حول الأزمة الراهنة في العلاقات البولندية الأوكرانية

أثار قرار بولند بحظر استيراد منتجات الحبوب الأوكرانية إلى البلاد اعتباراً من 16 أيلول/سبتمبر، رد فعل عصبياً من أوكرانيا، حيث قدم ممثلو كييف شكوى ضد بولندا إلى منظمة التجارة العالمية.

  • رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي يرحب بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في وارسو (نيسان 2023)
    رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي يرحب بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في وارسو (نيسان 2023)

تتناول ماريا بافلوفا، الباحثة في قسم الدراسات السياسية الأوروبية في معهد البحوث الوطني للاقتصاد العالمي، التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، موضوع الأزمة الراهنة في العلاقات البولندية الأوكرانية، في مقال تحليلي بعنوان "هل كلٌ يجني ما يزرع؟" متوقفة عند أصل النزاع وامتداداته. 

فيما يلي نص المقال كاملاً منقولاً إلى العربية:

في 15 أيلول/سبتمبر 2023، رفعت المفوضية الأوروبية الحظر المفروض على استيراد المنتجات الزراعية الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى أنه لم يعد هناك أي سبب لتمديد الحظر. وسمحت بروكسل لأوكرانيا بتصدير 4 أنواع من المنتجات الزراعية (القمح والذرة وبذور اللفت ودوار الشمس)، لكن 3 دول أوروبية، هي بولندا والمجر وسلوفاكيا، أعلنت من جانب واحد تمديد الحظر المفروض على الواردات الأوكرانية، وبالتالي انتهاك لائحة الاتحاد الأوروبي.

أصول النزاع

اندلعت الأزمة المرتبطة بزيادة المعروض من الحبوب الأوكرانية والمنتجات الزراعية الأخرى في الأسواق المحلية لدول أوروبا الوسطى والشرقية مطلع ربيع 2023. واكتسبت هذه المنطقة أهمية رئيسة لدى كييف، بعدما شنت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة. في السابق مرت تدفقات الصادرات الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود، لكن اعتباراً من عام 2022، أعيد توجيه العبور الرئيس للصادرات براً نحو الغرب. بعد فتح بروكسل ما يسمى بـ "ممرات التضامن" في أيار/مايو 2022، والتي نصت على إلغاء جميع أنواع الضوابط على المنتجات الأوكرانية المصدّرة إلى الاتحاد الأوروبي عبر رومانيا وبولندا (العبور المائي عبر ميناء كونستانتا الروماني والعبور البري عبر الأراضي البولندية)، بات هذان البلدان الطريق الرئيس لعبور أوكرانيا وشريكين مهمين لكييف. على سبيل المثال، ارتفعت واردات الحبوب إلى بولندا، التي بلغت 0.06 مليون طن عام 2021، إلى 2.45 مليون طن عام 2022، زادت منها واردات القمح فقط بنسبة 16000 في المئة.

ولم تحدث "صفقة الحبوب" المتعلقة باستئناف تصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود، والتي دخلت حيز التنفيذ منذ الأول من آب/أغسطس 2022، تأثيراً كبيراً على الوضع في دول أوروبا الشرقية المتاخمة لأوكرانيا. اتضح أن اتجاهات الصادرات الأوكرانية لا تتأثر كثيراً بالاتفاقيات الدولية والخدمات اللوجستية، بل تتأثر بجدول التعريفات والضرائب، والطريق الأقصر والأرخص إلى حدود الاتحاد الأوروبي، وعوامل أخرى، ما يضعف قدرة أوروبا على التحكم بها.

بذرة الخلاف

تطور الوضع إلى مستوى أكثر خطورة بالنسبة للمنتجات الزراعية الأوكرانية عبر بولندا. بالعودة إلى صيف 2022، لم يخف رئيس الحكومة البولندية ماتيوش مورافيتسكي حماسته في أن تصبح بولندا مركزاً تجارياً واقتصادياً لأوكرانيا وستساعدها في تصدير الحبوب للبيع، خاصة وأن بروكسل خصصت أموالاً لوارسو بهدف تحسين القدرة الإنتاجية للبنية التحتية البولندية المشاركة في استيراد المنتجات الزراعية الأوكرانية.

ومع ذلك، بحلول ربيع عام 2023، تفاقم الوضع بشكل كبير، أي قبل 3 أشهر من موسم الحصاد، كان هناك فائض في المعروض من الحبوب في الإهراءات والأسواق البولندية، واستمرت أسعارها في الأسواق البولندية والأوروبية في الانخفاض بسرعة.

وبحلول بداية الصيف، وصلت احتياطيات الحبوب في المخازن البولندية إلى رقم قياسي بلغ 10 ملايين طن. ووفقاً لاستطلاعات الرأي، في ربيع وخريف عام 2022، قال 24% من المزارعين البولنديين إن الأعمال العسكرية في أوكرانيا تؤثر بشكل خطير على أعمالهم. وأشار 17% منهم إلى أن هذا الوضع يهدد استقرارهم.

في الوقت نفسه، ظهرت معلومات في وسائل الإعلام البولندية مفادها أنه تم توريد ما يسمى بالحبوب "التقنية" من الأراضي الأوكرانية إلى بولندا، وهي غير صالحة للطعام ولا يمكن استخدامها إلا لإعداد الكحول الصناعي أو مكونات الوقود الحيوي. ومع ذلك، وفقاً لتحقيقات صحفية، نتيجة جشع الشركات البولندية والموردين الأوكرانيين، تم خلط الحبوب الصناعية الأوكرانية مع الحبوب البولندية، وعولجت وطحنت ثم بيعت من قبل المضاربين في السوق البولندية بأسعار مخفضة. كما أن المعلومات الواردة من الحكومة السلوفاكية حول المستوى العالي لسُمّيّة الحبوب الأوكرانية على البشر والحيوانات، لكونها المشبعة بالمبيدات الحشرية والملوثة بفطريات العفن، صبّت الزيت على النار.

ونتيجة لفضيحة الحبوب التي اندلعت، في 15 نيسان/أبريل 2023، حظرت بولندا رسمياً استيراد المنتجات الزراعية من أوكرانيا حتى 30 حزيران/يونيو. وجدت بروكسل نفسها في موقف صعب، وكان عليها، من جهة، أن تظل ملتزمة بكل الدعم الممكن لكييف، ومن جهة أخرى، العمل لحماية مصالح مواطني الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومن ناحية ثالثة، كان عليها قمع الإجراءات الأحادية الجانب من قبل السياسيين في أوروبا الشرقية، وخاصة البولنديين.

في البداية، غردت وارسو خارج سرب الاتحاد الأوروبي ما تسبب بتوجيه المسؤولين الأوروبيين ملحوظات حادة لها، إذ اتهموها بانتهاك اتفاقية الشراكة ومنطقة التجارة الحرة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن القواعد القانونية للاتحاد الأوروبي، ولكن في 2 أيار/مايو، حظرت المفوضية الأوروبية استيراد المنتجات الزراعية إلى بولندا ودول وسط وشرق أوروبا الأخرى، والذي كان سارياً حتى 15 أيلول/سبتمبر 2023.

على الرغم من أن قرار الاتحاد الأوروبي هذا هدأ مؤقتاً المزارعين البولنديين الغاضبين، إلا أنه لم يحل المشكلة. طوال فصل الصيف، أكد رئيس الوزراء مورافيتسكي مراراً وتكراراً أن بولندا ستطالب بتمديد الحظر على مستوى الاتحاد الأوروبي، وإذا تم رفعه، فإنها ستجدد الحظر على استيراد الحبوب من تلقاء نفسها، حتى لو لم تأذن المفوضية الأوروبية بذلك.

أثار قرار وارسو بحظر استيراد منتجات الحبوب الأوكرانية إلى البلاد اعتباراً من 16 أيلول/سبتمبر، والذي ينتهك لوائح بروكسل، رد فعل عصبياً من أوكرانيا، حيث قدم ممثلو كييف شكوى ضد بولندا إلى منظمة التجارة العالمية، ووعدوا بفرض حظر على استيراد الخضروات البولندية، واتهم زيلينسكي من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة بولندا بمساعدة روسيا.

ورداً على ذلك، هددت وارسو أوكرانيا بفرض عقوبات جديدة على أنواع أخرى من المنتجات الزراعية ووقف إمدادات الأسلحة. السؤال البديهي الذي يطرح نفسه بين مراقبي المناوشات البولندية الأوكرانية: هل كان من الممكن تجنب مثل هذا التصعيد في صراع الحبوب؟ الإجابة بنعم ممكنة تماماً، ولكنها لن تأخذ في الاعتبار المعنى السياسي لهذه الأزمة.

أوكرانيا في السباق الانتخابي البولندي

وسط الاستعدادات لإجراء الانتخابات البرلمانية في بولندا (15 تشرين الأول/أكتوبر 2023)، يكتسب العامل الأوكراني أهمية متزايدة. وقد استغلت المعارضة لحزب "القانون والعدالة الوطني" المحافظ الحاكم أزمة الحبوب بمهارة، حيث اعتبرت أن الحكومة السبب الرئيس للوضع الحالي. وهذا يهدد حزب القانون والعدالة بخسارة عدد كبير من الأصوات من ناخبيه التقليديين من المزارعين البولنديين.

يُشار إلى أنه على الرغم من الإجماع السياسي الداخلي الذي كان موجوداً في عام 2022 بشأن ضرورة تقديم المساعدة لأوكرانيا، إلا أن فكرة عبور الحبوب الأوكرانية تعرضت حينها لانتقادات فورية من قبل زعيم المعارضة الليبرالية دونالد تاسك، الذي حذر حول العواقب السلبية لمثل هذا القرار على الصناعة الزراعية البولندية. وبسبب عدم خشيته من المزيد من الاتهامات بممارسة أنشطة "موالية لروسيا"، تمكن تاسك، من خلال التعبير عن مخاوف ممثلي المزارعين البولنديين، من كسب نقاط سياسية. في صيف عام 2023، استولى "الائتلاف المدني" التابع له مرة أخرى على زمام المبادرة لحماية المزارعين البولنديين من حزب القانون والعدالة، وكسب إلى جانبه اتحاد المزارعين.

الهجوم على مواقع حزب القانون والعدالة يجري أيضاً بشكل نشط من اليمين. كانت إحدى الظواهر الصادمة التي سبقت الانتخابات بالنسبة لعلماء الاجتماع البولنديين هي ظهور تحالف الأحزاب ذات الطبيعة اليمينية المشككة في أوروبا، والموالية جزئياً لروسيا، وهو اتحاد الحرية والاستقلال، الذي يحتل طوال عام 2023 بثقة المركز الثالث في تقييمات ما قبل الانتخابات، حيث حصلت على ما يصل إلى 15% من الدعم بفضل اللعب على المشاعر المعادية لأوكرانيا لدى الناخبين.

ولا يمكن للسياسيين ذوي الخبرة إلا أن يلاحظوا أنه على خلفية المشاكل الاقتصادية وأزمة الطاقة والإرهاق العام للسكان من الصراع العسكري الذي طال أمده في أوكرانيا، فإن الموقف تجاه أوكرانيا بشكل عام، وتجاه السياسة المؤيدة لأوكرانيا التي يتبناها الحزب الحاكم، بات يتغير.

وفقاً لمختبر الأبحاث التابع لجامعة وارسو، فإن عدداً أقل من البولنديين يؤيدون استمرار المساعدة لأوكرانيا (من حزيران/يونيو إلى آب/أغسطس 2023، انخفض عددهم من 62% إلى 42%)، في حين أن ربع المشاركين في الاستطلاع يعارضون ذلك بشكل واضح. كما أن ربع المشاركين في استطلاع آخر يعارضون بشكل قاطع توطين اللاجئين الأوكرانيين في بولندا.

ويحاول زعماء الأحزاب المتنافسة التكيف مع المزاج المتغير للناخبين، من خلال تغيير خطابهم على عجل، قبل شهر من الانتخابات البرلمانية. في الواقع، تبين أن أسطورة "الأخوة البولندية الأوكرانية"، التي تم إنشاؤها بعد أشهر قليلة من بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، لم تكن غير فعالة في السباق الانتخابي فحسب، بل كانت نتائجها عكسية من الناحية السياسية.

وفي الصراع من أجل كل صوت انتخابي، يحاول حزب القانون والعدالة الآن أن يأخذ صورة المقاتل الرئيس ضد "التهديد الأوكراني" ليرفع حظوظه. وقد يكون من المفيد مقارنة خطابات الرئيس البولندي أندريه دودا، الذي تحدث في أيار/مايو 2022 عن الفرصة التاريخية لتوحيد الشعبين البولندي والأوكراني الشقيقين، ورفض في أيلول/سبتمبر 2023 إنقاذ أوكرانيا على حساب بولندا. لقد أدى الخطاب الحاد المناهض لأوكرانيا إلى نتائج منها ارتفاع دعم حزب القانون والعدالة خلال أسبوع الصراع الحاد مع كييف بنسبة 0.7% في وجه منافسيه اليمينيين.

عواقب السياسة الخارجية

ظلت أوكرانيا بالنسبة إلى السياسة البولندية لمدة طويلة مجرد واجهة للصراع مع روسيا. ويبدو أن أزمة الحبوب أرغمت وارسو الرسمية، وللمرة الأولى، على الاعتراف علناً بتكاليف التحالف مع أوكرانيا، وانضمامها الافتراضي إلى الاتحاد الأوروبي، على الأقل في المجال الاقتصادي. للمرة الأولى، رسمت السلطات البولندية حدود التعاطف مع أوكرانيا ودعمها. ويبدو أن هذه الأطروحة مهمة للغاية بالنسبة للعلاقات البولندية الأوكرانية المستقبلية، ما يدل على أنه سيكون هناك المزيد من الحدود.

ولا تشمل الحرب الاقتصادية الحالية والمنافسة الاقتصادية الحتمية في السوق الزراعية للاتحاد الأوروبي في المستقبل، ولكن أيضاً المشاكل المرتبطة بوصول الأعمال البولندية إلى أوكرانيا، ووضع اللاجئين الأوكرانيين في بولندا ودورهم في الاقتصاد البولندي، وكذلك العلاقة بين وارسو وكييف على مسار السياسة التاريخية.

إن نزاع الحبوب، على الرغم من التصريحات الصاخبة، لن يؤدي إلى وقف الدعمين العسكري والسياسي لأوكرانيا في المواجهة مع روسيا. لكن الرواسب ستبقى، وليس فقط على شكل أزمة ثقة في العلاقات البولندية الأوكرانية على المستوى الثنائي، بل ستؤثر أيضاً على تقييم الآفاق المستقبلية للسياسة الخارجية البولندية.

السياسيون البولنديون، من ممثلي الحزب الحاكم والمعارضة، والنواب الأوروبيين ومجتمع الخبراء البولنديين، الذين نسبوا لأنفسهم على مدى العقدين الماضيين معرفة خاصة وفريدة من نوعها عن أوكرانيا (وروسيا أيضاً) يطمحون إلى أن تكريس الاعتراف بهم في بولندا بشكل خاص، وفي الاتحاد الأوروبي بشكل عام، باعتبارهم خبراء في القضايا الأوكرانية والمدخل الرئيس لدى الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا. لكنهم لم يتمكنوا في الواقع من حل قضية الحبوب من دون إثارة أزمة حادة في العلاقات مع كل من كييف وبروكسل. ومن المؤكد أن هذا الانطباع سيظل حاضراً في الأذهان عند حساب فرص بولندا الإضافية في التحول إلى لاعب سياسي جاد في الاتحاد الأوروبي أو المراوحة في حجم ضئيل هو حجمها أصلاً.

 

نقله إلى العربية: عماد الدين رائف.