المؤسسات الدولية.. كيف سقطت في اختبار غزة؟
بعد ملحمة "طوفان الأقصى" وتصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بدأت الانتقادات الموجّهة إلى المؤسسات والمنظمات الدولية ولا سيما "الأونروا" تطفو على السطح.. كيف سقطت هذه المنظّمات في اختبار غزّة؟
تنشط في قطاع غزّة نحو 18 مؤسسة ومنظمة دولية معنية بالإغاثة وبتحسين الأوضاع الإنسانية والمعيشية للسكان، ولعلّ أبرز هذه المنظمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين "الأونروا" المسؤولة عن نحو 75% من سكان القطاع، والتي كانت أول المؤسسات الأممية التي أعلنت تخلّيها عن دورها أمام الأزمة الإنسانية المتفاقمة من جرّاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة ضد المدنيين والبنية التحتية في القطاع منذ الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر وحتى يومنا هذا.
"الأونروا" تتخلّى عن دورها
منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، رضخت وكالة "الأونروا" لتهديدات الاحتلال الإسرائيلي، فعملت على إخلاء مقارّها وموظفيها، وتركت المخازن عُرضةً للقصف الإسرائيلي، ولم تكتفِ الوكالة بهذه الخطوات بل نقلت مقار عملياتها من الشمال إلى الجنوب، وتخلّت عن مهامها بشكلٍ علني من دون توفير ممرات أو بدائل آمنة للنازحين، في تساوقٍ خطير مع مخططات التهجير من قبل الاحتلال بحق أهالي القطاع.
فبعد أن كانت مقار ومدارس "الأونروا" هي المكان الآمن الوحيد الذي يلجأ إليه آلاف الفلسطينيين للهروب من الصواريخ والمجازر الإسرائيلية، التي تُرتكب بشكلٍ يومي، باتت تلك المقار غير المُجهّزة والتي تقتصر إلى أدنى مقوّمات الحياة مقبرةً للنازحين بعد استهدافها بشكلٍ مباشر من قبل الاحتلال الذي يضرب بالقانونين الدولي والإنساني عرض الحائط.
هذا الدور لـ "الأونروا" دفع بالعديد من الانتقادات إلى السطح ووصلت إلى حدّ الاتهام بالتواطؤ مع الاحتلال في مخطط التهجير القسري، والذي يهدف إلى تفريغ قطاع غزّة من السكان ونقلهم إلى مكانٍ آخر سواء إلى مصر (رفح الجديدة)، أو إلى صحراء النقب، الأمر الذي يرفضونه مطلقاً.
ومن أبرز الانتقادات الموجّهة إلى "الأونروا" هي انتقادات حكومة "حماس"، التي اتهمت الوكالة بشكلٍ واضح بالتواطؤ مع "إسرائيل" في "النزوح القسري". وقال رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، سلامة معروف إنّ "وكالة الأونروا ومسؤوليها يتخاذلون عن أداء دورهم في تواطؤٍ واضح مع إسرائيل ومخططاتها بالتهجير القسري".
بدوره، اتهم المتحدث باسم وزارة الصحة، أشرف القدرة "الأونروا" بإدارة ظهرها لسكان قطاع غزة بشكلٍ عام، وترك الأطفال من دون تطعيم، وذوي الأمراض المزمنة من دون علاج، وكذلك إهمال أمور المستشفيات في كامل القطاع.
من جانبه، قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده في تصريحاتٍ خصَّ بها الميادين نت إنّ جزءاً مهماً من منظمات المجتمع المدني انخرط في خذلان الشعب الفلسطيني، وطرح تساؤلات عديدة على الخطوات العملية لتلك المنظمات ولا سيما منظمة "الأونروا" التي أخلت مقارّها في الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزّة.
ودعا عبده إلى مراجعة آليات عمل الوكالات الدولية في قطاع غزة، لافتاً إلى أنّ هناك غطاءً دولياً لجرائم الاحتلال في غزّة، وذلك عبر عمل هذه المؤسسات مثل مصادر دولية صدرت عن مؤسسات عديدة لم تكن على مستوى الحدث، أبرزها مواقف المفوّض السامي لحقوق الإنسان الذي اتخذ مواقف فيها نوع من الميوعة في إدانة الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي فُسّر على أنّه يتبنّى الموقف النمساوي (تعليق النمسا مساعداتها للفلسطينيين بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي) ولا يتبنّى الموقف الحقوقي الدولي.
كما أشار رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى أنّ مثل هذه المواقف تكررت في أكثر من محطّة منذ اندلاع العدوان، وأعطت إشارات إلى الاحتلال الإسرائيلي أنّ بإمكانه أن يذهب بعيداً في ممارسة جرائمه، مؤكداً أنّ إدارة "الأونروا" تخلّت عن مسؤولياتها القانونية والإنسانية بعد أن تركت عشرات آلاف النازحين يواجهون مصيرهم، وأدارت ظهرها لهم داخل مراكز الإيواء من دون أيّ تنسيق، وهو ما شكّل عاملاً إضافياً في خلق أجواء ترهيب نفسي لهم للضغط على المدنيين لإخلاء مناطق سكانهم في شمالي القطاع.
وبحسب أحدث البيانات الصادرة عن "الأونروا"، أمس الجمعة، فإنّ نحو 830 ألف نازح يقيمون حالياً في 154 منشأة تابعة للوكالة في جميع محافظات قطاع غزة بما فيها الشمال، بنسبةٍ تفوق قدرتها الاستيعابية بـ 9 مرّات، وفي مراكزها هناك مرحاض واحد لكل 150 نازحاً، ووحدة استحمام واحدة لكلّ 700 نازح.
ومنذ بداية الحرب "الإسرائيلية" العدوانية على غزة، استشهد 101 موظف في "الأونروا"، وتضررت أكثر من 60 منشأة، وتعرّض ما لا يقلّ عن 70% من مرافقها وسط وجنوب القطاع للقصف، كما أن المنظمات العالمية الأخرى لم تكن بمنأى عن المخاطر والتهديدات الأمنية، إلا أن غالبية التصريحات لم تدن الاحتلال بشكلٍ مباشر وتجنّبت ذكر الجهة التي قصفتها واستهدفت طواقمها.
مستودعات مليئة.. ومساعدات شكليّة
وفي ظلّ تصاعد الاحتياجات الإنسانية انتشرت مقاطع فيديو تُظهر مستودعات "الأونروا" في قطاع غزة مليئة بالمساعدات المخزّنة، بينما يموت الفلسطينيون قصفاً وجوعاً، وسط اتهامات للوكالة بـ"إخفائها عمداً" الأمر الذي حاولت الوكالة نفيه.
وأثار المشهد تساؤلات عن أسباب عدم توزيع "الأونروا" تلك المساعدات على الفلسطينيين، بينما هم في أمسّ الحاجة إليها ويجدون صعوبة حتى في توفير الخبز، في ظلّ توقّف غالبية المخابز عن العمل بسبب تعرّضها للقصف والتدمير، مُتهمين الوكالة بـ"إخفائها عمداً خدمةً للأجندة الإسرائيلية".
أما في سياق المساعي الأممية التي تحرّكت لإدخال المساعدات إلى قطاع غزّة عبر معبر رفح، فإنّ أوّل شاحنات تحمل مساعدات دخلت بعد أسبوعين من القصف الإسرائيلي المكثّف والحصار المحكم.
وصلت المتاجرة بالقافلة على حساب المنكوبين في غزة إلى حد أن منسّق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة مارتن غريفيث تباهى بنجاحه في تحريكها بعد جهود مضنية مع جميع الأطراف، واعتبارها بداية لتوفير الإمدادات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والوقود، لسكان غزة، بطريقة آمنة ومن دون شروط أو عوائق.
ثم أثبتت الشاحنات، على الرغم من قلّتها، أنّ العديد منها عبارة عن شاحنات مُحمّلة بقارورات المياه، وهي لا تكفي موظفي وكالة الـ"أونروا" المشرفة على توزيع المساعدات، كما أنّ أمر توزيع المساعدات أنيط بالأمم المتحدة التي تُقدّم المساعدات للمدارس التي تُشرف عليها فقط، من دون أن تُقدّم مساعدات للنازحين خارج مدارسها.
وعن هذا الأمر، لفت رئيس مكتب الإعلام الحكومي، سلامة معروف إلى أنّ وكالة "الأونروا" احتجزت المساعدات وقامت بتأخير دخول الشاحنات إلى القطاع، خلال تصريح له في 31-10-2023.
كما أنّ الوكالة تحتجّ بعدم قدرتها على استقبال عدد كبير من الشاحنات قد يراوح بين 60 إلى 100 شاحنة يومياً، بأنّ موظفيها لا يمكن أن يعملوا بعد الساعة السادسة مساءً، خوفاً على حياتهم، في ظل تواصل القصف الإسرائيلي للقطاع ليلاً ونهاراً، ووجود معبر رفح في منطقة حدودية بين مصر وغزة والأراضي المحتلة، كما أنّها تشير إلى أنّ الوقود لديها غير كافٍ، الأمر الذي استنكره المفوّض العام لوكالة "الأونروا" فيليب لازاريني والذي دعا إلى "وقف استخدام الوقود كسلاح منذ بداية الحرب".
ومع قيام "إسرائيل" بمنع الوقود عن غزة، فقد توقّفت مرافق مياه الشرب ومعالجة مياه الصرف ما يجعل الأمور كارثية، لذلك فإنّ قرار منع الوقود يعني ببساطة تحويل القطاع عمداً إلى مقبرة جماعية.
الصليب الأحمر يتجاهل المناشدات
الاتهامات بالتواطؤ لاحقت كذلك الصليب الأحمر الدولي، فرئيس قسم الحروق في مستشفى الشفاء، أحمد المخللاتي أكّد أنّ الصليب الأحمر لم يقدّم أيّ خدمات على مستوى تأمين المستشفيات أو تفريغ المرضى أو حماية المؤسسات الصحية، عادّاً هذه المنظّمة جزءاً من التواطؤ الذي يحصل بين الاحتلال والمؤسسات الدولية.
من جهته، حمّل الناطق باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، المنظمة مسؤولية عدم حماية طواقمه من القصف "الإسرائيلي". في غضون ذلك، ترد شهادات متواصلة من الأهالي حول تجاهل الصليب الأحمر مناشدات الناس تحت الأنقاض والمصابين داخل البيوت المستهدفة والشوارع في مدينة غزة والشمال.
وعلى الرغم من أهمية الدور المنوط بهذه المؤسسة في أوقات الحروب والأزمات إلا أنّها فقدت قدرتها على توفير الحماية لطواقمها وليس لضحايا الحرب فحسب، ومثّل استخفاف الاحتلال بدور هذه المنظمة عندما اعتدى على قافلة الإسعاف التي تحمل جرحى كانت متوجّهة من مستشفى الشفاء إلى معبر رفح، وكذلك عندما قصف مستشفى المعمداني والإندونيسي وحاصر عدة مستشفيات في قطاع غزة.
وترد شهادات متواصلة من الأهالي في قطاع غزة حول تجاهل الصليب الأحمر مناشدات الناس تحت الأنقاض والمصابين داخل البيوت المستهدفة.
وعن هذا الأمر قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده إنّ الصليب الأحمر بدأ بالتواصل يوم أمس الجمعة فيما يخصّ مستشفى الشفاء، وقبل ذلك ترك وقتاً كافياً للاحتلال لتنفيذ جرائمه من دون أن يقوم بأيّ أدوار من أجل إنقاذ المدنيين في القطاع.
ودعا عبده المنظمات الدولية إلى رفض إملاءات "إسرائيل"، مطالباً تلك الوكالات أن تكرّس القانون الدولي المتعلق بحماية النازحين، وبالتالي عدم ابتزازهم بالاحتياجات الإنسانية وترهيبهم.
وفي وقتٍ سابق، كشف عبده في تصريحاتٍ صحافية أنّ الصليب الأحمر "لديه مولدات كهربائية في مخازنه، لكنّه رفض إيصالها إلى مستشفى الشفاء والمستشفيات الأخرى".
وما يزيد الأمور صعوبةً، هو إمعان "إسرائيل" في عدوانها الذي يستهدف الطواقم الإنسانية من خلال إطلاق النار على قافلة شاحنات تابعة للصليب الأحمر تحمل على متنها إمدادت إغاثية أساسية كانت متجهة نحو مستشفى الشفاء اليوم السبت، وكذلك فعلت عندما توجّهت شاحنات الإغاثة إلى مستشفى القدس والذي يُعاني من أوضاعٍ كارثية مما حال دون وصولها رغم مواصلة اللجنة الدولية تذكير الاحتلال بالواجبات القانونية التي تفرض عليه عدم استهداف الطواقم الإغاثية.
كل اعتداءات الاحتلال على المنظمات الأممية العاملة في قطاع غزّة لم تمنح المنظومة الأممية غطاءً أخلاقياً بل شكّلت دليلاً على حالة العجز والشلل التي أصابتها في ظل ازدواجية المعايير وغياب العدالة، وبلغت هذه المواقف ذروتها بإعلان مدير مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان، كريغ مخيبر استقالته متهماً الأمم المتحدة بـ"الفشل" في وقف الجرائم في فلسطين المحتلة.
وقدّم المسؤول الأممي استقالته يوم 28 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بسبب ردّ فعل المنظمة الأممية على الحرب في قطاع غزة، مطالباً الأمم المتحدة أن تستخدم في تقييم ممارسات "إسرائيل" معايير مماثلة لتلك التي تستعمل عند تقييم انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان الأخرى حول العالم.