عن "سيف القدس" و"وحدة الساحات".. كيف تُستنزف "إسرائيل"؟
التطورات الفلسطينية الأخيرة أظهرت أنّ المقاومة ماضية في فرض معادلات الردع على الاحتلال الإسرائيلي، الذي يخشى "وحدة الساحات".
تُمثّل جولات التصعيد الأخيرة من جانب محور المقاومة اختباراً لثبات المعادلات، التي كرّستها فصائل المقاومة منذ ما بعد معركة "سيف القدس"، ومن أهمها ترابط جبهات الساحة الفلسطينية ووحدتها، من غزّة إلى القدس والضفة الغربية، وصولاً إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وليس انتهاءً بسوريا ولبنان وإيران واليمن والعراق.
ظنّ الاحتلال الإسرائيلي، خلال عدوانه الأخير على الأقصى وغزّة، أنّه سيُنفّذ عملية خاطفة ذات ردود محدودة، هدفها تفكيك جبهة المقاومة الفلسطينية، لكنّه تفاجأ بتثبيت معادلة "وحدة الساحات"، وأتته الردود من الجبهات الداخلية والخارجية.
المقاومة تَصون معادلات "سيف القدس"
على رغم مرور نحو عامين على انطلاق شرارة معركة "سيف القدس"، في شهر أيار/مايو 2021، فإنّ نتائجها لا تزال حاضرة بقوّة على الأرض، وتجسَّدت في مخاوف الاحتلال بشأن التعامل مع المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك.
ومع انتهاء معركة "سيف القدس"، التي واجهت فيها المقاومة قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها ضد قطاع غزّة، رسّخت المقاومة قواعد اشتباك جديدة في مواجهة قوات الاحتلال، وفرضت مُعادلات مغايرة للأعوام السابقة، إذ إنها هي التي باغتت بإطلاق الصواريخ نصرةً لحيّ الشيخ جراح والمسجد الأقصى المبارك آنذاك.
وأبرز معادلة شكَّلتها معركة "سيف القدس" هي الردع المتبادّل بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل"، انطلاقاً من أنّ المقاومة تمتلك قوَّة هائلة في القدرات العسكرية.
والمعادلة الثانية تتمثل بأنّ المواجهات السابقة في قطاع غزّة كانت تنتهي بتسويات، غالباً ما تنقلب لمصلحة الاحتلال، لكن هذه المرّة انتهت بالتزام العدو الاستجابة لأهداف المقاومة.
وتقوم المعادلة الثالثة على أنّ المواجهات السابقة كانت من أجل الردع في شقٍّ مُحدد. أمّا في "سيف القدس"، فغلب الطابع الاستراتيجي العام، الذي جعل القدس هدفاً دفاعياً رئيساً يُقاتَلُ من أجله، وهو ما يُعرف بمفهوم "المعركة الشاملة".
وبعد معركة "سيف القدس"، برز إلى واجهة الأحداث مصطلح "وحدة الساحات"، والذي اتفقت عليه فصائل المقاومة. وترجمة هذا المصطلح ظهرت، على نحو واضح، في أرض الواقع، خلال الأيام الأخيرة، وذلك عبر إطلاق الصواريخ من قطاع غزة وجنوبي لبنان وسوريا، مع ارتفاع وتيرة عمليات المقاومة في الضفة الغربية، واندلاع مواجهات في عدّة مناطق في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48.
جولات التصعيد الأخيرة من جانب محور المقاومة كانت اختباراً لثبات المعادلات التي كرّستها الفصائل الفلسطينية منذ ما بعد معركة "سيف القدس"، ومن أهمها ترابط ووحدة جبهات الساحة الفلسطينية من غزّة إلى القدس والضفة الغربية وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وأيضاً المحيط الإقليمي.
اقرأ أيضاً: بين الردع والمواجهة.. كيف يثبّت حلف القدس وحدة ساحاته؟
ويأتي الحديث عن "وحدة الساحات" بالتزامن مع التوتر الذي شهدته مجدداً ساحات المسجد الأقصى في شهر رمضان، واقتحام شرطة الاحتلال للمصلى القبلي، وإخراج المعتكفين منه، واعتقالهم عقب الاعتداء عليهم بالضرب المبرّح، وإطلاق الغاز عليهم طوالَ أيامٍ مُتتالية. فما الأمرُ الذي يخشاه الاحتلال من "وحدة الساحات"؟
"وحدة الساحات" حرب استنزاف لـ "إسرائيل"
استهداف المستوطنات الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة من جنوبي لبنان، ومن سوريا أيضاً، شكّل هاجساً لدى المؤسستين العسكرية والأمنية من إمكان الذهاب إلى مواجهةٍ مُتشعبة، تشمل الفصائل الفلسطينية في غزة، وحزب الله في لبنان، وسوريا، بالإضافة إلى تصاعد العمليات في الضفة الغربية.
هذا الاستهداف يأتي في ظلّ انكشافٍ إسرائيلي، أمنياً وعسكرياً، بسبب التشرذم الداخلي، رفضاً لخطة حكومة نتنياهو من أجل التعديلات القضائية والتشكيلات الوزارية.
الأمر اللافت في تعاطي الإعلام الإسرائيلي هو الحديث عن تجنّب اندلاع تصعيد واسع مع حزب الله، على إثر صليهِ الصواريخَ التي انطلقت من جنوبي لبنان.
الصحافي الإسرائيلي يوني بن مناحم رأى أنّ مُهاجمة "إسرائيل" بالصواريخ، خلال عيد الفصح من قطاع غزة وجنوبي لبنان، ليست سوى المرحلة الأولى في حرب الاستنزاف من جانب "محور المقاومة" بقيادة إيران، عبر استخدام استراتيجية "وحدة الساحات".
ويَعُدّ أنّ محوّر المقاومة قام بتقييم وضع "إسرائيل"، التي ضعفت بسبب موجة الاحتجاجات، وأنّ "الجيش" الإسرائيلي لا يستطيع القتال في عدّة جبهات، في الوقت نفسه، والتعامل بنجاح مع هجوم بعشرات الآلاف من الصواريخ، مصحوبةً بموجة عمليات في الضفة الغربية.
الهاجس والرعب الإسرائيليان من "وحدة ساحات" المقاومة، ترجمهما المستشرق الإسرائيلي، مُردخاي كيدار، الذي نشر مقالاً بعنوان "يوم القيامة"، يحاكي هجوماً مشتركاً ضد "إسرائيل" من سوريا والعراق ولبنان واليمن وغزة والضفة الغربية.
الأمر الذي يخشاه الاحتلال الآن أن تكسب استراتيجية "سيف القدس" مزيداً من الساحات، وأن تؤدي إلى تأكُّل الردع لديه، وبالتالي تعاظم قوّة المقاومة.
كيف عمّقت المقاومة "وحدة الساحات"؟
بنت "إسرائيل" سياستها على استراتيجية تفكيك المجتمع الفلسطيني، وفصل غزّة عن الضفة، وفصل القدس عن المناطق المحتلة عام 48، وفلسطين عن محيطها وعمقها، عربياً وإسلامياً.
اعتمدت "إسرائيل" سياسة زرع الشقاق بين فصائل المقاومة الفلسطينية، وإبعاد حاضنتها الشعبية عنها، وتقسيم الساحات، لكنّ المفاجأة كانت أنّ معركة "سيف القدس" جاءت لتنسف كل الإجراءات الإسرائيلية، وتكرّس واقعاً ومعادلة جديدين، تكرّسا عبر "تلاحم الجبهات"، الذي كان النواة الأولى للانتصار الفلسطيني قبل نحو عامين.
في تلك المعركة جرى ترابط ساحات العمل الفلسطيني، إذ فشلت "إسرائيل" في تحقيق أحد أبرز أهدافها بعد المعركة، وهو الفصل فيما بينها، واعترف العدو بهذا الفشل بعد موجةِ العمليات التي اجتاحت الضفة الغربية والقدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48.
أثبتت المقاومة في غزّة، في دفاعها عن الضفة الغربية، أنّ سياسة الاحتلال القائمة عبر فصل غزة عن الضفة لن تنجح، لأنّ المقاومة عدّت فلسطين ساحة واحدة، وهذه بمثابة عقيدة قتالية، ونهج تسير فيه من دون تراجع.
وفي خضمّ تلك الأحداث، أطلق الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قبل نحو عامين، معادلة "الاعتداء على القدس يعني حرباً إقليمية"، وحينها جاء أول الغيث من اليمن، عبر تبني قائد أنصار الله، السيد عبد الملك الحوثي، للمعادلة الجديدة.
"إسرائيل" اليوم مقتنعة بأنّ القوة العسكرية الهائلة لا تؤهلها لخوض حرب في عدّة جبهات، فهي تخسر ما تبقّى لديها من قوّة الردع. لذلك، شاهدنا، قبل أيام، كيفية تحميل حماس مسؤولية إطلاق الصواريخ من لبنان، و"تبرئة" حزب الله، كي تُعفي "إسرائيل" نفسها من مواجهة حزب الله، على حدّ تقديرها.
و"تبرئة" حزب الله جاءت سعياً من "إسرائيل" لتفكيك الساحات، وهذا ما ظهر من سعيها لإخراج حزب الله من المواجهة، لأنّ هذا الأمر يُزعجها فعلياً، ويُشكّل خطراً عليها، ويُنهي الهامش الكبير الممنوح لها في استهداف المنطقة واستثناء مناطق أخرى.
إنّ الأحداث التي جرت مؤخراً، أظهرت أكثر فأكثر تأكّل الردع الإسرائيلي، باعتراف المسؤولين العسكريين. وفي هذا السياق، يقول عضو الكنيست ووزير الأمن السابق، أفيغدور ليبرمان، إنّ "الرد الإسرائيلي كان نكتة مضحكة، والردع في مقابل نصر الله تأكّل كلياً".
لذلك، فإنّ "سيف القدس" و"وحدة الساحات" باتا مصدر القوة الأساسي في ردع الاحتلال الإسرائيلي، وفي تحقيق الانتصارات، ويتوسعان كلما دعت الحاجة. فالاحتلال أصبح يخشى الدخول في معركةٍ أخرى، كون التكلفة التي ستقع عليه ستكون مرتفعة.