من انتفاضة الأقصى إلى "سيف القدس".. المقاومة الفلسطينية متصاعدة
لم تتوقف المقاومة الفلسطينية عند الأدوات. طالما أن الإرادة متوفرة، فهي تقاوم بالموجود، وبين الانتفاضة الثانية قبل 21 عاماً ومعركة "سيف القدس" قبل 4 أشهر ازداد تسليح المقاومة وازدادت إنجازاتها.
إذا أردنا أن نقرأ واقع الحال الفلسطيني ميدانيّاً، على المستويين العسكري والسياسي، ونفهم كيفية تطور الصراع بين المحتلّ وأصحاب الأرض، لا بُدَّ من استيعاب آلية عمل المقاومة، وكيفية تطورها على مدى عقود الصراع، من دون إغفال العوامل التي ساهمت بحدوث هذا التطور وتلك التي كانت مُعيقةً له.
من أجل اختصار المراحل، لا حاجة للعودة إلى التشرذم والانحطاط اللذين سادا البلدان العربية، وكذلك الهزيمة في حرب 1948، مروراً بنكسة العام 1967، وخروج منظمة التحرير إلى لبنان، ثم خروجها منه بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، وصولاً إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987، التي سُمّيت بـ"انتفاضة الحجارة".
الانتفاضة الثانية
يوم 28 أيلول/سبتمبر من كل عام يصادف ذكرى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، بفعل اقتحام عضو لجنة الخارجية والأمن البرلمانية حينها أرييل شارون المسجد الأقصى، ما أدى إلى مواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، التي قتلت نحو 20 منهم وجرحت عشراتٍ آخرين.
استمرت هذه الانتفاضة، التي سُمّيت أيضاً بـ"انتفاضة الأقصى"، حوالى 4 سنواتٍ ونصف السنة، وتوقّفت رسمياً في 8 شباط/ فبراير من العام 2005، مع توقيع اتفاق الهدنة في شرم الشيخ بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأرييل شارون نفسه، الذي صار في ذلك الحين رئيساً للوزراء.
خلال هذه الفترة، اقتصرت سبل المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، إضافة إلى الأسلحة الفردية والصواريخ قصيرة المدى المصنوعة محلياً، على العمليات الاستشهادية التي تجاوز عددها الـ 100 خلال سنوات الانتفاضة في مختلف المستوطنات الإسرائيلية، ومن ضمنها تل أبيب، وتسببت في انعدام الأمن داخل المناطق المحتلة، معطّلةً الحياة الطبيعية والحركة الاقتصادية فيها.
كما أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تصفية أسماء إسرائيلية بارزة، أهمها وزير السياحة رحبعام زئيفي بعمليةٍ نوعيةٍ في القدس المحتلة، قامت بها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في العام 2001.
الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة
في صيف العام 2005، قامت حكومة أرييل شارون بإخلاء المستوطنات ومعسكرات الجيش من قطاع غزة و4 مستوطنات أخرى متفرقة شمالي الضفة الغربية.
فخلال سنوات الانتفاضة الثانية تطوّرت قدرات المقاومة الفلسطينية الصاروخية في قطاع غزة تحديداً، بفعل الإمدادات التي حصلت عليها من قوى ودول محور المقاومة في المنطقة، وبها كانت فصائل المقاومة تُمطر المستوطنات الإسرائيلية الواقعة ضمن حدود القطاع وفي محيطه بالصواريخ الجديدة.
أتى هذا الانسحاب، بحسب الإعلان الإسرائيلي، بعدما فشلت معركة "أيام الغضب" في تحقيق أهدافها، المتمثلة بمنع إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على المستوطنات.
عملية تسلُّلٍ وأسرٍ نوعيّة
استمرت المقاومة في التخطيط والتجهيز واقتناص الفرص، حيث شهد شهر حزيران/ يونيو من العام 2006 أسر المقاومة الفلسطينية للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، بعد عمليةٍ أسفرت عن مقتل 3 جنود. قضى شاليط نحو 5 سنوات في الأسر، وأطلق سراحه في صفقة تضمّنت بالمقابل تحرير أكثر من 1000 أسيرٍ فلسطيني.
تتميز عملية أسر شاليط بتعقيدها النسبي بالمقارنة مع عمليات الأسر السابقة التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية، إذ تمّت العملية خارج حدود قطاع غزة بعد عمليةِ تسلُّلٍ عبر نفقٍ حفرته المقاومة لهذا الغرض، نُقِل شاليط بعدها بسرعةٍ كبيرةٍ واختفى داخل مساحة القطاع الصغيرة إلى حين إجراء عملية التبادل، من دون أن تُفلح المساعي الإسرائيلية وما أرسله الاحتلال من تعزيزيات جوّية، بالإضافة إلى جهود عملائه على الأرض في كشف أيِّ معلوماتٍ، وهذا ما كان يمكن أن يتمّ لولا تنامي القدرات الأمنية والاستخبارية للمقاومة الفلسطينية بدرجةٍ كبيرةٍ.
العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة
خلال الأعوام الـ 13 الأخيرة، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاتٍ متكررة على قطاع غزة، استمرت كلٌّ منها لأيامٍ أو أسابيعَ متواصلة، هذا بالإضافة إلى القصف والاغتيالات والاعتداءات المحدودة.
وقد ركّزت قوات الاحتلال اعتداءاتها خلال هذه السنوات على القطاع المحاصر لسببين رئيسيين:
الأول هو انسحابها منه في العام 2005، وبالتالي عدم وجود مستوطنات إسرائيلية بالقرب من البلدات والمدن الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية، مما جعلها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع كتلةٍ صافيةٍ ومعزولةٍ من "الأعداء".
والثاني هو الاقتتال الداخلي، الفلسطيني – الفلسطيني، بين حركتي "حماس" و"فتح" داخل القطاع في العام 2007، والذي انتهى بسيطرة "حماس" عليه.
كانت الذرائع الإسرائيلية في شن هذه الاعتداءات مختلفة، لكنَّها اتّخذت من ردود المقاومة الفلسطينية على الاعتداءات والاغتيالات الإسرائيلية أسباباً لها، ومن بينها إطلاق صواريخ من القطاع على المستوطنات الإسرائيلية رداً على الاعتداءات، كما في عدوان العام 2008، وردّ المقاومة على اغتيال القيادي في حركة "حماس" أحمد الجعبري في العام 2012، أو خطف إسرائيليين بغرض إجراء عمليات تبادل للأسرى كما في العام 2014.
معركة "سيف القدس"
تتمتع المعركة الأخيرة، التي صمدت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية على امتداد 11 يوماً، في شهر أيار/ مايو الماضي، بأهمّيةٍ خاصّةٍ. فقد جاءت بعد مراكمةِ خبرةٍ كمّيةٍ ونوعيةٍ للمقاومة خلال 4 مواجهات سابقة في فترةٍ قصيرةٍ نسبيّاً، وكذلك بعد زيادةٍ في تسلّحها على صعيد الكمّ قبل النوع.
فجّرت المقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال خلال هذه المعركة عدداً من المفاجآت النوعيّة بشكلٍ تدريجيٍّ، واحدةً تلو الأخرى.
بدأت المفاجآت منذ اليوم الأول مع "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، مع صواريخ الكورنيت المضادة للمدرعات، الموجّهة والدقيقة الإصابة، والتي أوقعت إصاباتٍ قاتلةً بين جنود الاحتلال، ثم أطلقت "كتائب القسّام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، صاروخ "عياش 250" البعيد المدى، الذي يمكن أن يُصيب أهدافاً تبعد 250 كيلومتراً عن نقطة إطلاقه، واستهدفت "القسّام" به مطار رامون العسكري جنوبي فلسطين المحتلة.
هذا بالإضافة إلى المفاجآت الكمّية، إذ قصفت المقاومة المواقع العسكرية والمستوطنات في مختلف المناطق المحتلة بمئات الصواريخ في اليوم، حققت إصاباتٍ مباشرةً وكبّدت حكومة الاحتلال خسائر اقتصادية باهظة تفوق مثيلاتها في أيِّ مجالٍ آخر، فهي نجحت عملياً في إخراج منظومة "القبّة الحديدية" من الخدمة، ومنعت بيعها إلى أيِّ جهةٍ خارجيةٍ بعد فشلها في اعتراض صواريخ المقاومة، ما أسفر عن تعطّل الحياة.
وما فاقم المخاوف الإسرائيلية، ودفع حكومة بنيامين نتنياهو إلى إعلان وقف إطلاق النار، هو تصريح الناطق باسم كتائب "القسّام" أبو عبيدة الذي أعلن فيه عن أن المقاومة جهّزت نفسها "لقصف تل أبيب لستة أشهر بشكلٍ مستمرٍّ".
بالانتقال إلى تعليق الجانب الآخر على وقائع معركة "سيف القدس" والاستنتاجات التي استخلصها منها، يبرز تخوّفٌ وخشيةٌ بالغين من تعاظم قدرات المقاومة الفلسطينية، وتساؤلات تتعلق بقدرة جيش الاحتلال على الصمود على أكثر من جبهة، والمقصود في حال نشوء معركةٍ أخرى على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وهي الجبهة الأوسع والأكثر تجهيزاً وقدرةً على تلقّي الإمدادات.
المراقب العادي يمكنه أن يلاحظ تعاظم قدرات قوى المقاومة منذ بداية الألفية، في مقابل هزائم يمنى بها جيش الاحتلال، الذي أجبر على الاندحار من جنوبي لبنان في العام 2000، ثم من قطاع غزة في 2005، ولم يدخل معركةً بعد ذلك إلا وخرج منها بإقالةٍ لرئيس الحكومة الذي يتمُّ تحميله مسؤولية الفشل، ولجانِ محاسبةٍ تبحث عن المذنبين.