مرشحان ونهجان.. الانتخابات البرازيلية تعيد ضبط السياسة الخارجية للبلاد

بين الرئيس الحالي جايير بولسونارو والرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، من المتوقع أن يكون لنتائج الانتخابات تأثير عميق في السياسة الخارجية لبرازيليا التي عانت من شبه عزلة دولية في الفترة الأخيرة.

  • مرشحان ونهجان.. الانتخابات البرازيلية تعيد ضبط السياسة الخارجية للبلاد
    سيقود لولا بلاده كقوَّة سياسية يسارية مؤثرة في أميركا اللاتينية

عام 2018، انتخب اليميني جايير بولسونارو رئيساً للبرازيل، ومنذ ذلك الحين، شهد الواقع السياسي البرازيلي والسياسة الخارجية البرازيلية سلسلة من التحولات. والآن، مع تنافس جديد في الانتخابات التي تجري غداً، بينه وبين الزعيم العمّالي لويس إيناسو لولا دا سيلفا، ينتظر العالم نتيجة الانتخابات التي سيكون لها تأثير عميق في مكانة البلاد في العالم، وستتحدد على أساسها واجهة المشهد السياسي الجديد، والسياسة الخارجية للبلاد.

منذ مجيئه، غيَّر بولسونارو السياسة الخارجية، وخلق بيئةً من عدم اليقين متسبباً بتغيير الطريقة التي تنظر بها الدول الأخرى إلى البرازيل. اتبع الرئيس، المعجب بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، استراتيجيةً "مناهضةً للعولمة" ومناهضةً للمؤسسات الدولية للبيئة، واستخدم بشكل منهجي الموضوعات الدولية لتعبئة أتباعه.

حاول بولسونارو حصر جزء كبير من علاقاته الخارجية بالولايات المتحدة تحت قيادة ترامب تحديداً. وبالتوازي مع هذا السعي، أهمل جزءاً كبيراً من الدول البارزة، وتهجّم على الجزء الآخر، دافعاً بذلك إلى عزل البرازيل عن القوى الصاعدة.

سجله حافل في مهاجمة بكين بشكل منهجي. حذّر من أنّ "الصين لا تشتري في البرازيل بل تشتري البرازيل"، ثم زار تايوان الطامحة إلى الانفصال عن بكين، إضافةً إلى إعلان عزمه الانفصال عن الحكومات اليسارية البرازيلية السابقة التي كانت "صديقةً للأنظمة الشيوعية".

في مطلع القرن، لم تكن بكين من بين شركاء البرازيل التجاريين الخمسة الرئيسيين، ولكن بعد تسع سنوات فقط، تفوقت الصين على الولايات المتحدة باعتبارها أكبر شريك تجاري للبرازيل، وهو المنصب الذي تشغله الآن في العديد من دول المنطقة، بما في ذلك تشيلي وأوروغواي وبيرو.

ومنذ ذلك الحين، نظرت الجهات الفاعلة الإقليمية عموماً إلى الصين كشريك اقتصادي لا غنى عنه، فضلاً عن كونها حليفاً مفيداً لتحقيق التوازن مع النفوذ الأميركي. وعليه، عمل لولا دا سيلفا، الذي حكم البلاد من عام 2003 إلى عام 2010، على إضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات الثنائية بين الصين والبرازيل، وكان الأهم من ذلك هو المساعدة على تأسيس مجموعة "بريكس" التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في عام 2009. استمر خلفاء لولا من اليسار واليمين على طول مسار مماثل حتى وعد بولسونارو بأخذ العلاقات البرازيلية الصينية إلى مسار جديد في عام 2018.

"فيروس الصين"

بعد تنصيب بولسونارو في كانون الثاني/يناير 2019، أُحبطت آمال بكين في أن يخفف من حدة خطابه المعادي لها، ولأنّه يتشابه وترامب، تبنى بولسونارو موقفا انكارياً من فيروس كورونا، وسعى بنشاط لتقويض تدابير التباعد الاجتماعي ولا يزال، حتى يومنا هذا، أحد رؤساء الدول القلائل الذين يدّعون أنّهم غير ملقحين. أضرّ هذا به بشكل كبير بالبلاد، إذ بلغ عدد الضحايا 684 ألف حالة وفاة، بسبب سوء إدارة الوباء، والتأخر في تسلُّم اللقاحات التي كان يمكن أن تنقذ ما يقارب من نصف الوفيات، وفق ما تبيّن الدراسات.

إضافة إلى ذلك، قلّد بولسونارو استراتيجية ترامب المتمثلة في إلقاء اللوم على الصين في الجائحة، واستخدم مصطلح "فيروس الصين"، ما تسبب بأزمة عميقة بين البلدين. حينها، هاجم القنصل العام للصين في ريو دي جانيرو نجل الرئيس إدواردو بولسونارو الذي سخر من الصين، قائلاً إنّه تعرض "لغسيل دماغ" من قبل الولايات المتحدة. لكن في النهاية، لم تتصاعد الأمور إلى ما هو أبعد من حرب كلامية، إذ تمكنت بكين من تحسين مكانتها بشكل كبير في البرازيل من خلال تزويد البلاد، ومن خلال حكام الولايات تحديداً، باللقاحات، في وقت كانت الولايات المتحدة وأوروبا لا تزالان تعطيان الأولوية لسكانهما.

رحيل ترامب عن البيت الأبيض، في كانون الثاني/يناير 2021، هو الذي أجبر بولسونارو على اتخاذ منعطف براغماتي دائم تجاه بكين. بعد إدراكه أنّ الحقائق الجيوسياسية قد تغيرت، وأنّ البرازيل ستواجه الآن عزلة دبلوماسية شبه كاملة في الغرب، توقفت حكومته إلى حد كبير عن مهاجمة الصين.

بولسونارو.. خسارة الشركاء

مع رحيل ترامب، شكك بولسونارو في شرعية فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020. رأى البيت الأبيض أنّ بولسنارو لا يزال شخصاً غير ناضج سياسياً ومن دون أي مشروع سياسي، فضلاً عن مسؤوليته في الأضرار البيئية التي تُلحق الأذى بالعالم. وكانت قضية مكافحة إزالة الغابات في منطقة الأمازون عام 2019، قضية تحدد سمعة البرازيل العالمية أكثر من أي شيء آخر، لكن بعدما شكك في الإثباتات العلمية وراء تغير المناخ، سجلت حكومته تباطؤاً في مجال الحد بشكل كبير من إزالة أجزاء من غابات الأمازون. وعليه قامت دولاً مثل ألمانيا والنرويج بتعليق المدفوعات المقدمة إلى صندوق الأمازون كرد فعل على موقف حكومة بولسونارو المناهض للبيئة.

ومثلما نُبذ من واشنطن بعد رحيل ترامب، نبذ من أوروبا أيضاً إثر الأزمات التي افتعلها مع دول القارة العجوز. وقد أدى هذا إلى درجة من العزلة الدبلوماسية للبرازيل لم يسبق لها مثيل منذ التحول الديمقراطي في البلاد في أواخر 1980.

خطط بولسونارو للقيام برحلة دولية إلى أوروبا رداً على زيارة منافسه لولا دا سيلفا إلى برلين وباريس ومدريد، حيث تم استقباله كرجل دولة، لكن بولسونارو تمكن من الحصول على دعوات من موسكو وبودابست، اللتين زارهما في أواخر شباط/فبراير 2022. أما محطة بولسونارو الوحيدة في الاتحاد الأوروبي كانت المجر، الدولة شبه المعزولة من قبل التكتل، والتي لا تملك أهميةً اقتصادية أو سياسية تجاه أكبر دولة في أميركا اللاتينية.

ولأنّ الصين كانت أهم شريك تجاري للبرازيل منذ عام 2009، خصوصاً على الصعيد الزراعي، تدخلت كبار الشركات والأعمال الزراعية لحل الأزمة، وعليه ضاعفت بكين استثماراتها في البرازيل خلال العامين الأخيرين، لتصل إلى نحو ستة مليارات دولار العام الماضي، مقارنةً بثلاثة مليارات دولار عام 2018. 

العزلة الدولية، فصلاً عن الحاجة إلى الصين، جعلت بولسونارو يحرص على الحفاظ على مكانة في مجموعة "بريكس". أصبحت جلسات التصوير السنوية مع قادة من الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا الركيزة الأساسية للتقويم الدبلوماسي للرئيس البرازيلي. 

وعليه، اتخذ مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في شباط/فبراير الماضي، موقفاً انتقد فيه العقوبات الغربية على موسكو، كما وامتنع عن التصويت إلى جانب بكين على تعليق عضوية موسكو من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعارضت الحكومة البرازيلية بنشاط المحاولات الغربية لاستبعاد روسيا من مجموعة العشرين.

كذلك، أصبحت أهمية تجمع "بريكس" لمكانة بولسونارو العالمية أكثر وضوحاً مع انتخاب قادة اليسار في بلدان مثل تشيلي وكولومبيا خلال العام الماضي.

أما إقليمياً، ففقد بولسونارو الحظوة بسبب تتبع ترامب، إذ شارك في حصاره على فنزويلا. وتهجم على الرئيس الأرجنتيني ألبرت فرنانديز بعد فوزه بالانتخابات، وهو ما كاد يؤدي إلى القطيعة بين البلدين.

وفي عام 2022، فقدت البرازيل مكانتها كأكبر شريك تجاري للأرجنتين وحلت بدلاً منها الصين. ولأن محيط البرزيل بات يسارياً، سوف يواجه بولسونارو، إذا ما نجح، عزلةً غير مسبوقة أيضاً في محيطه الإقليمي، حيث يحكم اليساريون جميع البلدان تقريباً باستثناء أوروغواي والإكوادور وباراغواي.

لولا.. العودة إلى الشراكة الدولية

يقف الزعيم العمّالي لولا، المنافس الرئيسي لبولسونارو، في صدارة استطلاعات الرأي حالياً، حاصداً نحو 50% من الأصوات، مقابل بولسنارو (30%). ويعتمد لولا على قاعدته الشعبية، وشبكته الدولية الواسعة لإظهار نفسه كرجل دولة متمرس، على عكس نهج بولسونارو.

في العديد من المقابلات مع وسائل الإعلام الدولية، أوضح لولا، السياسي الأكثر شهرة في أميركا اللاتينية، والرجل الذي يمثّل آخر أملٍ لغالبية البرازيليين المتعبين من عبث اليمين المتطرّف، أنّه إذا انتخب سيحول البرازيل مرة أخرى إلى بلد مستعد وقادر على المساهمة في التصدي للتحديات العالمية. وأكد التزامه إعادة السعي لتثبيت دور البرازيل على الساحة الدولية.

ويمثل لولا عودة إلى موقف السياسة الخارجية الأكثر تقليدية للبرازيل مع تركيز أكبر على تعددية الأطراف، وموقف دولي أكثر تعاوناً. 

وعلى النقيض من موقف بولسونارو المعادي لإصلاح البيئة، وعد لولا بإعطاء الأولوية للحد من إزالة غابات الأمازون وحماية الشعوب الأصلية، مشيراً إلى أنّه كان بإمكانه فعل المزيد ضمن المجال البيئي عندما كان رئيساً من عام 2003 إلى عام 2010، وهو ما يعد بإعادة انفتاح العلاقات مع العواصم الأوروبية. 

وبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، أشارت الترجيحات إلى أن تكون إدارة بايدن على استعداد لتعزيز التعاون مع البرازيل في مجال تغير المناخ.

ولكن على الرغم من احتلال هذه المواقف مكانة جدية ومهمة، إلا أن الحقائق الجيوسياسية الحالية، وخصوصاً الصراع الصيني-الأميركي، والحرب الروسية في أوكرانيا، ستنتج عدداً من التحديات على مدى السنوات المقبلة التي سيسعى لمعالجتها بشكل دقيق.

كما هو متوقع، سيقود لولا بلاده كقوَّة سياسية يسارية مؤثرة في أميركا اللاتينية الى الثبات إلى جانب دول "البريكس"، لكن من دون الانقطاع عن بقية العالم. أما التعامل مع واشنطن، فسيكون "على القطعة"، أي خطوةً بخطوة، رافضاً هيمنة الولايات المتحدة على الجزء الجنوبي من أميركا، واعتباره حديقةً خلفيةً لها، تمارس فيها السطو على قرارات الدول. هذا الموقف دائماً ما قرره لولا في فترة حكمه.

كذلك، استطاع لولا مواجهة القوى الكبرى كمدافعٍ أول عن مصالح الدول النامية، واذا ما وصف لولا بأنّه يساري أقل راديكالية من هوغو تشافيز، إلا أنّه طيلة عهده قدَّم دعماً مستمراً للرئيس الفنزويلي، كما دعم الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس. 

يريد لولا مع وصوله إلى السلطة أن يكون للبرازيل نفوذها في القارة، لذا بدأ منذ بداية حملاته بالإعلان عن سعيه لتكثيف الشراكات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع دول المحيطة به، معيداً التذكير بالجملة التي لطالما كررها سابقاً: "من مصلحة البرازيل أن يكون جيرانها أقوياء غير ضعفاء ومفتقرين بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية". 

ستشهد البرازيل، التي وصفت قبل عقد من الزمان بأنّها قوة ناشئة ذات طموحات عالمية، انتخابات رئاسية يمثل المرشحان الرئيسيان فيها وجهتي نظر عالميتين متباعدتين بشدة. لا شك أنّ العزلة التي أحدثها اليمين المتطرف في السنين الأخيرة سيكون لها تداعيات غير قصيرة الأجل، ما يجعل مهمة لولا في إعادة ضبط السياسة الخارجية سريعاً أمراً صعباً، خصوصاً مع ما يشهده العالم من صراعات كبرى حالياً.

اخترنا لك