مناورات موسكو وبكين وطهران: معطياتٌ لتحالفٍ منطقي

مجموعة من التقاطعات تحققها المناورات الروسية-الصينية-الإيرانية في المحيط الهندي، ترتبط بالمكان والزمان وبالقوى المشاركة. ماذا يجمعها؟ وكيف ترى كل واحدةٍ منها مصالحها من المناورة؟ وما هي ملامح تحول التعاون بينها إلى تحالفٍ يأخذ أبعاداً استراتيجية؟

  • مناورات موسكو وبكين وطهران: معطياتٌ لتحالفٍ منطقي
    مناورات موسكو وبكين وطهران: معطياتٌ لتحالفٍ منطقي (أ ف ب)

ليس من المبالغة في شيء القول إن المناورات العسكرية الجارية منذ 27 كانون الأول/ ديسمبر الجاري بين الصين وروسيا وإيران في المحيط الهندي تحمل أبعاداً استراتيجيةً بالغة الأهمية، تضيف إلى المشهد العالمي معطياتٍ جديدة قادرة على تغييره واجتذاب تفاعلاتٍ جديدة من دولٍ أخرى فيه، وتؤثر بصورة مؤكدة على توازنات القوى العالمية والآسيوية. ويمكن تظهير هذه الأهمية من خلال ثلاثة عناوين: المكان والزمان والقوى المشاركة؛ وضمن هذه العناوين يأتي تنوع المجالات التي تؤثر فيها هذه الخطوة التي تأخذ العسكرية (الطابع العسكري) في الظاهر، والمتنوعة استراتيجياً في بواطنها ومدلولاتها.

من ناحية القوى المشاركة، تبدو أهمية المناورات من خلال جمعها ثلاث دولٍ من أكثر دول العالم خلافاً مع الولايات المتحدة الأميركية، وأكثرها تعرضاً للضغوط الأميركية وإحساساً بالخطر الأميركي على أمنها ومصالحها. وبالتالي فإنها من أكثر الدول تناغماً من ناحية مصدر الخطر عليها، كما من ناحية نوعية المخاطر التي تتعرض لها، خصوصاً على المستويات العسكرية والاقتصادية، إضافة إلى العقوبات والحرب الناعمة التي تشمل افتعال قلاقل داخلية ودعم حراكات شعبية ومحاولة توهين سلطة هذه الدول الداخلية.

فالدول الثلاث تواجه عقوباتٍ أميركية من طرفٍ واحد، ومن دون غطاءٍ دولي. وهي في الوقت عينه ترتبط برباط المصالح الطاقوية، حيث إن روسيا وإيران اثنتين من بين أكبر ثلاث دولٍ منتجة للغاز الطبيعي، والصين هي المستهلك الأول الجديد له. 

وتشكل المناورات الحالية بالنسبة إلى الدول الثلاث مناسبةً ملائمة لتوجيه رسالة قوة وجاهزية ضد التهديدات المشتركة، وبالأخص للولايات المتحدة، مفادها أن هذه الدول لن تترك مستقبل محيطها في أيدي الأميركيين وحدهم، وأنها سوف تضطلع في سياساتٍ تحقق مصالحها السيادية كأولوية من خلال التعاون بينها، وعدم ترك الفرصة لواشنطن لتأخذها فرادى، الواحدة تلو الأخرى.

هي خطوة على طريق التحالف، تعزز التنسيق العسكري، وتواكب تطوير المصالح الاقتصادية، وتحمي مشروعات بكين وطهران وموسكو التي ترسم لمستقبل هذا الجزء من العالم، ولمستقبل النظام العالمي ككل.

بالنسبة إلى روسيا، فإن هذه الخطوة تصيب جملةً من الأهداف دفعةً واحدة. فمن جهة هي خطوةٌ لحماية مشروع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تراهن عليه للمستقبل لمواجهة المشاريع الأميركية في وسط آسيا وشرقها، خصوصاً مشروع "طريق الحرير" الأميركي، ومحاولات إيصال حكام متحالفين مع واشنطن في دول آسيا الوسطى. ومن جهةٍ أخرى فإن المناورات تشكل منطلقاً لضمان دورٍ روسيٍ فاعلٍ في المشاركة بحماية خطوط إمداد مصادر الطاقة للعالم كله. فمنطقة المناورات يمر منها أكثر من 40% من إنتاج النقط المصدّر للعالم عبر مضيق هرمز، ومن الجانب الآخر تمكنت موسكو من استعادة نفوذها في سوريا التي تمثل الممر الإلزامي لخطوط نقل الغاز والنفط عبر البحر الأبيض المتوسط إلى العالم، كما تمكنت إحدى شركاتها (نوفاتك) من الفوز بعقدٍ للتنقيب واستخراج الغاز الطبيعي من السواحل اللبنانية.

وإضافة إلى ذلك، فإن من مصلحة روسيا عدم إسقاط إيران، لأن من شأن ذلك إذا تم أن يؤدي إلى تطويقها روسيا من الجنوب، بعد أن وصل "حلف شمال الأطلسي" إلى حدودها الغربية. وبالتالي فإن تدعيم التعاون مع إيران يعصم موسكو من الوقوع في خطأ جيوسياسي كبير، ارتكبته في ليبيا قبل سنواتٍ قليلة.

أما بالنسبة إلى الصين، فإن حماية مشروعها الهائل لـ"الحزام والطريق" يتطلب تناغمها مع دول إقليمية وعالمية مؤثرة ومناهضة للهيمنة الأميركية، وهي في الوقت نفسه تشكل متنفساً لبكين أمام محاولات تطويق صعودها المدهش والمستمر، بتغذية صراعاتٍ داخلية وإقليمية تؤدي إلى إلهائها واستنزاف قدراتها.

والصين التي تدير سياسةً اقتصاديةً ناجحة وشديدة الفعالية عالمياً، تشكل نموذجاً خطراً على الهيمنة العالمية التي مارستها أميركا لعقودٍ بغياب أي منافسة جدّية خصوصاً بعد انتصارها في الحرب الباردة. فالنموذج الصيني ليس منافساً اقتصادياً فحسب، إنما هو منافس ثقافي يختلف في بنيته عن النموذج الأميركي الذي يُروَّج حول العالم على أنه خلاصة تجربة الإنسانية كنظام اقتصاديٍ حر يؤدي إلى تعزيز المبادرة الفردية والرفاه الفردي المنتقل من الفرد إلى المجتمع، حيث تركز الصين على ازدهار الدولة كمقدمة لازدهار الفرد وتحسن مستوى معيشته. 

وتؤدي المشاركة الصينية من جانب آخر إلى خطوة مهمة لحماية وارداتها من مصادر الطاقة المارة في المحيط الهندي، وهي المستهلك الشرِه للنفط والغاز كمصدر حياةٍ لنموها المستدام.

والصين في الوقت الراهن تعمل على تطوير قوة بحرية عالمية، تريد لها أن تكون ركناً أساساً في حماية دورها المستقبلي الذي رُسم بهدوء وبعيداً من الضجيج لعقود طويلة.

أما إيران، فإنها القوة الإقليمية التي تلعب دور خط الدفاع الأول عن الخيارات البديلة لكل القوى المناهضة للولايات المتحدة في شرق المتوسط، وهي تخوض هذه المواجهة من منطلقات وطنية، لكنها أيضاً تخوضها من منطلقات مبدئية ترتبط بقضايا يلتف حولها مئات الملايين من البشر حول العالم، ولها امتداد متجذر في العالم الإسلامي، وأهمها القضية الفلسطينية، ومن ضمنها يأتي دعم حركات المقاومة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن لإيران مصلحة في التناغم مع مشروع الصين للحزام والطريق، والإفادة الاقتصادية منه، ولا سيما أن الدولة التي تديره لم يجمعها بطهران سوى علاقات الود والمصالح المشتركة، وبالتالي فإن فرصاً مهمة للتعاون تلوح بين الدولتين.

وإيران التي تشكل أحد أضلاع ثلاثي الغاز العالمي (روسيا وقطر وإيران) تسعى إلى إطارٍ شبيه بـ"أوبك" تلعب فيه دوراً مركزياً يساعدها في خوض غمار القرن الحادي والعشرين. 

وهي في الوقت نفسه، ومن خلال هذه المناورات تحديداً، تكسر الحصار الأميركي على موانئها الجنوبية، وتمد يدها إلى العالم عبر الشبك مع روسيا والصين في مناورات "عسكرية" بالتحديد، بعد تصاعد وتيرة التعاون الاقتصادي. وهذا ما أشار إليه مساعد قائد القوة البحرية في الجيش الإيراني غلام رضا طحاني عندما قال تعليقاً على المناورات إنه "لا يمكن عزل إيران، والعلاقات مع روسيا والصين ستستمر بهذه القوة".

أما على صعيد أهمية المكان الذي تجري فيه المناورات، فإنه مرتبط بأمن المحيط الهندي وما يعنيه ذلك من اشتراك دول المناورة في حفظه، حيث تشكل المناورات وتعاون الجيوش الثلاثة أساساً جماعياً لمواجهة الأسطول الخامس الأميركي المتمركز والنشط في المنطقة. 

ومن الناحيتين التجارية والاقتصادية، فإن منطقة المناورات تقع على عقدة توزع ممرات النفط إلى دول العالم، وفي قلب مشروع الحزام والطريق، وبينهما تحديداً، وبالتالي فهو أساسٌ في عملية حماية فكرة بكين-برلين، وتضمن إشرافاً عسكرياً على منطقة القلب فيه. 

وإضافة إلى ذلك، فإن المناورات تجري في منطقة الثقل الاستراتيجي الجديد لمعارك المستقبل بعد تحول التركيز الاستراتيجي الأميركي من الشرق الأوسط نحو شرق آسيا، أي بين منطقتي التركيز الاستراتيجي القديمة والمقبلة.

وهذا ما يفتح الباب على أهمية توقيت المناورات، فمن ناحية الزمان، تأتي المناورات في لحظة "الضغوط القصوى" الأميركية على إيران، ودعم وتحريك موجات من التظاهرات الشعبية ضد القوى الحليفة لها في لبنان والعراق، وحتى في داخل إيران، لضمان مرور المشاريع الأميركية في الشرق الأوسط من دون معارضة قادرة على تعطيلها، وفي طليعتها "صفقة القرن". كما أن المناورات تجري في وقت تصاعد حمى الحملات على الصين من الحرب التجارية، إلى قضية بحر الصين الجنوبي، ومع تزخيم قضية الإيغور المسلمين وتضخيمها. 

أما بالنسبة إلى أهمية التوقيت بالنسبة لدى روسيا، فإن المناورات تحدث في وقت تزداد فيه حدة ضغط "الناتو" على موسكو من خلال ضم مقدونيا الشمالية في شباط-فبراير المقبل، والمناورات الأطلسية التي رأت فيها موسكو استعداداً لعملٍ عسكريٍ واسع، وفي ظل إعلان الأوروبيين عن تجديد فترة العقوبات عليها، على الرغم من الإيجابية الروسية التي تم التعبير عنها في "قمة باريس" لحل القضية الأوكرانية.

وبالتالي، فإن معطيات التوقيت والمكان والزمان، تؤكد مجتمعةً حجم نقاط التقاطع الاستراتيجي بين الدول الثلاث: الصين وروسيا وإيران، ما يتيح المجال أمام تحالفٍ شديد القوة، تحتاجه كل واحدة من هذه الدول من أجل أمنها أولاً، ومن أجل الحفاظ على مصالحها تالياً.