نيران "الناتو" تحت رماد الأزمة.. جذور الصراع في كوسوفو
التصعيد الحاصل بين كوسوفو وصربيا لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن التدخلات الغربية ودور حلف "الناتو"، خصوصاً أنّ الصراع، والبلقان المضطرب أصلاً، يرتبط بشكلٍ وثيق بمسببات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها.
أهملت أوروبا والولايات المتحدة التحذيرات الجادة التي صرّحت بها رئيسة الوزراء الصربية، آنا برنابيتش، أواخر العام الماضي، من أنّ الوضع في إقليم كوسوفو "على حافة نزاع مسلّح"، والتي أكّدت فيها أنّه "يجب أن نبذل قصارى جهدنا، جميعاً، لمحاولة الحفاظ على السلام".
تبقى منطقة البلقان مرشّحةً لتفجّر الصراعات، إذ إنّها تحظى بتاريخٍ حافل من النزاع والتصادم بين مكوناتها العرقية والدينية، مع تدخّلٍ حاسم للحسابات الجيوسياسية والأدوار العالمية للقوى الكبرى.
يرجع تاريخ الصراع في البلقان عموماً إلى قرونٍ مضت، تتداخل فيه عوامل العرق والدين والجغرافيا والاقتصاد، وتلقي سلسلة الصراعات في شبه الجزيرة بظلالها على الصراع الذي تجدّدت المخاوف من اشتعاله مراراً في كوسوفو خصوصاً.
انفجار صراعٍ مشحونٍ تاريخياً
طالب الألبان باستقلال إقليم كوسوفو عن صربيا عام 1981، واعتباره إحدى الجمهوريات الفيدرالية داخل اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية، بدلاً من كونه مجرد مقاطعة داخل صربيا، وذلك بعد وفاة الزعيم اليوغوسلافي الاشتراكي، جوزيف تيتو.
عزّزت مطالب الألبان دعاوى حماية القومية الصربية، ما ساعد في وصول، سلوبودان ميلوسوفيتش، إلى رأس السلطة في صربيا عام 1987، والذي تعهّد بوقف "النزعة الانفصالية"، لكنّه بدأ في حملةِ شنّها ضد الألبان، أدت بنتائجها الأوليّة إلى تصعيد المطالب في كوسوفو إلى الاستقلال الكامل وتأسيس دولةٍ منفصلة تماماً.
وقد دخلت يوغوسلافيا في مسارٍ متسارع من الانقسام السياسي الذي أدّى لاحقاً إلى تفكّك جمهورياتها، وذلك بين عامي 1991 و 1992، ما أدّى بالصرب إلى زيادة حدّة التصعيد تجاه الألبان.
يُذكر أنّه قُبيل تلك الفترة، كان يعيش في كوسوفو مليون و700 ألف ألباني و200 ألف صربي، وقد تنامى بشكلٍ كبير استغلال نزعة قوميةٍ صربية للوقوف في وجه مطالب الانفصال، وتعزيز سلطة ميلوسوفيتش.
حربٌ لم تُنهِها طائرات "الناتو"
تمّ دعم الحراك الصربي في كوسوفو بين عامي 1987 و1989، وإلغاء وضعية الحكم الذاتي التي كان يتمتّع بها الإقليم، وتصاعدت مطالب الأقلية الألبانية في يوغوسلافيا.
في 1997، أي بعد عامين فقط من انتهاء حرب البوسنة والهرسك، والتي لا تنفصل بتداعياتها عن ما حدث في كوسوفو، أثارت السياسات التي اتّبعتها الحكومة الصربية سخطاً كبيراً من ألبان كوسوفو، فتمّ إطلاق تمرّدٍ عسكري قاده "جيش تحرير كوسوفو".
وقد نفّذ "جيش تحرير كوسوفو" سلسلةً من العمليات العسكرية، قوبلت برد فعلٍ عسكري صربي، تزايد اعتباراً من شتاء 1998، وتسبب في نزوح نحو 800 ألف شخص من ألبان كوسوفو.
وأدان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الاستخدام "المفرط" للقوة، وأعلن فرض حظر على الأسلحة، ورغم ذلك، استمرت الحرب في المنطقة.
واستغل حلف شمال الأطلسي "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة في آذار/مارس 1999، الأوضاع الأمنية والسياسية المتوترة ليتدخّل عسكرياً بضرب صربيا وإلحاق هزيمة بها.
كما أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1244 في حزيران/يونيو 1999، بعد انتهاء حرب كوسوفو، والذي تمّ بموجبه وضع الإقليم تحت إشراف دولي مدني وأمني، ومُنِح حق التمتع بـ"قدرٍ كبير من الاستقلال الذاتي"، لكن "داخل جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية"، وهي صربيا والجبل الأسود، والتي أكّد القرار نفسه سيادتها وسلامتها الإقليمية.
قُدِّرت الخسائر في هذه الحرب بنحو 13 ألف قتيل، كان 11 ألفاً منهم من الألبان، والباقي من الصرب، كما هجّرت الحرب قرابة مليون لاجئ إلى ألبانيا ومقدونيا، وكشفت منظمات أممية مختصة في حقوق الإنسان أنّ قوات "الناتو" قتلت بضربات عن طريق الخطأ 500 مدني من الصرب والألبان.
وغادر معظم الصرب من كوسوفو، ليتبقّى جزء منهم في شمالي الإقليم، ونُشرت قوات حفظ السلام الأممية في المنطقة، وخضعت لإدارة الأمم المتحدة.
يُشار إلى أنّه رغم كون المسلمين أغلبية في كوسوفو، بنسبة تزيد عن 90%، فإنّ صربيا ترى في المنطقة تاريخاً مهماً للصرب، وذلك نظراً إلى احتوائها مقر الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، ولكونها شهدت واقعتين تاريخيتين وثقت هزيمة الأتراك ضد الصرب عامي 1389 و1912.
التوترات لم تنته بانتهاء الحرب، بل استمرت أعمال العنف المتفرقة بين الطرفين لتنفجر في عدة مناسبات لاحقاً.
في شباط/فبراير 2008، أعلنت كوسوفو استقلالها، بشكلٍ أحادي الجانب، عن صربيا، واعترفت بها 110 دول، منها الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، وتصرّ صربيا على عدم الاعتراف بكوسوفو، مدعومةً من روسيا والصين في مجلس الأمن، ولكن أيضاً من خمس دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، إسبانيا، قبرص، اليونان، رومانيا وسلوفاكيا.
وعلى وقع اعتراض صربيا، التي لا تزال ترفض الاعتراف بكوسوفو المستقلة، استحال التوافق بين الجانبين، إذ قرّرت بلغراد، كرد فعلٍ سنة 2008، حظر دخول المنتجات الكوسوفية إلى الأسواق الصربية، كما لجأت إلى محكمة العدل الدولية للطعن بقرار كوسوفو، سنة 2010، لكنّ المحكمة رأت أن الإعلان عن الاستقلال لا ينتهك القانون الدولي.
صراعٌ مطلوبٌ أطلسياً.. قرب روسيا
تُقرأ الوقائع في الإقليم على صعيدين، العلاقة بين ألبان وصرب كوسوفو أولاً، ثمّ بين كوسوفو وصربيا ثانياً، وهي العلاقات التي ما تزال رهينة العداء المتبادل الذي يتجسّد متجدّداً بأشكالٍ مختلفة.
كما يُقرأ تجدد الصراع كسياسةٍ هادفة إلى إدامة حالة عدم الاستقرار في المنطقة والعالم، خصوصاً مع النزعات القوميّة الحيّة والمشحونة التي تتعزّز مع كل توترٍ محلي أو إقليمي مرتبط بالأزمة.
ويبدو واضحاً أنّ أوروبا كانت موهومةً جداً عندما اعتقدت أنّ تكييف العملية السياسية التي تلت الحرب مع "معايير الليبرالية وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان"، بما يحمله هذا الخطاب الأوروبي من ازدواجية معايير معهودة، يمثّل حلّاً كافياً لضمان التعايش السياسي السلمي بين الألبان والصرب.
كما أنّ حضور الحرب الدائرة في أوكرانيا وتفاعلاتها، يجعل من التصعيد ممكن التوسع والامتداد إلى أجزاء أخرى غربي البلقان المضطرب أصلاً، بما في ذلك البوسنة والهرسك المجاورة، خصوصاً وأنّ احتمالات أنّ تغدو تلك المنطقة نقطة توترٍ جديد بين روسيا والقوى الغربية، آخذة في الارتفاع.
المؤكّد أنّ القوى الأطلسية تجاهلت، بشكلٍ يثير التساؤلات المنطقية حول طبيعة الدور الذي تحافظ عليه، المطالب الصربية المتكرّرة بمتابعة سلوك بريشتينا المُقلق لبلغراد، والمُعزِّر للتصعيد والتوترات.
كما يجب الالتفات إلى أنّ زعماء كوسوفو، وقّعوا طلباً رسمياً، منتصف كانون الأول/ديسمبر الماضي، من أجل انضمام الإقليم إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي رفضته صربيا وأكّدت مطالبتها التكتل الأوروبي رفض الطلب، ليوضح مصدرٌ أوروبي أنّ عملية انضمام كوسوفو إلى الاتحاد ستكون "طويلة ومعقدة"، لافتاً إلى أنّ "5 دول أعضاء في الاتحاد لا تعترف باستقلالها".
وتصاعدت التوترات بين صربيا وكوسوفو العام الفائت، عندما أعلنت حكومة كوسوفو، بقيادة رئيس وزرائها، ألبين كورتي، أنّ وثائق الهوية الصربية ولوحات ترخيص المركبات لم تعد صالحة في الإقليم، وأنّه يجب استخراج وثائق من خلال حكومته.
وأعلن الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أنّ سلطات كوسوفو أرسلت قواتٍ خاصة تابعة لوزارة الداخلية إلى منطقة يقطنها الصرب شمالي الإقليم.
كما تجدّد اندلاع التوترات بين صربيا وكوسوفو نهاية الأسبوع الماضي، بعدما دهمت شرطة كوسوفو المناطق التي يتركز فيها الصرب شمالي الإقليم، واستولت على مباني البلدية المحلية.
وتسارعت الأحداث بعد مقاطعة الصرب للانتخابات المحلية التي جرت الشهر الماضي، شمالي كوسوفو، حيث يمثل الصرب الأغلبية هناك، لتساعد شرطة مكافحة الشغب في كوسوفو انتقال رؤساء البلديات المنتخبين حديثاً من أصلٍ ألباني إلى مكاتبهم، الجمعة الماضية.
وأطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق محاولات الصرب منع الألبان من الاستيلاء على المبنى، لتتصاعد التوترات بشكلٍ استدعي الحديث عن ذكريات حرب كوسوفو الأليمة.
وتشهد كوسوفو مواجهات متكررة، وتستمر التوترات هناك بين حكومة كوسوفو والصرب الذين يعيشون بشكل رئيسي في شمالي البلاد ويقيمون علاقات وثيقة مع بلغراد.
كما أعلن حلف "الناتو"، اليوم الثلاثاء، أنّه سينشر قواتٍ إضافية في كوسوفو عقب مواجهاتٍ في شمالي البلاد أُصيب فيها 30 جندياً من قوّة حفظ السلام التي يقودها التحالف.
وحضّت روسيا الغرب على وقف "دعايته الكاذبة" بشأن المواجهات في كوسوفو، والتي أسفرت عن إصابة نحو 30 جندياً في قوة حفظ السلام، ودعت إلى "إجراءات حاسمة لخفض التصعيد".
وحذّرت موسكو بشدّة من "انفجارٍ كبير ينضج وسط أوروبا"، كما أكّدت وزارة الخارجية الروسية في بيانٍ لها أنّه "يجب اتخاذ إجراءات حاسمة لخفض التصعيد، وليس أنصاف إجراءات".
وفي 26 أيار/مايو، أوعز الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، للجيش باتخاذ أقصى درجات الاستعداد القتالي، بسبب الوضع في كوسوفو وميتوهيا، الناجم عن خطوات سلطات بريشتينا أحادية الجانب.
وبعد أن أثارت التوترات عالية الحدّة بين صربيا وكوسوفو الانتباه العالمي والمخاوف المُحقّة من انفجار صراعٍ لم يكد ينسى العالم ويلاته بعد، يتبادر إلى أذهان المراقبين والمُطّلعين تساؤلٌ بشأن ماهية الانعكاسات التي يُلقي بها الصراع الروسي- الأطلسي على غربي البلقان؟ وما الذي يستهدفه "الناتو" من دورٍ في تفجير بؤرة صراعٍ قرب روسيا أثناء لحظة توترٍ عالمي؟