خطوات تحرر "الأبطال" من سجن "جلبوع" الأكثر تحصيناً في "إسرائيل"
لم ينجح الأسرى في الخروج من تحت بلاطة مساحتها 60 سنتيمتراً في مراحيض غرفة رقم 5 في سجن "جلبوع" الذي بني عام 2004، من دون تخطيط مسبق، بل عاش هؤلاء سنيناً من التخطيط والتفكير قبل الوصول إلى مرحلة التنفيذ.
جاء 6 أيلول/سبتمبر 2021 ليحمل إلى العالم عموماً والفلسطينيين على وجه الخصوص معجزةً أمنيةً، أبطالها أسرى محتجزون في أشد سجون الاحتلال الإسرائيلي تحصيناً، مقارنةً ببقية السجون وهو سجن جلبوع الذي يشتهر بـ"الخزنة". العملية المعروفة اليوم بعملية "نفق الحرية"، نفذت من خلال اتباع خطوات عديدة. ولم ينجح الأسرى في الخروج من تحت بلاطة مساحتها 60 سنتيمتراً في مراحيض غرفة رقم 5 في سجن "جلبوع" الذي بني عام 2004، من دون تخطيط مسبق، بل عاش هؤلاء سنيناً من التخطيط والتفكير قبل الوصول إلى مرحلة التنفيذ.
يقول راوي "الأبطال"، الذي عرضته قناة الميادين في الذكرى السنوية الأولى لتحرر الأسرى الستة من نفق سجن "جلبوع"، إنّ قصة مخطط التحرر عمره من عمر معتقل "جلبوع" تقريباً، فالفكرة بدأت تتبلور في ذهن محمود العارضة منذ عام 2003 كان حينذاك في سجن شطة، ومن هنا بدأ الاستكشاف.
وفي مرحلة الاستكشاف، كان العارضة يجمع المعلومات من القادمين من "جلبوع"، يسألهم عن جغرافيّة السجن، شكل الغرف، والحمّامات ودورات المياه. وهكذا، اكتشف وجود ثغرة، دورة المياه مقعدة، أرضيّة من حديد، يمكن إزالتها لحفر نفق. طلبات متتالية أرسلها محمود العارضة للانتقال إلى جلبوع، حتّى تحقّق له ذلك عام 2005 دخل الغرفة وجد ما كان يريده، ومن ثم طرح الفكرة على بعض الأسرى، لكنّه واجه رفضاً منهم حيث اعتبروا الأمر مستحيلاً.
وبحسب الراوي، فإن المشروع ظلّ معلّقاً، وعاد محمود الى شطة عام 2007 وبقي هناك. لاحقاً، وضع في العزل عام 2011، ثمّ 2014 خلال بقائه في شطة. وجد محمود العارضة في القسم 7 نموذجاً مشابهاً لــ"جلبوع"، طرح الفكرة على بعض الأسرى، للمرّة الأولى. تفاجأ لاحقاً باكتشافه أنّهم اتّفقوا على التحرّر عبر الجدران لكنّ المخطّط لم يكتمل.
مرةً جديدةً، طرح محمود المشروع السابق عليهم واستمرّ العمل 16 شهراً، حفرت عدّة أنفاق تحت الأرض، انهار بعضها بسبب مياه المجاري، وبعد إنجاز الجزء الأكبر من العمل اكتشف النفق فعزل محمود العارضة مجدّداً.
إلى جلبوع عاد في العام التالي، وبدأ في 2017 تنظيم الموضوع مع أسيرين فقط في السجن. دخل الغرفة، بدأ تجهيز الأدوات، لم يكن يعمل إلا يوماً واحداً ولساعات فقط.
مشكلتان استجدّتا في تلك المرحلة، وفقاً للراوي، اختراق كبير، وحدث لم يكن في الحسبان ألا وهو إضراب الأسرى الجماعي الكبير في حادثة الاختراق أحد الأسرى الذين اتّفق معهم محمود لم يأخذ الموضوع على محمل الجدّ، فسرّب الفكرة عن طريق المزاح إلى أحد المسؤولين من التنظيمات في القسم، لكنّ هذا الأخير بدوره لم يأخذ الموضوع على محمل الجدّ. تأجّل المشروع وتكرّرت المحاولات عام 2018 تمّ تأجيلها من جديد نتيجة أحداث معيّنة داخل سجن جلبوع.
قبل بداية المشروع بأربعة أشهر، عرض العارضة على يعقوب قادري من دون أن يعرف أين نقطة الانطلاق كذلك الأمر بالنسبة إلى أيهم كممجي، لتبرير العمل داخل الغرفة قال محمود للآخرين في الغرفة إنه يعدّ مخبأً للهاتف وبالتالي عليهم الخروج كلّ يوم في أوقات الفورة.
سرّ آخر لنجاح العمل يتحدّث عنه محمود العارضة، فيقول إنّه عندما قرّر حفر النفق أحاط نفسه بمجموعة شباب ممّن تربّوا أمنيّاً على يديه عندما كان في جلبوع عام 2015 وعند اختيار الفريق كان هناك بحث كبير، فمناضل نفيعات عرفه سنة 2014، ومحمود شريم التقى به سنة 2017 حيث مكث عنده سنوات، قصي مرعي تعرّف إليه عند اعتقاله، كذلك علي أبو بكر عاش معه أشهراً قبل المشروع، ومحمّد أبو بكر تعرّف إليه عبر نفيعات وعلي أبو بكر. أما يعقوب قادري وأيهم كممجي ومحمد العارضة وإياد جردات، فله تجارب معهم.
تنفيذ المخطط في "جلبوع".. 45 دقيقة حاسمة
آنذاك، لم يكن بيد محمود العارضة خريطة للمبنى، كلّ المعلومات عرفها من نفق شطة في 2012 و2014، القسم هناك له التركيبة نفسها لقسم جلبوع في طريقة البناء القسم عند بنائه، يحفر متر مربّع في الأرض ثم توضع أربعة أعمدة لكلّ غرفة بالعرض وبين كلّ عمود وآخر ثلاثة أمتار ونصف متر. وبما أنّ الغرف مركبة تركيباً فيجب وضعها على القواطع ويدخل القاطع الأماميّ مساحة ثمانين سنتيمتراً داخل الغرفة من أجل ترتيب مواسير المجاري، وبذلك يكون هناك مجرًى طويل تحت دورات المياه من أوّل القسم إلى آخره.
الخريطة جاهزة في رأس مهندس العمليّة، وكذلك الفريق، وبعدما فتح الباب بات العمل بالتراب ممكناً عندما أحدث ثقباً واخترق أرض الغرفة، خرج مسرعاً وسجد لله وبشّر الآخرين هنا يقول محمود: "كانت رائحة التراب التي تملأ الغرفة من أجمل الروائح"، هكذا بدأ حفر النفق.
ويشير الراوي إلى الصعوبات التي سبقت فتح باب النفق، ويقول إنها كثيرة، فلوح الفولاذ الذي كان موجوداً تحته يغطّي كلّ الغرفة يومان أمضاهما الأبطال لقصّ الخطّ الأوّل وتحديد الضلع الرابعة. وطلب محمود من مناضل نفيعات وقصي مرعي ومحمود شريم محاولة رفعها، كان ذلك صعباً، أقنعوه بأنّه إذا تمّ رفعها بشكل زاوية قائمة، يمكن تقطيعها لكن عندما تمّ رفعها انتصبت ولم يستطيعوا قطعها، وكان الوقت ينفد.
دخل وقت فحص الساعة الثالثة، وكانت قطعة الفولاذ منتصبةً والباب مفتوحاً. كانت هناك خمس وأربعون دقيقةً لفتح القسم والوضع كان خطيراً، لأنّ التفتيش يأتي في هذا الوقت فطلب من الإخوة الاستنفار، وبدأ العمل ساعات متواصلةً، تمّ قطع قطعة الحديد، لكنّها كانت منحنيةً أي إنه لا يمكن إغلاق باب النفق فحاولوا تقويمها وكانت ثقيلةً جداً، فتقرّر قصّ القطعة المنحرفة منها كان بطل قصّ البوابة في البداية محمود شريم، بحسب محمود العارضة وكذلك قصي مرعي، ثم شارك مناضل عندما اقترب الخطر.
هل تساءلتم ما الطريقة التي اعتمدها الأسرى لتحرير أنفسهم من #سجن_جلبوع؟
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) October 1, 2022
شاهدوا تفاصيل عملية حفر النفق، والصعوبات التي واجهها #الأبطال 👇https://t.co/rgXUGLKhiN#الأبطال #نفق_الحرية #سجن_جلبوع #فلسطين pic.twitter.com/tOxZPLglkp
يروي محمود العارضة أنّه في شهر ثلاثة، أي آذار/مارس، جاء فحص تشويش لأجهزة الاتصال من الإدارة وقد أخرجوا الأسرى من كلّ الغرف المحاذية وكان قد فتح النفق فلم يخرج من الغرفة، وقال إنّه يستحمّ الى أن أغلقه في اللحظات الأخيرة.
بداية شهر 4، أي نيسان/أبريل، كان يعمل هو ومناضل الأخير دخل إلى المجرى بصعوبة، وعندما أراد الخروج لم يستطع، وحشرت يده تحت صدره حاول كثيراً فلم يستطع، وبدأت علامات التوتّر تظهر عليه، ثمّ علامات الإغماء، فبدأ محمود بالحفر من تحته بصعوبة كبيرة وبعد نصف ساعة تمكّن من إخراجه. وبحسب الراوي، فإن مناضل كاد يفقد حياته وهو في المجرى.
أما أصعب اللحظات، فقد وصفت بـ"ليلة الزلزلة"، مصطلح استخدمه محمود في كلامه، تعبيراً عن هول ما جرى، لماذا وصفها محمود بالزلزلة، يقول: "في شهر أيّار/مايو من عام 2021 كنت (أي محمود العارضة) وقصي نعمل في الحفر بعد نزولنا سمعت إياد جرادات يصرخ أنّ هناك تفتيشاً مفاجئاً فخرجت من النفق وظننت أنّ الأمر قد كشف".
ووفقاً للراوي، كان باب الحمّام مغلقاً والإدارة على مدخل الغرفة، فاستطاع خلال ثوان أن يغلق الباب علماً بأنّ الأمر يستغرق عادةً 45 دقيقةً، طلبت منه الإدارة الخروج من الحمّام كان قصي قد وصل إلى باب النفق وبدأ يصرخ: افتح الباب وكان يعتقد أنّ الأمر مزحة بدأ السجّان يقول له: ماذا تفعل، يا محمود، هل تحفر نفقاً؟ فقال له: نعم، ولا أريد الخروج، وبدأ يضحك. أراد قصي أن يفتح الباب من (من جهته)، لكنّه سمع صوت مفاتيح السجّان، فعلم أنّ الأمر جدّيّ. رفضت الإدارة الانتظار وطلبت من محمود الخروج، سألته عن العدد فأجاب الأسرى بأنّهم خمسة كان مناضل ومحمد العارضة وشريم في المطبخ أثناء التفتيش، فأرادوا تحطيم الأدوات كي (يشتتوا انتباه الإدارة)، لأنهم رأوا أن الأمر قد انتهى، مضى الأمر من دون أن تعود الإدارة، وهكذا انتهت الليلة المزلزلة.
إذاً ظهر نور الشمس، لحظة لن ينساها الأسرى بعد شهور من العمل المنهك، المرحلة الأولى انتهت لكنّ الأصعب آت والموعد ينتظر التحديد.
في سجن جلبوع خمسة أقسام في كلّ منها 15 غرفةً وفي كلّ غرفة 6 أسرى، مئات العائلات في حال ترقّب لحظات طويلة قبل أن تنتشر بطاقات الأبطال الذين نجحوا في عبور النفق.
دقّت ساعة التحرّك. لحظة.. لن ينساها الأسرى!
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) October 1, 2022
شاهدوا اللحظات الأخيرة لـ #الأبطال الذين نَجَحوا في عبور النفق👇https://t.co/rgXUGLKhiN#الأبطال #نفق_الحرية #سجن_جلبوع #فلسطين pic.twitter.com/zYmvZLGPEz
حاولت السلطات الإسرائيلية التخفيف من وقع العملية بعد أن سعت لحجبها عن وسائل الإعلام لكنّ فعل الأبطال أكبر من أن يحجب فبات الحديث الأوّل. سريعاً انتشر الخبر في صفحات الإعلام فلسطينيّاً وعربيّاً وحتّى عالميّاً وبات محلّ دراسة وتحليل من صحافيين وباحثين ومؤسّسات حقوقيّة. واختلفت المقاربة بقدر ما تعدّدت الروايات.