أشلاء ومفقودون.. ذكريات مرعبة يرويها متطوع في فرق البحث والإنقاذ في غزة

رغم أنني كنت باحثاً اجتماعياً، إلا أنني انضممت إلى فريق البحث والإنقاذ في حي الشجاعية بمدينة غزة عندما بدأت الحرب، وفيما يلي بعض قصصي عن كوني أحد المستجيبين الأوائل أثناء الإبادة الجماعية في غزة.

0:00
  • قتلت
    قتلت "إسرائيل" أكثر من 47 ألف فلسطيني في غزة

موقع "Mondoweiss" ينشر مقالاً كتبه الفلسطيني مصطفى الجارو، وهو كان عنصراً من مجموعة ساعدت على انتشال الشهداء والجرحى في قطاع غزّة. يحكي مصطفى الجارو عن تجربته في هذا العمل وذكرياته التي وصفها بالمرعبة.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

وُلدت ونشأت في مدينة غزة في حي الشجاعية، حيث تعلمت منذ الصغر أن أخدم مجتمعي. كنت أتطوع مع الصليب الأحمر وأشارك في دورات تدريبية للإسعافات الأولية. كما كنت باحثاً اجتماعياً في الجمعيات المحلية في غزة، والتي كانت تساعد الأسر الفقيرة من خلال تقديم خدمات الرعاية الصحية أو المساعدات المالية. وعلى الرغم من خسارتي كل ما أملك في هذه الحرب، فإنني لم أفقد روح التطوع أو شغفي في مساعدة الآخرين.

قبل الحرب، كانت الحياة مستقرة. كنا نعيش حياة روتينية هنا في غزة، تماماً مثل أي شخص آخر في العالم: العمل والدراسة والهوايات والأصدقاء والعائلة. تغير كل شيء مع الحرب. الآن لا يوجد عمل ولا تعليم، وحتى الخروج أصبح مستحيلاً. 

عندما بدأت الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023، انضممت إلى فريق البحث والإنقاذ في الشجاعية، ومهمتنا الأساسية هي انتشال الجرحى من تحت الأنقاض ونقلهم إلى أماكن آمنة بعد القصف أو الهجمات الإسرائيلية. لسوء الحظ، غالباً ما كنا نستعيد الجثث بدلاً من الناجين.

هناك كثيرون منا يندفعون إلى العمل كلما سقطت قنبلة، ولن تعرف أسماءهم أبداً. هم المستجيبون الأوائل، الذين يعملون بموارد ضئيلة، أحياناً في مجموعات، وأحياناً بمفردهم، من دون أي معدات متقدمة لمساعدتنا على التعامل مع هذه المهمّات المعقدة. على الرغم من هذا، فإننا نفعل ما في وسعنا.

كل لحظة تترك صوراً لا تُنسى في ذهني: منازل مدمرة، ونساء يقفن محطمات إلى جانب بقايا منازلهن، وأطفال حفاة يركضون بين الأنقاض بحثاً عن لُعَبهم، وكبار سن يرفعون أيديهم إلى السماء، يتوسلون الرحمة. هذه المشاهد، على الرغم من قسوتها، هي التي تدفعني إلى الاستمرار.

"عمي.. أنا في قيد الحياة"

في إحدى ليالي شباط/فبراير 2024، شهدنا واحدة من أكثر لحظات الحرب رعباً. كنا مجتمعين في غرفة صغيرة بينما كانت الانفجارات تدوي حولنا، بدت كأنها أمطار غزيرة لا هوادة فيها. لكن لم يكن المطر يهطل، بل كانت قنابل إسرائيلية. كانت الانفجارات قريبة إلى درجة أنني شعرت بأن قلبي سيقفز من صدري من الخوف. استمر القصف مدة عشر دقائق بدت كأنها أبدية.

عندما توقف القصف أخيراً، خرجنا للاطمئنان على جيراننا. ما وجدناه كان أكثر من مدمر. أين عائلة حسنين؟ أين عائلة المشهراوي؟ كانت منازل هؤلاء مدمرة تماماً، ولم يكن هناك أي علامة على الحياة.

بدأنا البحث بين الأنقاض، مناديين بأسماء أولئك الذين نعرفهم: "علي! أحمد! خليل! هل يوجد أحد هنا؟ هل يسمعنا أحد؟" وفجأة، خرج صوت خافت من بين الأنقاض: "عمي.. أنا في قيد الحياة.. أخرجني من فضلك.. أنا خائفة".

لم أستطع الانتظار حتى وصول معدات الإنقاذ. بدأت الحفر بيديّ العاريتين، متجاهلاً الأنقاض والشظايا التي كانت تخدشني وتجرحني. وفي النهاية، تمكنت من انتشال طفل وهو مهدي عدس، الناجي الوحيد من ثلاث عائلات تمت إبادتها في شارع الشجاعية.

لقد تركت تلك الليلة ندبة عميقة في نفسي. لقد جعل نقص الأدوات من المستحيل علينا الوصول إلى جثث بعض الشهداء المحاصرين تحت الأنقاض.

مجزرة التباعين

في العاشر من آب/أغسطس 2024، كنا ننتظر صلاة الفجر في الرابعة صباحاً في حي الدرج في مدينة غزة عندما سمعنا صوتاً قوياً ومرعباً. كانت القوات الإسرائيلية قصفت مدرسة التباعين القريبة.

كنت في حالة صدمة. عرفت أن صديقي حسن وشقيقه علي ذهبا إلى المصلى في التباعين. اتصلت بحسن. لحُسن الحظ كان في قيد الحياة. قال إنّ القوات الإسرائيلية قصفت المصلى وإنه لم يتمكن من العثور على علي.

ذهبت مع فرق الإنقاذ إلى المنطقة لمعرفة ما يمكننا فعله. كان المشهد لا يوصف. كان الشهداء في كل مكان. رأيت بقايا الأطفال والنازحين متناثرين في كل مكان. لم يبق أي من جثثهم سليمة، كانت قطع اللحم البشري في كل مكان. قُتل ما لا يقل عن 80 شخصاً في ذلك اليوم.

تمكنّا من مساعدة بعض الأشخاص ونقلهم إلى المستشفى. كان أحد الصِّبْية، ويبلغ من العمر نحو 16 عاماً، في حالة سيئة، كان الجزء السفلي من جسده محطماً ومشوهاً، وبُترت يده اليسرى، وجروحه الأخرى عميقة. حملته إلى المستشفى بين ذراعي لأنّ سيارات الإسعاف كانت ممتلئة.

امتلأت المنطقة المحيطة بالمدرسة بالدخان وصوت البكاء والصراخ. وصلت سيارات الإسعاف وبدأنا جمع الرفات البشرية ووضعها في أكياس. لم نتمكن من العثور على علي. سأل حسن ماذا يجب أن يفعل الآن وكيف يخبر والدته بما حدث لعلي. أين ذهب شقيقه؟ أعطوه كيساً يزن 35 كيلوغراماً من الرفات البشري، يفترض أنه لعلي.

تم استهداف المدرسة نفسها مرة أخرى في الـ27 من تشرين الثاني/نوفمبر 2024 فجراً، بحيث قُتل 17 فلسطينياً. تمكنت فرقنا من انتشال 10 جثث، بما في ذلك أطفال، إلى جانب عدد من الأفراد المصابين.

في كل زاوية ذكرى مرعبة

أصبح المتطوعون الذين أعمل معهم بمنزلة عائلتي. نعيش معاً وندعم بعضنا البعض عاطفياً. إنّ مجرد وجود أشخاص مثلهم يمنحني شعوراً بالأمان.

ومع ذلك، فإن طبيعة عملنا كمستجيبين أوليين خطيرة للغاية، بحيث أصبحت فرق الإنقاذ والدفاع المدني أهدافاً مباشرة للهجمات الإسرائيلية المتكررة. مرات كثيرة، عندما كان القصف قريباً جداً منا، شعرت حقاً بأنها النهاية. ما زلت مندهشاً من كيفية نجاتي من بعض الهجمات. في كل مرة أغادر فيها منزلي، ينتابني الخوف. أخشى ألا أعود أبداً إلى عائلتي، الشيء الوحيد الذي بقي لي من حياتي قبل الحرب. أفكر في الموت كثيراً، كأنه قريب، لكنني آمل دائماً الأمان والسلام.

ومع ذلك، فإن هذا الخوف لا يمنعني من القيام بدوري. كيف يمكنني أن أنام في الليل وأنا أعلم بأن جيراننا ما زالوا محاصَرين تحت الأنقاض، وأن بعضهم قد لا يزال في قيد الحياة؟ كيف يمكنني أن أغمض عيني بينما هناك أرواح يمكنني إنقاذها؟ قد يكون هناك روح تستغيث، وقد أكون السبب في حصولهم على فرصة ثانية للحياة. لا أستطيع الجلوس في المنزل منتظراً اليوم الذي يبدأ فيه سريان وقف إطلاق النار للخروج والمساعدة وإحداث فارق.

كل هذا وضعني في حالة نفسية سيئة، وجعلني أشعر باليأس وفقدان معنى الحياة. تحت كل حجر في غزة تكمن قصة لم تُروَ، قصص ومشاهد تتعلق بالشهداء والجرحى وأجزاء الجسم التي نستعيدها من تحت الأنقاض. في كل زاوية، هناك ذكرى لحادثة وتفاصيل مروعة لا يمكن تجاهلها أو نسيانها. تحولت الشجاعية إلى مدينة أشباح، شبه مهجورة من سكانها، والمنطقة مدمرة، إلى حد كبير. ستظل هذه الذكريات تطاردني إلى الأبد.

مهما حاولت إيجاد الكلمات الملائمة لوصف ما نراه ونمر فيه، فلن تكون كافية أبداً. لكنني أريد أن أشارك فيما نواجهه، حتى لو كان ذلك من أجل الشعور فقط، ولو بشكل طفيف، بأن هناك من يستمع إلينا.

في هذه اللحظة لا يوجد شيء يساعدنا سوى الأمل والصلاة والإيمان.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.