البوعزيزي في واشنطن.. ما هو الفرق؟
الإعلام الغربي تجاهل حادث الجندي الأميركي آرون بوشنيل، وعمدت خوارزميات التواصل الاجتماعي إلى حجب كلّ كتابة تتحدث عنه، ومنع وصولها إلى الجمهور المستهدف.
حين أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على إهانة شعر بها وفقر يعاني منه، جنّدت وسائل الإعلام الغربية نفسها، المقروءة والمسموعة والمرئية، لتدافع عن حقوق الإنسان في تونس والعالم العربيّ، ولتظهر مدى الضّيم الذي يرزح تحته المواطنون العرب كونهم لم يدرجوا بلدانهم تحت النظم والقيم الليبرالية الغربية، وبدأت حملات التحريض الممنهج والمدروس لإشعال فتيل ما أسموه "ربيعاً عربياً"، والذي كان كارثة حقيقية على شعوب البلدان لفتحها نار هذا الربيع المستعرة.
وتعطلّت كلّ المواضيع الأخرى واختفت عن منتجات وسائل الإعلام في كل الدول الغربية، لتصبح المناشدة بتحرير هذا الشعب المكبوت والتحاقه بركب "الحضارة الغربية" الموضوع الأساس الذي أثار الفتن والإرهاب والقصف واستهداف أمن وسلامة هذه البلدان، وفتح فوهة بركان ما زالت تلتهم أسس هذه المجتمعات وبناها ومقوّمات حضارتها واستمراريتها، وإن يكن من خلال سيناريوهات وأدوات تنفيذية مختلفة في البلدان العربية ولكن مع وحدة القرار والهدف.
ولا يمكن للمقارنة بين ارتدادات مصير البوعزيزي ومصير الجندي الأميركي آرون بوشنل (25 عاماً) الذي أضرم النار في جسده مرتدياً بزته العسكرية أمام السفارة الإسرائيلية بواشنطن أن تكون أكثر غرابة ونفوراً. فكِلا الحادثين المتشابهين إلى حدّ التطابق كانا تعبيراً عن احتجاج فردي عميق لا يُطاق، ولكن احتجاج آرون بوشنل كان على المحرقة التي يرتكبها الصهاينة في فلـسطين حيث إنه قضى وهو ينادي بالحرية لفلسطين، ومع أن النار تلتهم جسده الغضّ فإن الشرطي الأميركي ضاق ذرعاً بهتافاته لفلسطين التي تحدَّت الموت الزاحف على جسده فأطلق النار عليه.
والمفارقة الصّارخة هي أنّ الإعلام الغربي المتصهين بأغلبيته تجاهل هذا الحادث مع أن الجندي الأميركي يرتدي بزّته العسكرية كاملة وكأن شيئاً لم يكن، وليس هذا فقط، وإنما عمدت خوارزميات التواصل الاجتماعي إلى حجب كلّ كتابة تتحدث عن هذا الحادث، ومنع وصولها إلى الجمهور المستهدف ودفن الإعلام الغربي، كما يفعل عادة طغاة الأنظمة الدكتاتورية المستبدة، وهو المرتهن للمال الصهيوني بإشارة واحدة، قضية آرون بوشنل مع دفنه لاغياً بصلف وظلم شديدين تفاعلات هذه التضحية النبيلة من أجل قضية إنسانية أصبحت المعيار الحقيقي اليوم لإنسانية البشر وحقوق الإنسان ولحريته بالعيش كريماً فوق أرضه.
إنّ ما نشاهده ونقرأه من مواقف داعمة للشعب الفلسطينيّ ومندّدة بالإبادة والتطهير العرقي ضدّه، ما هي إلا النذر اليسير مما يجري فعلياً في العالم، ولا تمثّل إلا نسبة ضئيلة من الأصوات الحرّة التي ترتفع في كلّ أصقاع الأرض دعماً لشعب يتعرّض لأبشع محرقة وتطهير عرقيّ، بينما يتمّ إلقاء التهم على داعميه بأنهم أعداء السامية، حيث يعمل القائمون على التقنيات والخوارزميات لحجب كلّ ما يستطيعون حجبه من الظهور والوصول إلى الضمائر الحرّة على هذا الكوكب.
فها هم الفائزون في مهرجان برلين السينمائي يصفون ما يتعرّض له الفلسطينيون بالإبادة الجماعية والفصل العنصري، وظهرت على حساب المهرجان على الإنستغرام عبارة "فلسطين حرّة من البحر إلى النهر"، كما صعد المخرج الأميركي بن راسل إلى المنصة متّشحاً بالكوفية الفلسطينية، وفاز الفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال إبراهام بجائزة أفضل فيلم وثائقي يصوّر طرد المستوطنين الإسرائيليين للفلسطينيين من أراضيهم.
كما أعلن ناشطون وناشطات أميركيات يهوديات ومسيحيات عن دعمهم لفلسطين وإدانتهم للإبادة البشعة والمحرقة والتطهير العرقي الذي يمارسه الصهاينة بحقّ الفلسطينيين، كما شهد مهرجان صاندانس السينمائي في ولاية يوتاه الأميركية تحدّياً للصمت ووقفة مع فلسطين حاملين الأعلام الفلسطينية.
وأجمل التفاف على خوارزميات المنع لتأييد الشعب الفلسطيني، حيث يتمّ حجب أي نصّ يحتوي على اسم فلسطين أو غزة، هو تبنّي ألوان فاكهة البطيخ ذات اللبّ الأحمر والقشرة الخضراء والبيضاء والبذور الـسوداء والتي تمثّل ألوان العلم الفلسطيني رمزاً للتضامن مع القضية الفلسطينية، وأصبح رسم شريحة البطيخ يجمع مؤيّدي فلسطين الذين لا يتحدّثون اللغة نفسها أو ينتمون إلى الثقافة عينها. وأصبح بعض المشاهير مثل فيوليت ابنة النجم الأميركي بن أفليك يلبسون "كنزة بطيخ الحرية"، رغم تعرّض الأميركيين المتضامنين مع الفلسطينيين إلى قرارات قاسية طالت مواقعهم الوظيفية ومؤسساتهم.
الأمر الذي لا يقبله الأميركيون هو أن التجارب التي خاضتها البلدان معهم قد نضجت وأن الوعي تغيّر، وأنّ ما يرتكبه الصهاينة من إبادة بحقّ المدنيين الفلسطينيين قد أظهر للعالم برمّته حقيقة وأحقيّة وعدالة القضية الفلسطينية والظلم الإسرائيلي والغربي والقهر لحقوق هذا الشعب بالحرية والاستقلال بقوة السلاح الغاشم. وأنّ ردّة الفعل الدولية هذه، مهما حاولوا كبتها في الإعلام، تُظهر من دون أدنى شكّ أنّ التضامن الدولي مع الفلسطينيين يشمل اليهود والمسيحيين والمسلمين، وأنّ كلّ محاولاتهم البائسة لتقسيم شعوب العالم إلى فرق وأديان ومذاهب قد باءت بالفشل.
فها هو التأييد لفلسطين ينطلق من دول أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا، ومن الحركة اليهودية في الولايات المتحدة "ليس باسمنا"؛ الأمر الذي يضرب عرض الحائط كلّ ما يروّجون له من فرقة وفتنة بين الأديان والشعوب، والأمر الذي يثبت للمرة الألف أن الإنسانية المشتركة بين البشر هي أقوى وأرقى الروابط التي تجمعهم على سطح هذا الكوكب، وأنّ التضامن الدولي عبر البلدان والأديان والثقافات هو الطريق الأقصر لتحقيق الهدف.
لقد ضاقت حكومات الولايات المتحدة ذرعاً بالتضامن الدولي مع فيتنام، والذي أدّى دوراً هاماً في إنهاء الحرب الأميركية على فيتنام، كما تمكّنت جنوب أفريقيا بنضالها وبالدعم الدولي من إنهاء نظام فصل عنصري بغيض، فعمدت الدوائر الصهيونية المتحكّمة بالولايات المتحدة والغرب منذ العدوان على العراق إلى إحكام القبضة على الإعلام واخترعوا مصطلح Embedded Journalism الإعلام المرافق للقوات، ومنعوا النشر إلا بأمر القائد العسكريّ، ولكنّ حربهم على فيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا كلّها تشكّل رصيداً في ذاكرة الشعوب عن ماهية منطلقاتهم المعادية للحريّة، وأحكامهم الاستبدادية، وعن افتقار إعلامهم المتصهين وخطبهم السياسية البائسة إلى أدنى درجات المصداقية.
واليوم يمثّل دعم الغرب حرب الإبادة والتطهير العرقي المشينة والمخزية ضدّ أطفال ونساء فلسطين المسمار الأخير في نعش ادعاءاتهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان. بل إنّ ممارساتهم البشعة لمنع وقف المجزرة الصهيونية حتى في مجلس الأمن من خلال استخدام الفيتو هي نقيض للهدف الأساسي منه قد جعلهم في موقع القوّة الطاغية العدوانية الجاثمة على صدر البشرية، وقد تكون الدماء الحرة النبيلة البريئة للآلاف من الأطفال والنساء التي يسفكونها في فلسطين آخر جريمة سيسمح لهم بارتكابها، لأنّ القوى المؤمنة فعلاً بحقوق الإنسان وحريته بدأت بالتشكّل في عقر دارهم، ولن يمرّ وقت طويل قبل أن تصبح هي الأقوى والأكثر فاعلية في توجيه دفة المستقبل.