اسمه وسط بيروت.. "مش سوليدير"
بحسب القانون، تنتهي صلاحية شركة "سوليدير" عام 2029، لكن اللبنانيين استردوا منطقة "وسط البلد" قبل ذلك بـ10 أعوام، وتحديداً يوم 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019.
تمّ تأسيس شركة "سوليدير" عام 1994، لترميم ما دمرته الحرب الأهلية من مبانٍ وشوارع وسط العاصمة اللبنانيّة بيروت، فهدمت الشركة حضارة وتاريخ وثقافة المنطقة، التي سُرق منها اسم "وسط البلد"، لتصبح "سوليدر".
قضى القانون رقم 117 عام 1991 بتمليك "الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت" (سوليدير) الممتلكات الخاصة والعامة، ليضطر أصحاب الحقوق إلى التخلي عن ممتلكاتهم وما تحمله من رزق وقيمة وذكريات. أُعيد إعمار وسط البلد، وخُصخصت المنطقة المتواضعة التي تعجّ بالمحال والمارة والبائعين، لتتحوّل إلى وسط بلد صامت. الأرصفة، الشوارع والمحال التجارية أصبحت أفخم وأغلى من أن يزورها "الشعب" من أبناء الطبقة العاملة والفقيرة.
حُرم اللبنانيّون إذاً من أن يزوروا وسط عاصمتهم، الذي قُدّم للأغنياء والسوّاح، هؤلاء الذين هجروه مع تأزم الوضع الأمني بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005 وموجة التفجيرات التي عاشها لبنان لسنوات. تحوّل وسط بيروت إلى منطقة أشباح، غابت عنه الروح التي تسكن في كل وسط بلد في أي مكان في العالم، غاب عنه دفء الناس، صوتهم، حكاياهم ورزقهم البسيط.
بحسب القانون، تنتهي صلاحية شركة "سوليدير" عام 2029، لكن اللبنانيين استردوا منطقة "وسط البلد" قبل ذلك بـ10 أعوام، وتحديداً يوم 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019.
في هذا اليوم بدأ رسم تاريخٍ جديدٍ للمنطقة. تغيّرت معالم وسط العاصمة، واسترده الشعب من الأغنياء. الشوارع، الساحات، الأرصفة، المباني الأثرية والجديدة والمحال التجارية عادت إلى المتظاهرين الفقراء من مختلف الطوائف والأحزاب، العاطلين عن العمل وأبناء الطبقة العاملة.
عربات متواضعة وكثير من الفرح: وسط البلد الذي يشبهنا
مع بداية المظاهرات أغلقت المحال التجارية الفخمة التي غاب عنها المتسوقون لسنوات لشدة غلاءها، لتحلّ مكانها عربات الطعام الذي يصنعه الفقراء. تنتشر عربات الذرة (العرنوس)، الفول، المناقيش، المياه، القهوة والشاي، في كل أنحاء ساحتيّ رياض الصلح والشهداء والشوارع المؤدية إليهما في وسط بيروت. كباراً وصغاراً، لطالما حُرموا من أن يتواجدوا في المنطقة للتسوّق أو العمل، يعملون ويسترزقون بمبالغ بسيطة، أبسط من أن تُذكر مقارنة مع أسعار المأكولات والمشروبات في محال المنطقة.
عبوة مياه بـ500 ليرة لبنانية (0.33$)، فنجان قهوة بألف ليرة (0.66$)، وعرنوس ذرة بألفي ليرة (1.32$). بهذه الأسعار يشتري المتظاهرون من العربات في وسط البلد هذه الأيام، أرقام لم يعتادوا على تواجدها في المنطقة، التي يعتبرون بحسب حديثهم للميادين نت أنها "سُرقت منهم ومُنحت للأغنياء فقط".
ومنذ بداية المظاهرات، يقدم العديد من الأشخاص خدمة تدخين النرجيلة مقابل 5 آلاف ليرة لبنانيّة (3.31$) بينما تُقدم في المطاعم الفخمة في وسط البلد بين 15 و25 ألف ليرة (9.95$ - 16.58$). يسهر الكثيرون في ساحات وسط البلد على الأرض والأرصفة، يأكلون ويدخنون النرجيلة بمبلغ لا يتعدى الـ8 آلاف ليرة (5.30$).
منذ 17 تشرين الأوّل/أكتوبر، أعاد المتظاهرون في وسط بيروت إحياء ليرتهم على طريقتهم في ظل الأزمة الاقتصادية وأزمة الدولار. لا أحد هناك يتحدث بالدولار، يبيع به، أو يستخدمه، ولا يمكن لأحد أن يجد هناك قائمة طعام بأسعار مرتفعة أو بالدولار.
يتحدث أحد المتظاهرين في ساحة الشهداء للميادين نت، عن أنّ أول خطوة يقوم بها أي شخص يزور أي بلد في العالم هي "الذهاب إلى وسط البلد، لأنه يحب أن يرى البساطة التي نراها في بيروت اليوم"، مؤكداً أنّ من أجمل ما أنتجته الاحتجاجات في وسط العاصمة هو أنّها "جمعت الفقير وأبناء الطبقتين المتوسطة والغنية في مكان واحد، وأعادت الحياة بإيجابية إلى بيروت".
ورغم بعض الصدامات التي اندلعت بين القوى الأمنية والمتظاهرين في اليومين الأولين من المظاهرات، إلّا أن وسط بيروت يعيش لأكثر من شهر جوّاً عارماً من الفرح، بين السهر والأغاني والدبكة، كما يشهد العديد من الحلقات الحوارية والتثقيفية.
ولم تقتصر هذه المظاهر على وسط البلد فقط، بل امتدت إلى واجهة بيروت البحرية، وتحديداً خليج السان جورج (المعروف بالزيتونة باي حالياً)، حيث افترش المتظاهرون الأرصفة المقابلة للبحر، قريباً من مبنى فندق يحمل لافتة ضخمة كتب عليها "أوقفوا سوليدير"، وتناولوا فطوراً لبنانياً متواضعاً، تعبيراً عن رفضهم الاستحواذ على الأملاك البحرية العامة.
"ليس ممنوعاً" على الشعب دخول المباني الأثريّة..
لم يستعد المتظاهرون شوارع وسط بيروت فقط، بل حتى معالمه الأثريّة التي أُهملت وأُغلقت ورُفع عليها علامات "ممنوع الدخول" منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975. يعتبر مبنى السينما القديمة، المعروف بـ"السينما سيتي" أو "مبنى البيضة" (نسبة لشكله الهندسي البيضاوي)، الذي شيّد سنة 1965، من أبرز المعالم الأثريّة الشاهدة على مآسي الحرب التي عاشها لبنان 15 عاماً.
المبنى الذي لا يزال رغم آثار الحرب المتجذرة فيه، يذكّر أهل بيروت بجمال مدينتهم ما قبل الحرب، منعت شركة "سوليدير" الناس من دخوله، إلا في بعض الحالات الاستثنائية التي شهد خلالها معارض فنيّة. المبنى الذي لا يزال مخطط هدمه قائماً، بحجة إعادة إعمار بيروت وإزالة حطام الحرب منها، دخله متظاهرون منذ الأيام الأولى للمظاهرات، رسموا على جدرانه، غنوا ورقصوا فيه، وحملوا العلم اللبنانيّ من أعلاه، مشددين على أنّ وسط بيروت "سيبقى دائماً ملكاً للناس فقط".
قصة مبنى "التياترو الكبير"، تشبه كثيراً قصة "مبنى البيضة". الصرح الذي كان من أفخم مسارح بيروت في الماضي، أُغلق مع بداية الحرب الأهلية وتُرك مهملاً، لتُحرم المدينة وأهلها من مسرح ضخم ومبنى للأوبرا.
التياترو الذي افتتح عام 1929 بعروض مسرحية عالميّة، واستقبل عمالقة الطرب العربي كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب للمرة الأولى في بيروت، رُفعت عليه إشارات "ممنوع الدخول" منذ تأسيس "سوليدير"، لكن المتظاهرون أزالوهم ودخلوا مسرحهم الكبير، وفتحوه للجميع باعتباره مبنىً تراثياً يملكه الشعب.
"لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة" على جدران بيروت..
لطالما كُتبت أبيات الشاعر الفلسطيني محمود درويش على جدران الشوارع في الكثير من المدن العربية. أحياناً تعبيراً عن الحب، وتارةً تعبيراً عن الثورة. "نحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة"، عبارة كتبها أحد المتظاهرين على جدارٍ في وسط البلد، ليعبّر بسبع كلمات عمّا يحلم به كل مواطن عربيّ فقير أم محروم من حق: "حياة كالحياة".
غطّت الغرافيتي والرسومات والشعارات جدران الشوارع. بعضها عبّر عن مطالب سياسيّة، وبعضها الآخر عن مطالب معيشية واقتصاديّة كـ"الشعب إذا جاع يأكل حكامه، يسقط حكم المصرف وحكم الدولار"، وكثير منها عبّر عن وجع كبير يستوطن الفقراء والمهمشين.
"الفقير قبل الزعيم"، "الشعب أولاً"، و"لنصبح على وطن"، عبارات كثيرة تحمل معانٍ أكبر من مجرّد "شعار"، غطّت الشوارع بألوان وخطوط مختلفة. وطبعاً كانت عبارة "إسمها البلد مش سوليدير" من أكثر العبارات التي خُطّت على الجدران، تعبيراً عن تمسّك المتظاهرين باسترجاع وسط البلد.
لم يطلب المتظاهرون في وسط العاصمة، أكثر من أن يسترجعوا حقهم بالسير والتسوّق والسهر هناك، لم يطلبوا أكثر من "وسط بلد" يشبههم، يشبه نمط حياتهم، ويعبّر عن جمال مدينتهم وروحها الحقيقية. لذا حاولوا رسم هذا الشبه بطريقتهم الخاصة، فأعادوا إحياء "وسط مدينتهم" من الموت.