نحو حرب تحرير شعبية.. كيف تطورت العمليات الفدائية الفلسطينية؟
الخسائر الإسرائيلية في الربع الأول للعام الجاري، يفوق الخسائر الإسرائيلية في كلّ الأشهر الأولى من السنوات الماضية عقب "هبة القدس" عام 2015، الذي شهد تفاقم عمليات الطعن والدهس خلال ما عرف بـ"انتفاضة السكاكين".
شهدت العمليات الفدائية الفلسطينية تصاعداً هاماً في وتيرتها ونوعيتها، منذ العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، واتخذت إلى حدّ كبير طابعاً شعبياً عفوياً، تميّز بالروحية الاستشهادية عند المقاومين الشباب. ومع اندلاع "انتفاضة القدس" عام 2015، ازداد الحديث عن أنّ الساحة الفلسطينية تشهد مرحلة جديدة أقرب إلى انتفاضة ثالثة حقيقية، تستمر بلا هوادة منذ 8 سنوات.
وقد تنوعت العمليات الفدائية الفلسطينية، واختلفت معها تفاصيل كل نوع من العمليات، وما يرتبط به من استعداد وتجهيز، وما يعنيه على مستوى قدرة الإسرائيلي على توقعه ومواجهته والحد منه.
عمليات الدهس
تشكل عمليات الدهس التي نفذها فلسطينيون ضد المستوطنين وضد جنود الاحتلال قلقاً كبيراً لسلطات الاحتلال، فخلال 14 عملية حصلت خلال عام 2022، بحسب الإحصاءات الفلسطينية، تضاف إليها عمليتان نوعيتان في 2023، في تل أبيب والقدس المحتلة، خلفتا قتيلين و11 مصاباً إسرائيلياً.
وتعتبر عمليات الدهس من أصعب العمليات على الاحتلال، إذ تشكل خطورة كبيرة على أفراده مستوطنين وجنوداً، كما أنّ منعها شبه مستحيل، ولا تحتاج إلى أيّ استعداد لوجستي خاص أو عتاد أو أسلحة، ما يعتبر رعباً حقيقياً لأجهزة أمن الاحتلال.
عمليات الطعن والاشتباك بالسلاح الأبيض
وبالإضافة إلى عمليات الدهس، شكلت عمليات الطعن، التي انتشرت بشكل واسع عقب انتفاضة القدس عام 2015، سبباً آخر لإضعاف فعالية أجهزة أمن الاحتلال ضد العمليات الفدائية الفلسطينية، مع 36 عملية طعن ضد المحتل تم توثيقها خلال العام 2022، فضلاً عن أنّ عملية طعن قاتلة تمّ توثيقها في شباط/فبراير الفائت، أدّت إلى مقتل عنصر من شرطة الاحتلال.
وتعدّ عملية الالتحام المباشر مع الاحتلال بواسطة السكين من العمليات القاسية والمؤثرة، إذ قد لا يتطلب الإعداد لتنفيذها أكثر من سكين مطبخ، يخفيه الرجل أو المرأة الفلسطينية في حقيبة أو كم، وأن يقترب إلى درجة كافية من أحد المستوطنين أو الجنود.
وقد اعتمد بعض الفدائيين الفلسطينيين أسلوباً جمع بين النوعين، كما حصل في هجوم بئر السبع في 22 آذار/مارس 2022، عندما دهس منفذ العملية مستوطناً إسرائيلياً، ثم طعن ثلاثة آخرين، ما أدى إلى مقتل 4 إسرائيليين بينهم شرطة.
إطلاق النار
كما كان للاشتباكات المسلحة أهميتها الخاصة هذين العامين، إذ تزايدت بشكل خاص وتيرة إطلاق النار على حواجز الاحتلال ومواقعه وتجمعات عناصره، من قبل عناصر فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة والداخل. وأدت عمليات إطلاق النار والاشتباك المسلح مع الاحتلال ومستوطنيه، والتي وصل عددها إلى نحو 650 حالة إطلاق نار موثّقة ضدّ قوات الاحتلال، إلى عشرات القتلى والجرحى الإسرائيليين.
وكان لعملية النبي يعقوب الفدائية، في القدس المحتلة، والتي نفذها الشهيد خيري علقم رداً على ارتكاب العدو مجزرة جنين قبلها بيوم، أثر هائل في أوساط الاحتلال، بعد أن قُتل فيها 7 إسرائيليين وأصيب 3 بجروح، وأدّت إلى بلبلة في أوساط المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وتفاقم الضغط على حكومة نتنياهو الجديدة.
وتعدّ عمليات إطلاق النار الأخطر والأقسى على الاحتلال، لقدرتها على إيقاع أكبر عدد من الإصابات القاتلة، ويعتمد فيها المنفذون بشكل أساسي على انتشار السلاح الحربي في الداخل المحتل، وعلى بعض الأسلحة المصنعة محلياً بشكل جزئي، كرشاش الكارلو، وعلى المسدسات الحربية.
وفيما يراهن الاحتلال على تتبع مصادر التسليح وقطع خطوط الإمداد والتهريب، ويريد إقرار قوانين تقيد وصول الفلسطينيين للأسلحة، نجحت بعض العمليات التي اعتمدت على هجوم مزدوج في إيقاع خسائر كبيرة في صفوف مستوطني الاحتلال وجنوده، كما تمكن بعض المنفذين من الانسحاب بسلام من مكان تنفيذ العملية، ونجحوا في توجيه ضربات إضافية قبل الاشتباك مع الجنود والمستوطنين.
اقرأ أيضاً: إعلام إسرائيلي: هذا ما كنا نخشاه.. عملية القدس فظيعة ومؤلمة
العبوات الناسفة
كما شكّلت العبوات الناسفة نقلة نوعية العام الفائت بالتحديد، بعدما انفجرت عبوتان ناسفتان في محطتي حافلات في القدس المحتلة، قُتل فيها إسرائيلي وأصيب 19 آخرون بجروح بينها 4 خطيرة.
وكان للانفجار الذي وقع عند مفترق مجيدو شمالي فلسطين المحتلة، الشهر الفائت، تبعات خطيرة على أمن الاحتلال، لا سيما بعد كشف أنّ الانفجار الذي وقع نفّذه فدائي تسلل من الحدود الشمالية، وهو ما شكّل سابقة أنذرت بفتح جبهة جديدة للاحتلال بالإضافة إلى مناطق الداخل المحتل والضفة الغربية والقدس المحتلة وغزة.
وتشكل العبوات الناسفة سبباً حقيقياً لقلق الاحتلال، إذ يخشى قادته ومستوطنوه من عودة عمليات التفجير التي فتكت بالكيان خلال الانتفاضة الثانية. وبالرغم من أنّ الاحتلال يتتبع بشكل دقيق كافة المواد التي يمكن أن يستفاد منها لبناء قنبلة، وييتبع مصادرها ومبيعاتها، ولكنّ قدرات المقاومة على خرق أمنيات العدو باتت تزداد يوماً بعد يوم.
وسبق أن أعلن الاحتلال إسقاط طائرات مسيرة تحمل أسلحة ومواد متفجرة، قادمة من جهة الأردن وسوريا، كما ألقت القبض على شحنات من الأسلحة كان يتم تهريبها إلى فلسطين المحتلة عبر الحدود مع لبنان، ما دفع قادته إلى التساءل عن حجم ما لم يتمّ كشفه من عمليات إيصال الأسلحة، لا سيما مع إعلان صريح من قبل قادة محور المقاومة عن التوجه إلى مزيد من دعم الضفة الغربية بالسلاح.
21 قتيلاً إسرائيلياً في أول 4 أشهر من 2023
شهد الربع الأول من عام 2023 تفاقماً هائلاً في عدد الخسائر البشرية الإسرائيلية نتيجة العمليات الفدائية الفلسطينية، إذ وصل عدد قتلى الاحتلال إلى 21 قتيلاً وعشرات الجرحى، بعد أن قُتلت 3 مستوطنات في عملية الأغوار في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، وقتل آخر جراء جراح سابقة تعرض لها في عملية دهس في تل أبيب.
ويفوق رقم الخسائر الإسرائيلية في الربع الأول للعام الجاري، الخسائر الإسرائيلية في كلّ الأشهر الأولى من السنوات الماضية عقب "هبة القدس" عام 2015، حتى نفس العام 2015، الذي شهد تفاقم عمليات الطعن والدهس خلال ما عرف بـ"انتفاضة السكاكين"، وأدى إلى سقوط 29 قتيلاً إسرائيلياً خلال عام.
ويستمرّ بالتالي الخط التصاعدي للقتلى الإسرائيليين من خلال العمليات الفدائية، إذ قتل 3 إسرائيليين عام 2020، و 21 إسرائيلياً عام 2021، و30 إسرائيلياً عام 2022، فيما يبدو أن العدد هذا العام مرشّحٌ لمزيد من الارتفاع، في حال استمرت الوتيرة على ما هي عليه من التوتر والتصعيد من قبل الاحتلال ضد الفلسطينيين.
ومن أبرز العمليات التي شهدها العام الفائت كانت عملية "بئر السبع"، حيث قتل 4 مستوطنين إسرائيليين وأصيب آخرون، في عملية طعن ودهس، نفذها الفدائي محمد أبو القيعان.
كما شكلت عملية "الخضيرة"، بالتزامن مع "قمة النقب" التي عقدتها تل أبيب بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية و4 دول عربية مطبعة مع الاحتلال، هي مصر والإمارات والمغرب والبحرين، نقلة نوعية في طبيعة العمليات واتصالها بتوجهات القيادة السياسية للمقاومة الفلسطينية، حيث أدّت إلى مقتل جنديين إسرائيليين، واستشهاد المنفذين أيمن وإبراهيم إغبارية.
دلالات الأرقام ونوعية العمليات
لم يترك قادة الاحتلال مجالاً للتعبير عن مخاوفهم من استمرار العمليات الفدائية وتفاقم آثارها المادية والنفسية على كيان الاحتلال ومستوطنيه إلا وعبّروا عنه، إذ أكّد كبار ضباطه وسياسييه أنّ العمليات الأخيرة كبدت الكيان "خسائر فادحة"، واعتبروا أنّ الامر بات "أصعب من انتفاضة"، وأنّ الإسرائيليين يعيشون "مأساةً مستمرة".
ومع ازدياد الحديث عن إجراءات جديدة تتضمن نشر الجيش في المناطق المدنية، وتسليح المستوطنين، والتشدد ضد التسلح غير المرخص مقابل فتح باب التراخيص للإسرائيليين وزيادة عدد الشرطة الذين يجوبون الشوارع بلباس مدني، ورفع مستوى العمل الاستخباري ضد المشتبه بهم، يخشى العديد من قادة الاحتلال أنّ الكيان يتجه نحو أن يكون كياناً بوليسياً موصوفاً، يعيش فيه الإسرائيليون في قلق دائم.
ولا تقتصر أضرار هذه الإجراءات على الأثر النفسي عند المستوطنين، بل تتعداه إلى أن تكون سبباً لإبعاد الاحتلال أكثر فأكثر عن المعايير المستهدفة من السعادة والأمن والرفاهية والجاذبية السياحية، التي يحاول تثبيتها منذ عقود.
كما تساهم الإجراءات الإرهابية للشرطة والمستوطنين، انفعالاً على هذه العمليات، في تظهير الصورة الإرهابية للإسرائيليين في الدول الغربية والأوساط العالمية، والتي بات يعاني جراءها قادة الاحتلال من حظر للسفر إلى العديد من البلدان، بينها بلدان أوروبية.
وتأتي هذه العمليات في وقت تتفاقم فيه الانقسامات الداخلية الإسرائيلية، حيث أدّت غلى أن يتبادل أطراف السياسة الإسرائيلية الاتهامات بشان المسؤولية عن هذه العمليات والفشل الأمني الإسرائيلي في منعها أو الحدّ منها.
وفي وقت يؤكد نتنياهو وحكومته أنه سيستمرّ بالضغط على الفلسطينيين، وممارسة الحصار والإرهاب ضد كافة أشكال الحياة الطبيعية لأصحاب الأرض في فلسطين، فإنّ الخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني هو الانتفاض ضد الاحتلال ومراكمة الفعل المقاوم والعمليات الموجعة، وصولاً إلى يوم قد تفتح فيه الحرب الشعبية لتحرير فلسطين أبوابها.