مسافر يطا: نكبة 1948 مستمرة
يرفض أهالي "مسافر يطا" فكرة ترك مناطقهم لغايات عسكرية, بل إن إخلاءها، في نظرهم، يأتي في صلب المشروع الصهيوني القائم على مصادرة الأرض وتهجير السكان.
لا يوجد طفل فلسطيني في تجمع مسافر يطا لم يشهد هدم منزله أو منزل أحد السكان، الذين يبلغ عددهم ثلاثة آلاف، والذين يسكنون منذ ما قبل النكبة في هذا التجمع الواقع جنوبي شرقي الضفة الغربية، وفي نهاية سلسلة جبال الخليل وبداية منطقة بئر السبع، وهو على تماس مباشر مع مناطق الخط الأخضر أو الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948.
كل من وُلد في مسافر يطا بعد عام 2000 يعيش وسط نزاع قضائي ويومي على أرض المنطقة التي تمتد على مسافة 14 كيلومتراً، وتبدو كأنها نُسيت في بدايات القرن الماضي. هنا لا كهرباء ولا هاتف ولا شبكة صرف صحي، ولا حتى طرق معبدة. يعيش سكان مسافر يطا حياة بدائية في كهوف أو مساكن من الصفيح وخيام منصوبة في الأراضي التي يملك بعضهم صكوك ملكيتها منذ العهد العثماني، ويكبر الأطفال وهم يواجهون المحتل وأطماعه يومياً، سواء في طريقهم من المدرسة وإليها، أو خلال مساعدة أهاليهم على رعي المواشي وزراعة المحاصيل، التي تقل عاماً بعد عام في المنطقة.
نكبة لا تنتهي
تتكوّن المنطقة، التي يسمّيها سكانها المسافر، من 24 خِربة وقرية يسكنها أهالي يطا وبدو هُجروا من مناطق بئر السبع والنقب منذ النكبة عام 1948. بينها 8 خرب يقطنها 1200 فلسطيني مهددون بالتهجير القسري، وتحديداً بعد رفض المحكمة الإسرائيلية العليا في 4-5-2022 التماسهم ضد قرار الاحتلال اعتبار أراضيهم مناطق إطلاق نار.
بعد أسبوع من صدور القرار الذي أنهى رحلة تقاضٍ طويلة امتدت 22 عاماً، هدمت الإدارة المدنية للاحتلال الإسرائيلي تسعة منازل و10 حظائر للأغنام في منطقة مسافر يطا، الأمر الذي عُدّ أكبر عملية هدم منذ عام 2016. تزامن الهدم مع ذكرى النكبة عام 1948، فاستعاد بعض أهل مسافر يطا مشاهد النكبة الأولى حين عادوا ليجدوا أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، ووجدوا أنفسهم يعودون إلى العيش في الخيام مرة أخرى.
لم تكن هذه نكبة أهالي المسافر الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. ففي عام 1999، أخلى "جيش" الاحتلال الإسرائيلي سكان 14 تجمعاً سكانياً فلسطينياً في ما يزعم الاحتلال أنه "منطقة إطلاق النار 918"، والسبب، بحسب ادعاءاته، أن سكانها أقاموا بها بصورة موسمية، وأنهم ليسوا مقيمين دائمين، على رغم امتلاك عدد من العائلات المهجرة وثائق ملكية يعود تاريخها إلى ما قبل عام 1967.
وفي عام 2012 تعرّضت قريتان من قرى المسافر للتهجير القسري، هما خربة صارورة وخروبة، اللتان لم يعد لهما أي وجود فعلي بعد هدم المنازل فيهما بالكامل.
حكاية هذا التجمع بدأت مع نكبة فلسطين، إذ احتُلّ جزء كبير من أراضيه من جانب العصابات الصهيونية، وضُمّ هذا الجزء إلى كيان الاحتلال لدى احتلاله فلسطين في 15 أيار/مايو 1948.
منذ ذلك التاريخ حتى نكسة عام 1967، استمرت الهجمات الصهيونية على هذا التجمع بسبب موقعه الاستراتيجي، واستُشهد عدد من أبناء المسافر دفاعاً عن أرضهم. موقع المسافر دفع وزير الزراعة الصهيوني آنذاك، أرييل شارون، إلى التشديد على ضرورة تدريب جيش الاحتلال في هذه المنطقة، من أجل منع التمدد السكاني الفلسطيني ومصادرة أراضي المنطقة، وهو ما صار إجراءً تنفيذياً عام 1981، حين أعلنت 35 ألف دونم من أراضي المسافر منطقة إطلاق نار رقم 918. شملت هذه الأراضي: جنبا، المركز، الحلاوة، خلة الضبع، الفخيت، التبان، المجاز، أصفى (الفوقا والتحتا)، مغاير العبيد، المفقرة، الطوبة والصرورة.
مسافر يطا في عين المشروع الصهيوني
يرفض أهالي المسافر فكرة مفادها أن مناطقهم تُخلى لغايات عسكرية، بل إن إخلاءها، في نظرهم، هو في صلب المشروع الصهيوني القائم على مصادرة الأرض وتهجير السكان. وبالتالي، يرون أن القرار القضائي الإسرائيلي، سياسياً، يهدف إلى فرض سياسة الأمر الواقع بهدف ربط مستوطنة "كريات أربع" بمستوطنات جنوبي الخليل مع أراضي النقب المحتل عام 1948، وتحديداً مع تل عراد وبئر السبع.
وأُقيمت حول منطقة المسافر 8 مستوطنات، بينها "أفيغايل" و"نوف نيشر" و"متسبيه يائير" و"خوفات تسار مان" و"خوفات ماعون"، بالإضافة إلى معسكرات تدريب لـ"جيش" الاحتلال. وبناء عليه، فإن تهجير أهالي مسافر يطا سيسهّل الاستيطان ويُطلق يد الاحتلال في بناء مجمّعات استيطانية، على غرار "غوش عتصيون" و"أرئيل" و"معالي أدوميم"، وربطها بشبكة طرق وبنية تحتية مع جنوبي فلسطين المحتلة، الأمر الذي سيؤدي ليس فقط إلى تطهير عرقي للسكان الفلسطينيين في مسافر يطا، بل أيضاً إلى طمس الموروث الثقافي الفريد من نوعه في حياة السكان في المكان، وسيقضي على مصدر رزق مئات العائلات التي تعيش هناك منذ عقود.
صعوبات حياتية
"جيش" الاحتلال والمستوطنون يحولون حياة سكان المسافر إلى جحيم يومي. فإضافة إلى قضم مساحات واسعة من أراضيهم، عبر وضع اليد عليها واحتلالها، يتعرض أهالي المسافر لسلسة من سياسات الاحتلال وممارساته التي تقوّض أمنهم، وتساهم في تردي ظروف معيشتهم وارتفاع مستويات الفقر بينهم، وفي اعتمادهم المطّرد على المساعدات الإنسانية في ظلّ التهديد الأكبر لهم، وهو التهجير القسري، وفق تقرير صدر عام 2022 عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (أوتشا). وأقر تقرير أوتشا بأن سلطات الاحتلال هدمت وصادرت 217 مبنى فلسطينياً في منطقة المسافر منذ عام 2011، وهجرت نتيجة ذلك 608 فلسطينيين.
أمّا عام 2021، فوثّقت أوتشا نحو 500 هجمة شنّها مستوطنون على مسافر يطا، تسبّبت باستشهاد 4 فلسطينيين وإصابة 175 آخرين، فيما ألحقت هذه الهجمات أضراراً كبيرة بالممتلكات، وصودرت خلالها عشرات المركبات.
أعمال التضييق الإسرائيلية اليومية على حياة سكان مسافر يطا تهدف إلى جعلهم يتركون أراضيهم طوعاً، ويتخلون عن مهنة الرعي التي توارثوها من أجدادهم، إذ يحظر الاحتلال على أبناء المسافر الوصول إلى منطقة إطلاق النار، مع استثناءات تسمح بزراعة الأراضي ورعي الماشية فيها في أيام عطلة نهاية الأسبوع، أو خلال الأعياد اليهودية، حين تتوقف التدريبات العسكرية.
كذلك، يعاني سكان المسافر صعوبة الوصول إلى الأعلاف بسبب غياب الطرق المعبدة وتطويقهم بالمستوطنات، الأمر الذي يجعل تكلفة الرعي كبيرة جداً عليهم، وهو ما دفع عدداً كبيراً من الشبان والرجال إلى العمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
عام 2019، دمّرت قوات الاحتلال شبكة المياه التي أُنشئت في المسافر عام 2018 بدعم من الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، الأمر الذي أعاد العائلات إلى الاعتماد على آبار جمع المياه.
كذلك، لا ترتبط أي من القرى والخرب في مسافر يطا بشبكة الكهرباء الإسرائيلية. وعليه، يعتمد السكان على الألواح الشمسية المقدمة من الجهات المانحة الدولية. وهناك أوامر هدم معلقة بشأن هذه الألواح. وثمة أوامر هدم معلقة بشأن معظم هذه المنظومات، ولا سيما الكبيرة منها.
أمّا الرعاية الصحية، ففي مسافر يطا عيادة صحية بدائية تعمل يوماً واحداً فقط في الأسبوع، تزود خلاله المصابين بالأمراض المزمنة بالأدوية، وتُجري فحوصات سريرية أولية. وصدر أمر من سلطات الاحتلال بهدم هذه العيادة.
البيوت في مسافر يطا عبارة عن خيام أو غرف صفيح وطوب يدويّ بسبب تكرار هجمات المستوطنين وهدم البيوت ومنع الاحتلال إدخال مواد البناء لها، بالإضافة إلى اعتبار بناء المنازل أمراً غير قانوني، الأمر الذي دفع مئات العائلات منذ الثمانينيات إلى اللجوء إلى الكهوف الموجودة في المنطقة، وبعضها موجود منذ العصر الكنعاني والعصر العثماني. ورممت العائلات نحو 300 كهف في مسافر يطا لمواجهة خطر التهجير والهدم، بالإضافة إلى استخدام بعض الكهوف للمواشي والأغنام.
المدارس خطرة على تلاميذ مسافر يطا
في هذا التجمع البدائي، هناك 4 مدارس فقط، هي مدرسة المسافر الإعدادية والثانوية في قرية الفخيت، ومدرسة جنبا الابتدائية، ومدرسة المجاز، ومدرسة سوسيا الأساسية المختلطة. ووفقا لأوتشا، صدرت بالفعل أوامر الهدم التي تستهدف هذه المدارس المشيَّدة بدعم من المجتمع الدولي.
وحتى تنفذ أوامر الهدم، يمشي تلاميذ المسافر إلى مدارسهم مسافات تتجاوز 5 كيلومترات يومياً في كل اتجاه، لكن هذا ليس نوع العذاب الوحيد الذي يواجهه تلاميذ مسافر يطا، فالطرقات الجبلية غير المعبدة والمهددة بالسيول في الشتاء خطرة جداً عليهم بسبب هجمات المستوطنين المتكررة عليهم خلال مسيرهم إلى صفوفهم. وقد تعرّض عدد من تلاميذ المسافر لملاحقات مرعبة من جانب المستوطنين، بالإضافة إلى الاعتداءات الجسدية أو ببساطة قطع الطرقات أمامهم، الأمر الذي يجبرهم على إمضاء ساعات تحت أشعة الشمس اللاهبة صيفاً، أو تحت الأمطار الغزيرة شتاءً.
وطبعاً لمزاجية جنود الاحتلال دورها في عرقلة العملية التربوية، إذ يمنع الجنود المعلمين والتلاميذ أحياناً من اجتياز بوابة عسكرية تؤدي إلى المدرسة إلّا عبر تصاريح خاصة، أو بعد تفتيش جسدي مذلّ ينتهك إنسانيتهم. وكانت مدرسة قرية أصفى هُدمت عام 2022 واستولى جنود الاحتلال على الخيمة التي أُقيمت في موقعها ليدرس فيها التلاميذ.
كل هذه الممارسات تؤدي إلى تأخير موعد بدء الصفوف أو حتى إلغائها، الأمر الذي يؤثر في مسار العام الدراسي لتلاميذ المسافر، بالإضافة إلى الأثر النفسي في التلاميذ، ولا سيما الصغار منهم.
يكبر صغار مسافر يطا بين بيت مهدد بالهدم واحتمالات تهجير قسري قائمة في أي لحظة، وبين هجمات المستوطنين اليومية ومضايقات "جيش" الاحتلال. همهم أكبر من عمرهم الفعلي، لكنهم، كما أهاليهم، يرفضون مغادرة أراضي أجدادهم، ولو ماتوا دفاعاً عنها، كما يقولون، وذلك مع اقتراب شبح تهجيرهم القسري، والذي يرقى إلى مرتبة جريمة حرب، بحسب اتفاقيات جنيف، فقد أبلغت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الارتباط المدني الفلسطيني، مطلع عام 2023، وتحديداً في 2 كانون الثاني/يناير، نيّتها تنفيذ قرار إخلاء مسافر يطا، وفق صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية.
هذا التراكم الممنهج من سياسات الاحتلال ضد أهالي مسافر يطا يجعلهم يخشون عيش تجربة النكبة مجدداً، والعودة إلى تهجير وشتات جديدين، فيما عالم 2023 يبدو غير مهتم بالمجزرة الإسرائيلية القائمة بحق الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً.