فرنسا: كيف ساهمت سياسة ماكرون في تأزيم الوضع اقتصادياً واجتماعياً؟
على غرار دول أوروبية عديدة، تعيش فرنسا أزمات اقتصادية متلاحقة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، ناهيك عن السياسة التي يتبعها الرئيس الفرنسي والتي زادت المشهد الفرنسي تعقيداً.
عواصف سياسية واجتماعية، تستعدّ لها فرنسا، مع توالي الأزمات الاقتصادية، وارتفاع مستوى التضخم إلى مستويات قياسية لم تشهدها البلاد منذ عام 1985، على غرار بلدان أوروبية كثيرة تضرّرت من ارتفاع أسعار الطاقة العالمية على خلفية الأزمة الأوكرانية.
وبدلاً من أن تتخذ حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التدابير اللازمة لامتصاص الغضب الشعبي، عبر رفع الحد الأدنى للأجور، والسيطرة على ارتفاع الأسعار، خرج الرئيس الفرنسي "ليبشّر" الفرنسيين برفع سن التقاعد وهو ما صبّ "الزيت على النار".
هذا الأمر دفع باتحاد العمال للحديث عن "أم المعارك" رداً على ما وصفه الرئيس الفرنسي "بأمّ الإصلاحات"، وما ترافق مع دعوة للاحتجاج خلال الأسابيع المقبلة دعت إليها النقابات العمالية في 19 من الشهر الجاري، لتتبعها بعد 4 أيام تظاهرات لأصحاب المخابز، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الخبز "الباغيت الفرنسي". والأهم من ذلك عودة تظاهرات "السترات الصفر" التي هزّت فرنسا خلال أكثر من عام في الفترة التي سبقت جائحة كورونا.
رفع سن التقاعد يشعل فرنسا
يقول الرئيس الفرنسي إنّ "هذه السنة ستكون سنة إصلاح للنظام التقاعدي"، إلا أنّ هذا المشروع لا يلقى شعبية كبيرة ويعتبره كثيرون من معسكر الرئيس أيضاً، غير مناسب في الوضع الراهن.
محاولات رئيسة الوزراء إليزابيت بورن لتهدئة النقابات عبر رفع سنّ التقاعد إلى 64 بدلاً من 65 كما كان مقرّراً في البداية، يبدو أنّها لم يكن لها أيّ تأثير لا على المواطنين ولا على النقابات، التي رصّت الصفوف وأعدّت العدّة للاعتراض على هذا المشروع. وهو ما يعني أنّ فرنسا مقبلة على شهر ساخن، وفق تعبير جان-لوك ميلانشون، مؤسس حزب "فرنسا الأبية".
وتهدف الحكومة الفرنسية من رفع سن التقاعد إلى خفض عجزها المالي إلى أقلّ من 3% بحلول 2027، بعد تقرير نشره مجلس توجيه نظام التقاعد الفرنسي في أيلول/ سبتمبر 2022، أشار إلى أنّ صندوق التقاعد سيشكو من عجز مالي في السنوات الـ25 المقبلة. إذ يتوقع أن ينهار نظام التقاعد بشكل طفيف وتدريجي بين عامي 2023 و2027 قبل أن يصبح سلبياً لغاية 2032 ثمّ يستقر ويستعيد توازنه من جديد.
وعليه، يقول الباحث في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك فيصل جلول للميادين نت إنّ هذا التعديل "سيؤثر أكثر على العمال العاديين الذين يتقاضون أجوراً منخفضة وليس على الكوادر". فالعاطلون من العمل الذين تتجاوز أعمارهم 60 عاماً سيمرون بظروف اجتماعية ومالية عصيبة قبل أن يتقاضوا معاشاتهم التقاعدية.
اقرأ أيضاً: فرنسا: ماذا تضمّن مشروع الحكومة لإصلاح نظام التقاعد المثير للجدل؟
ويؤخذ على هذه السياسة أنّها تهدف إلى تخفيض الضرائب على الشركات، فالأمر لا يتعلق بتمويل نظام التقاعد أكثر مما هو اقتصاد النفقات لتمويل سياسة تخفيض الضرائب على الشركات، وفق ما يقول ميكائيل زمور الأستاذ الجامعي في (باريس 1) .
أزمة الطاقة العالمية تحرق "الباغيت" الفرنسي
بالتوازي مع "أزمة قانون التقاعد"، تحدّ إضافي يخيّم على المشهد الفرنسي، وقد يكون أكثر حدّة من سابقاته كونه يتعلق باللقمة الأساسية للفرنسيين "الخبز" (الباغيت)، ورمز رفاهيتهم وتراثهم.
ورغم تعهد ماكرون قبل أيام، أمام مجموعةٍ من الخبازين وطهاة المعجنات المجتمعين في قصر "الإليزيه"، بأنّ "الحكومة الفرنسية ستقدّم مساعدات إضافية لهم"، والوعود التي قدمتها رئيسة الوزراء الفرنسية، بتوفير خدمة دفع فواتير الكهرباء الشتوية على أقساط للخبازين، وكذلك تأخير دفع ضرائبهم حتى وقت لاحق من العام. إلا أنّها، لم تستطع امتصاص غضب أصحاب المخابز، فمع "ارتفاع فاتورة الطاقة التي يتمّ ضربها بعشرة أو اثني عشر ضعفاً، لن يكون أي شيء كاف"، يقول رئيس الاتحاد الوطني لشركات المخبوزات والحلويات في فرنسا، وعليه كانت الدعوة للتظاهر في 23 من الشهر الجاري، في بلد تنتشر فيه مقولة "لا حياة من دون خبز".
اقرأ أيضاً: فرنسا: ارتفاع جديد في الأسعار يلوح في الأفق وتداعيات اجتماعية كبيرة
ويرجع الباحث في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك فيصل جلول في حديثه للميادين نت، السبب في ذلك، إلى عاملين أساسيين تسببا في الأزمة الراهنة، وهما "جائحة كورونا وما خلّفته من آثار سلبية على الاقتصاد الفرنسي ولا سيّما القطاعات الصغيرة، والحرب الأوكرانية، التي شملت تداعياتها أوروبا برمتها، وليس فرنسا فحسب".
ويرى جلول أنّ ما تعيشه فرنسا اليوم، هو "أزمة شبه بنيوية، ناتجة عمّا يشهده السوق من ارتفاع للأسعار، وعجز الحكومة عن اتخاذ تدابير جادة في حلّ الأزمة عبر رفع الحد الأدنى للأجور"، مشيراً في هذا السياق إلى "عجز القطاع الخاص عن معالجة المشكلة أو تحملّها بمفرده".
"ثورة الخبز"
"إذا لم تجدوا الخبز يمكنكم أكل البسكويت"، هي واحدة من أشهر العبارات التاريخية، التي التصقت بالملكة الفرنسية ماري أنطوانيت، على مدار عقود وقرون، أثناء ردّها على مسؤولين كانوا يخبرونها عن معاناة آلاف الفرنسيين من الفقر، والتي وصلت إلى حد عدم قدرتهم على امتلاك الخبز عام 1789.
ومن دون الدخول في الجدال القائم حول صحّة المقولة أو عدمها، لا بُد من العودة إلى التاريخ لفهم العلاقة "التكاملية" بين الخبز وما شهدته فرنسا من احتجاجات وثورات.
على مر التاريخ الفرنسي، أدى النقص الحاد في محاصيل القمح دوراً مهماً في اندلاع الاحتجاجات، ولعلّ أبرزها تلك التي عرفتها مدينة ليون سنة 1529، وعرفت بأحداث التمرد الكبير، والتي اندلعت عقب ارتفاع أسعار القمح بشكل لافت للانتباه، عقب موسم حصاد سيئ، حيث عمد المحتجون حينها إلى مهاجمة منازل الأثرياء لسرقة محتوياتها، واتجهوا إلى تخريب المخازن للاستيلاء على محتوياتها من القمح.
ورغم أنّ الثورة الفرنسية (1789) اندلعت لأسباب مختلفة، إلا أنّ أزمة تراجع كميات الخبز وارتفاع أسعاره، زادت من وتيرة الاحتجاجات. لتؤكّد المقولة التاريخية "يمكنك أن تتحكم في الجماهير الغاضبة لكنك لن تسيطر على الجماهير الجائعة". وهو ما يطرح التساؤل عمّا إذا كانت فرنسا مقبلة على ثورات واحتجاجات مماثلة؟
السياسة الماكرونيّة وعلاقتها بالأزمة الحالية
شهدت فرنسا في عهد الرئيس ماكرون الكثير من المطبّات والأزمات الاقتصادية، تمثّلت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات (نسبة التضخم بلغت 6.2% في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي)، ناهيك عن الإضرابات التي شهدتها عدّة قطاعات، والنقص الحاد في كوادر الأطباء والممرضين في قطاع الصحة، وقطاع التعليم. كما لا تزال معدلات البطالة مرتفعة عند 15.6%، رغم ما شهدته من انخفاض.
إضافة إلى ذلك، يعتبر العبء الضريبي في فرنسا من بين أعلى المعدلات في العالم المتقدم. وتقف نسبة الضريبة الفرنسية إلى الناتج المحلي الإجمالي عند 45.4%، وهي ثاني أعلى نسبة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
"وللأزمة أسباب لا حصر لها. ويأتي في محورها يأس الناس الذين خُدِعوا لفترة طويلة لدرجة أنهم لم يعودوا يصدقون أي شيء يقوله قادتهم، حتى لو قالوا الحقيقة"، حسبما ما ورد في تقرير لصحيفة ذا تليغراف البريطانية. وعليه، "فصور ماكرون مع قادة العالم لم تمنع تراجع شعبيته في فرنسا، تقول صحيفة "بوليتيكو" الفرنسية.
اقرأ أيضاً: مؤسسة "ستاندرد أند بورز" تخفض نظرتها المستقبلية لفرنسا إلى "سلبية"
وحول دور السياسة الماكرونيّة في تدهور الوضع الاقتصادي الفرنسي، يقول جلول إنّ "السياسة الخارجية والداخلية لماكرون أدّت دوراً كبيراً في تفاقم الأزمة الاقتصادية، فموقفه من الحرب الأوكرانية المعادي لروسيا، واستبدال مصادر الطاقة الروسية الرخيصة بأخرى مرتفعة، أثّرت جميعها على الاقتصاد الفرنسي".
ويتابع جلول أنّ "السياسة الداخلية لماكرون خلال ولايتيه الأولى والراهنة، تقوم على الدفاع عن مصالح الأوليغارشية (الأغنياء ورجال الأعمال)"، مشيراً إلى أنّ حوالى 80% من إجراءاته تأتي لخدمة هذه الفئة، وهو ما سيؤثر سلباً على القطاعات الضعيفة، والمستخدمين والعمال. ناهيك عن أنّ "سياسته في المعالجة تقوم على الاستدانة ما سيؤدي إلى مزيد من التضخم".
وأشار جلول في هذا السياق، إلى التقاعس الأوروبي في الوقوف إلى جانب فرنسا، قائلاً: "ليس هناك تضامن بين الدول الأوروبية، فكل دولة تضع في أولوياتها أوضاعها الداخلية".
وفي سؤال عمّا إذا كانت ستؤدي هذه الاحتجاجات إلى انتفاضة شعبية، يقول جلول للميادين، إن "هذا الخيار محتمل، ولكنّه غير مؤكد مع غياب المؤشرات التي تدل عليه، فالمنظّمون للاحتجاجات هم فئات نقابية ومهنية وغير شعبية".