"نورد ستريم 2" إلى نهايته.. هكذا خضعت واشنطن للمشروع الروسي
بعد سنوات من المعارضة والعقوبات والتوترات، يقترب مشروع "نورد ستريم 2" من الاكتمال إثر اتفاق بين ألمانيا والولايات المتحدة، وهو اكتمال فرضه تصميم روسيا على تخطي المعارضة الدولية للمشروع.
كانت الأزمة الدبلوماسية على الأبواب خلال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في 25 أيار/مايو 2017، بين 2 من أكبر أعضاء الحلف: ألمانيا والولايات المتحدة.
بينما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفطر مع الأمين العام لحلف "الناتو"، صباح اليوم الأول للقمة، قال: "ألمانيا تثري روسيا. إنها رهينة روسيا".
حاول الحاضرون تهدئته، لكن ترامب اندفع قائلاً: "ألمانيا خاضعة بالكامل لسيطرة روسيا. إنها تدفع مليارات الدولارات لها لتأمين إمداداتها بالطاقة، وعلينا الدفاع عنها في مواجهة روسيا. كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ هذا ليس عادلاً".
بلغ الكلام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فردّت: "إننا نستطيع تحديد سياساتنا الخاصة واتخاذ قراراتنا.. وهذا جيد جداً".
شعرت ميركل بالاستفزاز طوال ذلك اليوم من تدخلات سيّد البيت الأبيض بشؤون بلادها، وقررت تجاهله بينما كانت تعبر في ممر المقر الجديد لاعتلاء المنصة وأخذ صورة تذكارية.
4 سنوات ستمضي قبل أن ترى ميركل ضاحكة إلى جانب رئيس أميركي، وهو هذه المرة جو بايدن، الرئيس الديموقراطي الذي يولي اهتماماً خاصاً ببرلين التي توصف بأنها الشريك الأوروبي الأول لبلاده، ويحرص على العلاقات عبر الأطلسي، والعارف بأن أوان وقف مشروع أنابيب "نورد ستريم 2" قد فات بعد استكمال 98% منه.
ما هو مشروع "نورد ستريم 2"؟
تأسس المشروع بناءً على الحاجة الأوروبية المتزايدة لاستهلاك الغاز الذي بدأ ينضب في القارة، الأمر الذي دفع دولاً أوروبية عدة للبحث عن مصادر استيراد تكفل الإمداد المتواصل والرخيص.
فشلت مشاريع أوروبية عديدة لنقل الغاز من الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى إلى القارة، وطلّ الرهان معلقاً على روسيا، الجارة القريبة و"المشاغبة"، والتي نجحت بتزويد أوروبا بنحو 40% من حاجتها إلى الغاز.
عام 2011 جرى إنشاء أطول خط أنابيب بحري في العالم بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق، واسمه "نورد ستريم 1"، والمجهز لضخ 55 مليار متر مكعب من الغاز. وشاركت في المشروع حينذاك شركة "غازبروم" الروسية التابعة للدولة بنسبة 51%، بالإضافة إلى شركتين ألمانيتين وأخرى فرنسية وهولندية.
تزايد الطلب الأوروبي دفع روسيا وألمانية للبحث عن توسعة لـ "نورد ستريم 1"، وبالفعل جرى توقيع اتفاق إنشاء خط "نورد ستريم 2" الذي سيتخذ مسار الأول في بحر البلطيق، من فيبورغ مدينة الروسية إلى لوبمين الألمانية وبطول 446 ميل، وذلك بالشراكة بين "غازبروم" و5 شركات أوروبية أخرى، وهي ألمانية وفرنسية وبريطانية ونمساوية، وتموّل المشروع إجمالاً بنسبة 50%.
ونال مشروع "نورد ستريم 2"، في كانون الثاني/يناير 2018، موافقة السلطات الألمانية للبدء ببنائه، وابتدأ البناء فعلياً بعد 4 أشهر من منح الإذن.
سيضخ "نورد ستريم 2" غازاً بسعة 55 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما يكفي لتزويد 26 مليون أسرة بالغاز، أما كلفته فتناهز الـ10 مليارات يورو.
أميركا تُشهر سلاح العقوبات
قبل البدء بإنشاء مشروع الغاز الأكبر عبر البحار، تحديداً في آذار/مارس 2016، وقّع 8 قادة أوروبيين، وهم رؤساء وزراء كل من التشيك، استونيا، هنغاريا، لتافيا، بولندا، سلوفوكيا، رومانيا، بالإضافة إلى الرئيس اللتواني، رسالة رافضة لـ"نورد ستريم 2"، محذرين من أن المشروع سيؤدي إلى "آثار كبيرة على استقرار السياسي للمنطقة".
هذه هي الحقيقية التي استثنتها ألمانيا من حساباتها: آثار "نورد ستريم 2" ستكون سيئة على دول شرق ووسط آسيا، لكن برلين مصرّة على حقها في ضمان مصادرها من الطاقة، وهي بذلك مستعدة لمواجهة الاتحاد الأوروبي الذي يعتقد أن "نورد ستريم لا يساهم في أمن الإمدادات" بل يزيد الاعتماد على روسيا.
واحدة من أكثر الدول الأوروبية استياءً من "نورد ستريم 2" هي أوكرانيا، حيث يصف الرئيس فولوديمير زيلينسكي المشروع بأنه "سلاح سياسي ضد أوكرانيا"، ويخشى من آثاره على قضية القرم ودونباس.
استفادت أوكرانيا لسنوات من نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضيها، لا من العائدات المالية التي بلغت نحو مليار دولار فحسب، وإنما من ورقة الضغط السياسية التي يمكن استخدامها بوجه روسيا في حال توترت العلاقات مع موسكو وتصاعدت نحو حدود الحرب كما في عام 2014.
إذاً ليست الخسائر المالية لهذه الدول وحدها ما تثير الاعتراضات، فالتحذيرات الأوروبية والأميركية تتابع من خطر وضع أمن الطاقة الأوروبي بيد روسيا، والاعتماد على موسكو كمصدر أساسي للطاقة بدلاً عن البحث على مصادر أخرى أقل استفزازاً لواشنطن وحلف "الناتو".
لكن خطّ الأنابيب الألماني-الروسي أخذ بعداً دولياً أكثر درامية، حين وقّع الرئيس الأميركي السابق في كانون الأول/ديسمبر 2018، على قانون عقوبات ضد مشروعي "نورد ستريم 2"، مستهدفاً بشكل أساسي السفن التي تشارك في وضع الأنابيب اللازمة لهذين المشروعين. العقوبات أتت أكلها سريعاً آنذاك، حيث انسحبت في أعقابها شركة "ألسيز" السويسرية المشاركة في المشروع، والمتخصصة بتشغيل سفن تتولى نقل أنابيب المشروع عبر بحر البلطيق.
سعى دونالد ترامب خلال السنوات الماضية، وبشكل لا هوادة فيه، على إخضاع الموقف الأوروبي لإرادة إدارته. معارضته لـ"نورد ستريم 2" بدأت باكراً، إذا وجد أن ارتباط الطاقة الأوروبية بالإمداد الروسي سيجعل موقف بوتين أقوى. فكيف يمكن للألمان أن يتوقعوا أن تستخدم الولايات المتحدة جيشها للدفاع عن بلادهم من الأخطار القادمة من الشرق، فيما يعملون هم مع روسيا على مشاريع مشتركة ستجعلهم "رهينة"؟
إدارة الرئيس بايدن حافظت على موقف إدارتي ترامب وأوباما في رفض المشروع، وبحثت عن سبل جديدة لوقفه بما في ذلك فرض عقوبات جديدة على الشركات المستثمرة فيه، لكنها اكتشفت مؤخراً أن وقفه صار محظوراً وسيؤدي إلى "نتائج عكسية من حيث علاقاتنا الأوروبية"، حسب تعبير بايدن، وهذا ما تطلّب تغييراً في سياسة واشنطن اتجاه خط الأنابيب الجديد.
ميركل وبايدن على الطاولة.. نهاية المعارضة؟
تطلب الاتفاق بين برلين وواشنطن على كيفية التعامل مع المشروع الروسي-الألماني سنوات، عملت فيه الشركات الروسية المعنية على تمديد الأنابيب تحت البلطيق لتحويل المخططات إلى أمر واقع رغم العقويات، وهو ما جعل أميركا تصطدم في النهاية بحائط صلب وضع لبناته الحليف الألماني إلى جانب الخصم الروسي.
قبل أيام توصلت الولايات المتحدة وألمانيا إلى اتفاق بشأن خط الأنابيب، يتضمن فرض عقوبات على روسيا وتمديد عمليات عبور الغاز عبر أوكرانيا، والتعاون لإنشاء استثمارات في مجال الطاقة تستفيد منها كييف.
جاء الإعلان عن الاتفاق بالتزامن مع لقاء المستشارة الألمانية ببايدن في البيت الأبيض، حيث جرى التأكيد على قوة الشراكة بين البلدين، بل التحدث عن الموقع الذي تشغله واشنطن ويجعلها "أكثر من مجرّد شريك، إنما دولة صديقة".
بايدن قال في ختام اللقاء إنه والمستشارة ميركل "مقتنعان تماماً بأنه يجب عدم السماح لروسيا بأن تستخدم الطاقة سلاحاً لإكراه جيرانها أو تهديدهم"، فيما شددت المستشارة على وجوب أن تبقى أوكرانيا "بلد عبور" للغاز الروسي، وألا يجري الاستغناء عنها.
وبموجب الاتفاقية بين عضوي "الناتو" البارزين، فإن ألمانيا ستستمر في دعم مشاريع الطاقة الثنائية مع أوكرانيا، وخصوصاً في مجال الطاقة المتجددة، حيث سترصد من أجل ذلك مبلغ 70 مليون دولار أميركي، كما ستستهل انضمام أوكرانيا إلى منشأة بناء القدرات السيبرانية الألمانية.
وبشأن الاستثمار في مبادرة البحار الثلاثة، أوضخ البيان أن ألمانيا ستدعم مشاريع طاقة تعود بالمنفعة المشتركة من ميزانية الاتحاد الأوروبي، وستساهم بمبلغ يصل إلى 1.77 مليار دولار بين عامي 2021 و2027. كما وعدت ألمانيا باستخدام كل ما يتوفر من أساليب الضغط لتسهيل تمديد مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا لمدة 10 سنوات إصافية.
بالنسبة لروسيا، تعني الصفقة أنها ستتمكن من مضاعفة حجم الغاز الطبيعي المُصدَّر مباشرةً إلى ألمانيا عبر خط بحر البلطيق، مع تجاوز أوكرانيا، ورغم معارضتها العلنية للاتفاق بين برلين وواشنطن بسبب مضامينها التسييسية للمشروع، فإنها تبدو "راضية" عن انتهاء المشروع الذي سيدخل العملات الصعبة إلى اقتصادها ويعزز علاقتها بالسوق الأوروبية.
الاتفاق أسخط العديد من الأطراف أهمها كييف ووارسو، فإثر الإعلان عن الاتفاق بين واشنطن وبرلين قال وزير الخاجية الأوكراني دميترو كوليبا، في بيان مع نظيره البولندي، إن "الجهود المبذولة لتهدئة مخاوف بلديهما لا تعتبر كافية"، معتبرين أن مثل هذا القرار "يخلق تهديدات جديدة لأوكرانيا وأوروبا الوسطى، على المتسويات السياسية والعسكرية وفي مجال الطاقة".
الرئيس الأوكراني سيزور واشنطن للقاء بايدن، في 30 آب/أغسطس المقبل، وفق ما أعلن البيت الأبيض. الزيارة لن تغيّر الكثير، فميركل وبايدن لن يتراجعا عن اتفاقهما الذي أعاد الدفء في العلاقات عبر الأطلسي. ربما كان على زيلينسكي استعادة نصيحة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للرئيس الأوكراني الأسبق ليونيد كوتشما: "أيها الشاب، سوف يتم خداعك بطريقة أو بأخرى".