ماذا يعني أن تعلن فرنسا "اقتصاد الحرب"؟
عجّلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا دخول فرنسا في حالة "اقتصاد الحرب"، وهذا يهدف بالمقام الأول إلى السماح للصناعة الدفاعية بزيادة وتيرة إنتاجها وقدراتها بصورةٍ سريعة.
دخلت فرنسا "اقتصاد الحرب"، وهو ما يتطلب، بحسب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إعادة تنظيم القطاع الصناعي أكثر مما يدفع نحو "ثورة مالية"، فما هو هذا النوع من الاقتصاد، وما هي العوائق التي تواجه فرنسا لتحقيقه؟
نماذج ما بعد الحرب العالمية الثانية
يقوم مصطلح "اقتصاد الحرب" على نموذجٍ اقتصادي يتم إرساؤه في المجتمع من أجل التعامل مع النزاعات المسلحة بشكلٍ عام أو مع الحروب بشكلٍ خاص، ويفيد الاستدلال على هذه النماذج إلى أمورٍ كثيرة، على غرار تغيّر الإنتاجية.
وعند الحديث عن "اقتصاد الحرب"، تركّز الحكومة جميع الجهود الاقتصادية، وقد تطلق تعبئة عامة للمجتمع لدعم المجهود الحربي، لذلك فإنّه من الطبيعي تغيير ما تنتجه المصانع أو التركيز على الإنتاج الزراعي أو فرض ضرائب جديدة.
وقد تختار بعض الحكومات إصدار سندات خاصة للدولة يمكن للمواطنين بموجبها تقديم الأموال إلى الدولة مباشرةً مقابل فائدة صغيرة يمكن استردادها عند انتهاء الحرب.
على سبيل المثال، مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، تخوّف المسؤولون الأميركيون من مستقبل قاتم ينتظر الاقتصاد الأميركي، كما وتوقّع كثيرون انهيار العديد من الشركات والبنوك وارتفاعاً غير مسبوق في نسب البطالة تزامناً مع عودة الجنود من ساحات القتال.
لكن قبل ذلك، في أواخر عام 1940، لقّب الرئيس فرانكلن روزفلت، الولايات المتحدة بـ"ترسانة الدول الديمقراطية". ودعا كبرى مصانع البلاد إلى قبول التحدي لإنقاذ العالم من قوى المحور (روما - برلين - طوكيو) وفي إثر ذلك، وجّه روزفلت كبرى مصانع السيارات الأميركية للتخلي عن بروتوكولاتها لتبدأ بدلاً من ذلك في صناعة الطائرات والدبابات والمحركات والذخيرة لدعم مجهودات الحرب.
وفي أوج عطائها ما بين أواخر 1943 ومطلع 1944، بلغ الإنتاج الحربي الأميركي ذروته، إذ أنتجت هذه المصانع كميات أسلحة تجاوزت تلك التي أنتجتها مصانع حلفائها مجتمعة.
ومن نتائج اتباع استراتيجية "اقتصاد الحرب" في الولايات المتحدة الأميركية تراجع الكساد الكبير، إذ انخفضت نسبة البطالة في عام 1939 إلى 14.6% بعد أن كانت بلغت 25%، وبحلول عام 1944 تراجعت البطالة إلى معدلاتٍ قياسية تُقدّر بنحو 1.2% فقط.
وأثناء سنوات الحرب، ارتفعت معدلات الادخار لدى الأميركيين إذ اتجه المواطن العادي حينها لادخار نحو 21% من مداخيله مقارنة بـ3% فقط أثناء فترة العشرينيات.
ومع نهاية النزاع العالمي، فضّل الأميركيون العودة إلى الروتين السابق والتمتع بحياتهم، فاتجهوا إلى إنفاق المبالغ التي ادخروها على مدار سنوات لشراء العديد من وسائل الرفاهية والسلع كالثياب والأحذية والمعدات المنزلية والسيارات. ومع تزايد الطلب والإنفاق، عمدت المؤسسات الصناعية الأميركية إلى تلبية حاجيات السوق عن طريق زيادة الإنتاج واستقطاب مزيدٍ من العمال.
فرنسا أمام عوائق "اقتصاد الحرب"
"لم يعد بإمكاننا التعامل بالقواعد نفسها كما كان الحال عليه قبل سنة، لذلك يجب تكييف الوسائل مع التهديدات" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
تُقبلُ فرنسا على مرحلة سياسية واقتصادية جديدة تحاول من خلالها حماية نفسها من تداعيات حروبٍ وأزماتٍ اقتصادية تعتبر هي بالأساس من أجّجها وعمل على افتعالها كالحرب في أوكرانيا، لكن تبقى الأمور ضمن نطاقها النظري لا سيما أن هناك اختلافات عديدة تطال الوضع الاقتصادي العالمي، وطبيعة النظام الدولي، عما كان عليه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا الأمر دفع الرئيس الفرنسي إلى اتباع تكتيك "الخطف إلى الأمام" وإعلان أنّ بلاده ستتبع "اقتصاد الحرب" على خلفية الاحتياجات العسكرية المتزايدة، وهذا معناه أنّها ستولي اهتماماً في الدرجة الأولى للتطورات الجيوسياسية التي تحدث في الجوار الأوكراني، والتي كانت فرنسا جزءاً منها.
ويستهدف ماكرون من خلال إعلانه إعادة تقويم قانون البرمجة العسكرية، وهو قانون وضعته باريس للفترة بين 2019 إلى 2025، وذلك بهدف رفع ميزانية الدفاع الفرنسية إلى 50 مليار يورو في 2025.
وبحسب مشروع قانون البرمجة العسكرية الذي أعدته وزارة الجيوش الفرنسية، فإنّ موازنة الدفاع الفرنسية التي بلغت قيمتها 34.2 مليار يورو في العام 2018 ستتم زيادتها سنوياً حتى العام 2022 بمقدار 1.7 مليار يورو، وبعدها أي اعتباراً من العام 2023 وحتى 2025 ستصبح قيمة هذه الزيادة 3 مليارات يورو في العام.
وهذه الزيادة المطّردة في الإنفاق العسكري والتي ستكلف الخزينة حتى العام 2023 ما مجموعه 198 مليار يورو تمثل قطيعة مع سياسة التقشف المالي التي فرضت طوال عقدٍ من الزمن على الجيش، ما انعكس عليه خفضاً في العديد وتقادماً في العتاد، قبل أن تعود الأموال لتتدفق إلى خزينة وزارة الدفاع إثر الاعتداءات المسلحة في 2015.
مصدرٌ مقرّب من وزيرة الجيوش فلورانس بارلي، قال إنّ "قوانين البرمجة العسكرية السابقة كانت تطلب من الجيش أن يبذل جهوداً (لعصر النفقات). هذه المرّة نطلب من الأمة أن تبذل جهداً من أجل الجيش".
وكذلك في مجال العدد، تعتزم فرنسا معالجة النقص الذي تُعاني منه القوات المسلحة بسبب عمليات إلغاء الوظائف التي استمرت بين 2005 و2015 وتم خلالها إلغاء 60 ألف وظيفة، باستحداث 6 آلاف وظيفة مدنية وعسكرية بحلول العام 2015 نصفها أي 3 آلاف وظيفة بحلول العام 2023. والوظائف الجديدة سيتم استحداثها خصوصاً لتعزيز قدرات البلاد في مجالي الدفاع السيبراني (1500 وظيفة جديدة) والاستخبارات (1500 وظيفة جديدة).
ويقدّر كاتب تقرير الكثافة العالية للاحتياجات، أنّ إعادة تشكيل المخزون الفرنسي من الذخائر يكلّف بين "3 و6 مليار يورو"، بالإضافة إلى 3 مليارات تمّ رصدها أساساً ضمن قانون البرمجة العسكرية، ويؤكد أنه يجب احتساب حوالى 200 ألف يورو للصاروخ المضاد للدبابات من نوع "أم أم بي/أكيرون"، و132 ألف يورو لصاروخ ميسترال المضاد للطائرات، بحسب تقديرات المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية.
ويطرح كاتب التقرير عائقاً أمام خطّة ماكرون وهو أنّه، إلى جانب الكلفة المالية، يوجد مشكلة صناعية، فما يطلبه ماكرون يحتاج وقتاً لتأمين بعض المكونات والمواد الأولية، فمن الممكن أن يستغرق الأمر سنتين إلى ثلاث سنوات لصنع ذخيرة تسمى "معقدة" مثل صاروخ.
بدوره، يكشف مدير مصنع الصواريخ "MBDA" إريك بيرانجي عائقاً آخر، فيقول: إنّ "إنتاج الأسلحة محظور بموجب القانون، لذلك لا يمكننا إنتاج الأسلحة مسبقاً وتخزينها إذا لم يكن هناك عقد قائم".
إعلان فرنسا "اقتصاد الحرب" ما كان ليحدث لولا سعي الغرب إلى مواجهة روسيا وإضعافها في أوكرانيا. فبعد عقودٍ من الأمن والرخاء يستنزف الأوروبيون مواردهم وطاقاتهم عسكرياً كما وأنهم يتخذون إجراءات اقتصادية استثنائية، وهذا الأمر ليس حكراً على فرنسا وحدها فألمانيا وضعت خطة لإنفاق 100 مليار يورو على إعادة تسليح جيشها.
وتأتي خطّة ماكرون في ظلّ ارتفاعٍ غير مسبوق في أسعار البضائع والمواد اليومية، إذ بات على المستهلكين التضحية بأنواع معيّنة من حاجاتهم اليومية. وبحسب دراسة فرنسية أجريت بالتعاون مع شركة "NielsenIQ"يقول نحو 63% من نسبة المستطلَعين الفرنسيين والذين بلغ عددهم 6000 شخص إنّ قدرتهم الشرائية تراجعت ما أدى إلى انخفاض مبيعات منتجات "المتعة"، مثل المشروبات الروحية أو الشوكولاتة، حيث يميلون الآن إلى اختيار المنتجات منخفضة الجودة، كما أنّ 50% منهم يحاولون الحد من نفقات الوقود وكذلك الملابس.
ووقع الاقتصاد الفرنسي في السنوات الأخيرة في مأزقٍ بسبب عجز مزدوج في حساباته الخارجية والعامة. وعلى الرغم من التباطؤ في النشاط، سجّلت التجارة الخارجية اختلالاً قياسياً بلغ 31 مليار يورو في الربع الأول و 100 مليار خلال اثني عشر شهراً متداولاً.
ونصف التدهور ناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة ونصف الزيادة البالغة 20% في واردات السلع الصناعية والمنتجات الزراعية، فضلاً عن فقدان حصة سوق التصدير، فهل سيستطيع ماكرون تدبير أمور الأموال التي يحتاجها "اقتصاد الحرب" وسط الضغوطات والتضخّم.
إيران.. تحويل التهديدات إلى فرص
أعلنت فرنسا اليوم "اقتصاد الحرب" بسبب حربٍ شاركت في إشعالها في أوكرانيا، ولكن ماذا عن الدول التي فُرضت عليها الحروب بمختلف أشكالها، الاقتصادية والعسكرية، من قبل الولايات المتحدة الأميركية والغرب، ومنها إيران؟
في عام 2019، وصف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب العقوبات على إيران بأنّها الأقسى من نوعها تجاه أي دولة. لم تقف إيران مكتوفة الأيدي أمام العقوبات بل كان قرار المواجهة حاضراً، من خلال سعيها المستمرّ لإنشاء اقتصاد مبني على ناتج محلي إجمالي متين مبنيّ على تطوير القطاعات الاقتصادية المنتجة والبنيوية، وتوسيع نشاطها الاقتصادي مع دول الشرق من خلال عقد العديد من الاتفاقيات.
ومن أبرزها: الاتفاقية الإيرانية الصينية لمدة 25 عاماً، والتي تشمل تبادل النشاط والاستثمار الاقتصاديّ في عدة مجالات، واتفاقيّة بين إيران ودول أوراسيا تتعلَّق بالتعاون في مجال إنشاء منطقة تجارة حرة بين دول المنظمة وإيران، و اتفاقيّة إيران مع منظمة شنغهاي التي تتضمن 8 دول من منطقة أوراسيا، على رأسها روسيا والصين، واتفاقية بين إيران وفنزويلا في مجالات عدّة لمدّة 20 عاماً، وكذلك اتفاقيات مع العراق وتركيا.
كذلك، أطلقت إيران مفهوم "الاقتصاد المقاوم" وعملت على تثبيته من خلال إعطاء أهمية واسعة لتطوير القطاعات المنتجة من زراعة وصناعة، مع التركيز بشكلٍ كبير على تطوير تكنولوجيا المعلومات، لتكون دافعاً قوياً لتطوير القطاعات المنتجة، وهو بالفعل ما حصل.
وعلى الرغم من شدّة العقوبات، فإنَّ الاقتصاد الإيراني تمكَّن من زيادة الإنتاج المحلي الّذي ارتفع في العام الماضي بنسبة 0.8%، ومن المتوقّع أن يستمرّ بالارتفاع في الفترة المقبلة إلى حوالى 1.2%، ما يؤكّد أنَّ إيران بدأت تتعافى، على الرغم من العقوبات الأميركية والغربية.