دلالات "عملية العوجة" الاستشهادية
سوف تستقر صورة الجندي محمد صلاح إبراهيم، شهيد "عملية العوجة"، في المخيلة المصرية كبطل مقدام نجح في كسر العنجهية الإسرائيلية وحطم صورة "الجيش الذي لا يقهر".
استيقظ المصريون في الساعات الأولى من صباح السبت الماضي (3/6/2023) على وقع خبر مفاده أن جندياً مصرياً عبر السياج الحدودي الفاصل بين سيناء وفلسطين المحتلة عند معبر العوجة، وتمكن من قتل 3 جنود إسرائيليين وجرح ضابط رابع.
بدا هذا الخبر للوهلة الأولى غريباً وغامضاً وربما عصياً على التصديق، خاصة وأن وكالات أنباء غربية هي التي نشرته نقلاً عن مصادر إسرائيلية. ولأن هذا النوع من الأحداث يبدو نادر الحدوث، فقد كان من الطبيعي أن يتساءل الناس في مصر عن تفاصيل ما جرى، ثم راحوا يتطلعون بلهفة للحصول على المزيد من المعلومات التي من شأنها تبديد ما يحيط بهذا الحادث غير المألوف من غموض، خاصة من المصادر المصرية.
غير أنه تعين عليهم الانتظار لساعات طويلة قبل أن يصدر عن "متحدث مصري" تصريح رسمي جاء نصه كالتالي: "قام أحد عناصر الأمن المكلفة بتأمين خط الحدود الدولية بمطاردة عناصر تهريب المخدرات فجر اليوم، وأثناء المطاردة قام فرد الأمن باختراق حاجز التأمين وتبادل إطلاق النيران ما أدى إلى وفاة 3أفراد من عناصر التأمين الإسرائيلية وإصابة 2 آخرين، بالإضافة إلى وفاة فرد التأمين المصري أثناء تبادل إطلاق النيران، وجاري اتخاذ إجراءات البحث والتفتيش والتأمين للمنطقة، وكذلك اتخاذ الإجراءات القانونية حيال الواقعة".
لم ينس "المتحدث" أن يعبّر عن "تعازيه لأسر المتوفين وعن أمنياته بالشفاء العاجل للمصابين"، لكن تصريحه خلا من أي إشارة إلى اسم الجندي المصري الشهيد، ولم يتحدث عن شخصيته أو عن دوافعه أو عن خلفياته السياسية والاجتماعية.
بعد فترة وجيزة، صدر عن "الجيش" الإسرائيلي بيان رسمي جاء فيه: "في ساعات الصباح الباكر، وخلال نشاط لتأمين الحدود، قتل جندي ومجندة من جيش الدفاع في نقطة عسكرية نتيجة تعرضهما لإطلاق نار على الحدود المصرية، وحين وصلت قوات إضافية إلى المكان في ساعات الظهر لمباشرة أعمال التمشيط في المنطقة، رصدت المتسلل داخل الأراضي الإسرائيلية، واندلع تبادل لإطلاق النار تمكن خلاله الجنود والقادة الإسرائيليون من قتل المتسلل، بينما قتل خلال الاشتباك الثاني أحد جنود جيش الدفاع وأصيب ضابط صف بجروح طفيفة"، ثم أضاف البيان موضحاً: "نفذ هذا الهجوم جندي مصري، ويجري التحقيق في الحادث بتعاون كامل ووثيق مع الجيش المصري، كما يجري قائد المنطقة الجنوبية العسكرية من ناحيته تحقيقاً ميدانياً في الوقت نفسه برفقة قائد الفرقة 80 الإقليمية، وتواصل قوات جيش الدفاع أعمال التمشيط في المنطقة للتأكد من عدم وجود متسللين آخرين". ورغم ذلك كله، لم يتم الكشف عن منفذ "عملية العوجة"، ولم يعرف أن اسمه محمد صلاح إبراهيم وأن عمره 22 عاماً إلا بعد مرور 48 ساعة.
إذا أجرينا مقارنة سريعة بين الروايتين المصرية والإسرائيلية، فسيسهل علينا أن نكتشف حقيقة بالغة الدلالة. ففيما تشير الرواية المصرية إلى أن الحادث وقع خلال عملية مطاردة لمهربي مخدرات، تخلو الرواية الإسرائيلية من أي إشارة أو ربط بين هذا الحادث بالذات وعمليات التهريب، ما يبعث على الاعتقاد بأن السلطات الإسرائيلية لا تصدق الرواية المصرية، رغم حرص هذه السلطات في الوقت نفسه على عدم المبالغة في تضخيم عواقب ما جرى وتجنب استخدامه كذريعة للتصعيد. لذا، فقد لا يكون من الخطأ أن نستنتج، وبدرجة معقولة من الاطمئنان، أن "إسرائيل" بدت راغبة في التعاون مع مصر وساعية لاحتواء الموقف، ربما لأسباب يمكن الاجتهاد في رصدها على النحو الآتي:
1- سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف "الجيش" الإسرائيلي خلال اشتباك لم يشارك فيه سوى جندي مصري واحد لا يحمل سوى سلاحه الشخصي، ما يشي بوجود ثغرة خطيرة في منظومة الأمن بدت السلطات الإسرائيلية حريصة على طي صفحتها بسرعة.
2- وجود مصلحة مشتركة بين مصر و"إسرائيل" تدفعهما إلى العمل معاً على إيهام الرأي العام بعدم وجود أي دوافع دينية أو وطنية أو قومية مناوئة لـ "إسرائيل" وراء هذا الحادث، حرصاً من الجانبين على الإيحاء بأن "معاهدة السلام" المبرمة بينهما ما تزال حية وفاعلة.
3- تزايد الإدراك لدى "إسرائيل" بأنها تواجه تحديات ضخمة على كل الجبهات الأخرى، ما يدفعها إلى العمل على تجنب فتح جبهة جديدة مع مصر، وذلك بالتوازي مع تزايد الإدراك لدى مصر بأنها تواجه صعوبات داخلية تفرض عليها العمل على تجنب الدخول في معارك خارجية مع أي طرف.
وأياً كان الأمر، فقد انطوت الرواية الخاصة بمطاردة مهربي المخدرات على ثغرات عديدة جعلتها غير قابلة للتصديق من أي طرف. فالاشتباكات المسلحة وقعت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وليس في سيناء، وجميع القتلى كانوا من عناصر الأمن وليس بينهم مهرب واحد، فضلاً عن أن أياً من الطرفين لم يفصح عن ضبط أو مصادرة أي مواد مهربة أو عن إلقاء القبض على أي من المهربين، وتلك كلها عوامل تشير بوضوح إلى أنها رواية مختلقة، والأرجح أنها صممت لدوافع سياسية وأمنية تستهدف تشتيت الانتباه، وقطع الطريق على المحاولات الرامية إلى الاستغلال السياسي أو الأيديولوجي للحادث.
صحيح أن "إسرائيل" أظهرت استعداداً لتفهم هذه الدوافع ومسايرتها في العلن، لكنها بدت في الوقت نفسه شديدة الحرص على معرفة التفاصيل كافة، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يختلف الإدراك الشعبي في البلدين لدلالات ما وقع في معبر العوجة.
بوسع كل متابع لرد فعل الرأي العام المصري أن يلحظ بوضوح أن قطاعاً لا يستهان به من ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي بدا مقتنعاً كل الاقتناع بأن "عملية العوجة" تدخل في عداد البطولات الخارقة التي تستحق أن تنحني لها الهامات. ففور سماع الخبر، لم تتردد شريحة عريضة من المصريين في تشبيه منفذها بسليمان خاطر، ذلك الجندي المصري الذي لم يتردد عام 1985 في إطلاق الرصاص على إسرائيليين رفضوا الاستجابة لتحذيراته، وأصروا بصلف على اقتحام المنطقة العسكرية المحظورة التي كان مكلفاً بحراستها، والذي استقر في وجدان الشعب المصري كرمز للكبرياء الوطني في زمن كثر فيه التفريط وانحراف السياسات الرسمية عن بوصلتها الوطنية الطبيعية، رغم اختلاف السياقات.
صحيح أن سليمان خاطر قبض عليه، وحوكم أمام محكمة عسكرية قضت عليه بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وانتهى الأمر باغتياله وتصفيته، بيد أن صورته في المخيلة الشعبية، كبطل قومي وكضحية للمؤامرات الدنيئة، ظلت حية في النفوس.
أما الجندي محمد صلاح إبراهيم، شهيد "عملية العوجة"، فسوف تستقر صورته في المخيلة المصرية كبطل مقدام نجح في كسر العنجهية الإسرائيلية وحطم صورة "الجيش الذي لا يقهر". والأرجح أنه بادر من تلقاء نفسه، ومن دون أي تنسيق مسبق مع أي شخص آخر أو جهة، بالتخطيط لهذه العملية الاستشهادية رداً على جرائم يومية ترتكبها "إسرائيل" في حق الشعب الفلسطيني، وعلى مواصلة المستوطنين والمتطرفين اليهود اقتحام المسجد الأقصى وتدنيس ثاني القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
فالموقع الذي كلف صلاح بحراسته في سيناء يبعد 5 كيلومترات عن السياج الحدودي الفاصل بين سيناء والأرض الفلسطينية المحتلة، وهو لم يكتف بقطع هذه المسافة للوصول إلى السياج الحدودي واختراقه، لكنه توغل لمسافة 150 متراً في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة واشتبك مع جنديين إسرائيليين تمكن من تصفيتهما على الفور، ثم قام بعد ذلك بالتحصن لعدة ساعات في موقع غير بعيد كي يصبح في وضع يمكنه من الاشتباك مرة أخرى مع القوة التي كان يعلم يقيناً أنها ستأتي حتماً لتتعقبه بمجرد اكتشافها لجثتي الجنديين الآخرين.
المثير في الأمر أن اشتباكه الثاني جرى مع قوة إسرائيلية مدرعة تحميها مروحية قتالية، وأسفر عن قتل جندي إسرائيلي ثالث وإصابة ضابط احتياط، ما يعدّ بكل المقاييس العسكرية عملاً بطولياً خارقاً.
على صعيد آخر، أظن أن بوسع كل متابع لرد فعل الرأي العام الإسرائيلي على "عملية العوجة" أن يلحظ حجم الشعور العميق بالصدمة الذي أصاب قطاعات عريضة من الجمهور الإسرائيلي، وأن يلحظ كذلك أن هذا الشعور لم يقتصر على الأوساط المدنية وحدها وإنما امتد ليشمل الأجهزة الأمنية على اختلاف أنواعها ومستوياتها، خصوصاً وأنها جرت في وقت يبدو محور المقاومة في قمة جهوزيته واستعداده لوضع شعار "وحدة الساحات" موضع التطبيق الفعلي على الأرض، ما يعني أن هذه العملية فاجأت الكيان الصهيوني من حيث لا يحتسب.
الإشكالية هنا أن المجتمع الصهيوني، بمختلف طوائفه واتجاهاته، يمر في الوقت الراهن بحالة تطرف تكاد تصيبه بالعمى وتحجب عنه رؤية الحقائق على الأرض، إذ لم يعد قادراً على إدراك حقيقة أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، ومواصلة التنكر للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني هما السبب الرئيسي وراء حالة عدم الاستقرار التي تعصف بالمنطقة برمتها.
تحية لروح الشاب محمد صلاح إبراهيم الذي يؤكد استشهاده في تلك الملحمة العسكرية الفذة أن عداء الشعوب العربية للسياسات التوسعية والعنصرية التي يمارسها الكيان الصهيوني هو عداء تاريخي سيظل مترسخاً لدى الشعوب العربية كافة، وسينتقل من جيل إلى جيل إلى أن يزول الاحتلال تماماً ويحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، كما يؤكد أن الاتفاقيات غير المتكافئة التي تمكن الكيان الصهيوني من فرضها على العديد من الأنظمة العربية لن تغير شيئاً من هذه الحقيقة.