذه الانتخابات، سيظل حزب الشعب الأوروبي، الذي ينتمي إلى يمين الوسط، يتمتع بأكبر عدد من المقاعد. وفي هذا السياق، قال ديفيد روش من شركة "Independent Strategy" إنّ "المركز السياسي للاتحاد الأوروبي صمد، وكذلك سيحظى الائتلاف الحاكم المؤيد لأوروبا (والذي يضم أيضاً الديمقراطيين الاشتراكيين والليبراليين) بأغلبية المقاعد في برلمان الاتحاد الأوروبي. وهذه أخبار جيدة بالنسبة إلى أصول الاتحاد الأوروبي في الموازنة". 

وأظهرت هذه الانتخابات فوارق شاسعة في النتائج. لقد عانى اليمين الشعبوي انتكاسات في كل من بولندا وفنلندا وهولندا والسويد. أمّا في فرنسا وألمانيا، فتعرّضت أحزاب الوسط ويسار الوسط القائمة، التابعة للرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار أولاف شولتس، للهزيمة من حزبي أقصى اليمين، وهما حزب التجمع الوطني في فرنسا وحزب البديل من أجل ألمانيا. حتى إنّ الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة شولتس تراجع إلى المركز الثالث. وفي فرنسا، حيث حصل حزب ماكرون على أقل من نصف أصوات حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان، خاطر الرئيس في حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى إجراء انتخابات على جولتين أيام الأحد، قبل اختيار المملكة المتحدة لمجلس العموم وبعده، في 4 تموز/يوليو. وفي حال لم تسر الأمور على النحو الذي يريده، فقد يُمضي ماكرون الأعوام الثلاثة الأخيرة من رئاسته في "تعايش" قسري (على حد تعبير الفرنسيين) مع هيئة تشريعية تهيمن عليها لوبان.

إلى أي حد يجب أن تكون ثورة اليمين الشعبوي مخيفة؟ إنّ تجربة جيورجيا ميلوني في إيطاليا، والتي أشرفت على تعزيز الأسواق المالية بعد 20 شهراً من تولّيها السلطة، أو تجربة الأعوام الأربعة التي أمضاها دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الأولى، عندما كان أداء الأصول المالية جيداً حتى ظهور الجائحة، تُظهر أنّ الاستثمارات قد تبقى في وضع جيّد في ظل الحكم الشعبوي. أمّا فرنسا، فوضعها محفوف بالمخاطر.

كان الفارق بين عائدات السندات الفرنسية مقارنة بعائدات السندات الألمانية ضئيلاً، وكان يُعتقد أنه لا يوجد فارق بينهما. لكن هذا الاعتقاد تغير مع أزمة الديون السيادية التي شهدتها منطقة اليورو. وفي مرحلة ما، كان مديرو صناديق التحوط يراهنون بحماسة على أنّ فرنسا ستحذو حذو كل من اليونان وآيرلندا والبرتغال، عبر وضع خطة إنقاذية. إلّا أنّ ذلك لم يحدث بسبب وعد البنك المركزي الأوروبي بالقيام "بكل ما يلزم" لإنقاذ اليورو. إلّا أنّ الفارق شهد ارتفاعاً آخر في أوائل عام 2017، بحيث بدا أنّ لوبان تمتلك فرصة حقيقية للتغلب على ماكرون في الانتخابات الرئاسية. وخلال أعوام صعود ماكرون، لم يعد هذا الفارق إلى مستوياته الطبيعية أبداً.

المخاطر السياسية الفرنسية لا تختفي

إنّها فترة عصيبة بالنسبة إلى ماكرون لخوض مثل هذه المخاطرة. فقبل أسبوع واحد فقط، خفضت وكالة "ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني السيادي الفرنسي، مشيرةً إلى مخاوف بشأن عجزها. كما تراجعت أسواقها المالية بصورة حادة هذا العام.

فهل هي مخاطرة تستحق العناء؟ يقول الفرنسي أوليفييه بلانشارد، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، إنّ الدعوة إلى إجراء انتخابات كانت القرار الصحيح: فإمّا أن يصبح تفكك برنامج حزب التجمع الوطني واضحاً، خلال الحملة الانتخابية ويخسر الانتخابات، وإما يفوز حزب الجبهة الوطنية ويتسلم زمام السلطة ويفسد الأمور بسرعة. وفي هذه الحالة، نحصل على عامين سيئين، مقارنة بخمسة أعوام في حال فاز هذا الحزب في انتخابات عام 2027.

فهل يُعقل أن تكون الأسواق المالية سبباً في نشوء أزمة في حال واجهت مثل هذه الحكومة المتفككة المتاعب، وفي ظل وجود خطر وقوع كارثة حقيقية بسبب النظام الانتخابي؟ في ألمانيا، يحتاج أي حزب إلى 5% من أصوات الناخبين قبل أن يتمكن من الفوز بالمقاعد، وهو إجراء أدّى إلى إبعاد المتطرفين. أمّا في فرنسا، فيركز نظام الجولتين في فرنسا على الانتهاء من الدورتين الأولى والثانية للقيام بجولة الإعادة.

وكما حدث في الدورتين الانتخابيتين الرئاسيتين الأخيرتين، قد يتخيل ماكرون فرصته في التغلب على لوبان (أو حزبها، في هذه الحالة) في سباق مباشر. لكن، إذا توحدت أحزاب أقصى اليسار، فقد تتحول الجولة الثانية بسهولة إلى منافسة بين قوى لوبان وقوى الناشط اليساري الذي لا يعرف الكلل، جان لوك ميلانشون، ومزيج غير مستساغ من الاشتراكيين والخضر. وهو أمر يُرجح حدوثه، ولن ترغب الأسواق المالية فيه.

السياسة محورها الناس: نسخة المملكة المتحدة

بات السؤال الذي يُطرح فجأة في المملكة المتحدة، هو ما إذا كان من الممكن أن تتفوق قوة منافسة تابعة لليمين على حزب المحافظين الحالي، وهو الحزب السياسي الأكثر نجاحاً في العالم، على مدى تاريخه الممتد قرنين من الزمن، إذ لا تزال الثورة ضد العولمة والنخبة السياسية نشطة في المملكة المتحدة بقدر ما هي في أي مكان آخر، حتى بعد خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي. واليوم، عاد نايجل فاراج، الذي قاد حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بصفته زعيماً لحزب الإصلاح المسمى حديثاً، وهو يشن هجوماً مباشراً على المحافظين الضعفاء.

فالنظام في المملكة المتحدة لا يحاول تطبيق مبدأ النسبية، الذي يسمح للمرشح الحاصل على أغلبية الأصوات للفوز بمقعد بأن يصبح نائباً في البرلمان. وهذه مشكلة بالنسبة إلى الأحزاب التي تتمتع بدعم واسع وسطحي في آن، مثل الديمقراطيين الليبراليين، ومشكلة كبيرة بالنسبة إلى أحزاب مثل القوميين الإسكتلنديين الذين يتمتعون بنفوذ كبير. وحتى الآن، أُحبطت هذه الجهود من جانب فاراج، الذي لم يُنتخب نائباً في البرلمان ولم يفز بأغلبية كبيرة في مدينة وستمنستر. أمّا في حال علت أصوات الإصلاحيين مع سقوط المحافظين، فهناك احتمال محير بحدوث تحول جذري. وتُعَد العقبات التي يواجهها أقصى اليمين أكبر في المملكة المتحدة، مقارنة بأي مكان آخر، لكن في حال تمت إزالتها، فقد ينفتح النظام السياسي أمامه. وهذا من شأنه أن يضيف عنصر الصدفة الذي يكاد يكون التنبؤ به مستحيلاً. 

يرجع ذلك جزئياً إلى أنّ المشكلة تقع على عاتق الأشخاص الذين تجد الأسواق صعوبة في الحكم عليهم. والمشكلة، التي يواجهها المحافظون في الوقت الحاضر، هي أنّ رئيس الوزراء ريشي سوناك لا يملك أدنى فكرة عن كيفية ممارسة السياسة. والأسوأ من ذلك أنّ سلَفه، ليز تراس الفاشلة، أثبتت هي الأخرى جهلها في السياسة. وكلاهما، بالمناسبة، حاصل على شهادات في الفلسفة والسياسة والاقتصاد من جامعة أوكسفورد، وخاضع لدورة مصممة لإعداد القادة الجدد. لذا، فإن هذا الأمر يعطي انطباعاً سيئاً عن المؤسسة البريطانية، ويثبت أنه لا يمكن الحكم على الناس من خلال سجلهم الأكاديمي، مثل فاراج، الذي لم يذهب يوماً إلى الجامعة، بل توجه مباشرة لممارسة مهنة التجارة، على الرغم من ذهابه إلى مدرسة ثانوية خاصة مرموقة.

في بعض الأحيان، تتفوق الكفاءة على جميع القضايا الكبرى والأيديولوجيات. وباءت جميع محاولات سوناك، لتبرير قراره السيئ الذي لا يمكن فهمه بعدم البقاء في نورماندي للمشاركة في الاحتفالات الدولية بذكرى إنزال النورماندي، بالفشل. تماماً كما عجزت تراس من قبلُ عن شرح مقترحاتها بشأن التخفيضات الضريبية غير الممولة، الأمر الذي أدّى بسرعة إلى انهيار سوق السندات الحكومية وانتهاء رحلتها كرئيسة للوزراء. 

ويحاول سوناك، اليوم، التكهن فيما إذا كان المحافظون سيحاولون إقالته بدءاً من الآن حتى موعد الانتخابات، وهي مناورة لا تبدو ممكنة دستورياً، لأنّه، مثل تراس، لا يُعدّ أهلًا بما فيه الكفاية للقيام بهذه المهمة. وتطرأ تغييرات ضخمة على خطأ الحزب المتمثل بترشيح سياسيين غير مؤهلين على التوالي. وعليه، فإنّ بريطانيا، التي يتزعم فيها حزب اليمين شخص مثل فاراج، ستشكل مكاناً مغايراً للغاية وعرضاً استثمارياً جاذباً، مع الإشارة إلى أنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يؤتِ ثماره بعدُ بالنسبة إلى المملكة المتحدة.

نقلته إلى العربية: زينب منعم