عن الطاقة كـ"سلاح" دفاعي.. مسار الغاز الروسي من سيبيريا إلى واشنطن!
تبرز تساؤلات عديدة حول قدرة الدول الأوروبية على الاستغناء عن الغاز الروسي كعامل سياسي ضاغطٍ عليها، والتفلت من تحكّم موسكو في الإمدادات.
من يمتلك السيادة على مصادر الطاقة الموجودة لديه، يتحكم في قراره السياسي، وفي قرار دول أخرى أيضاً. هذا ما تُظهره العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة، إذ باتت الطاقة، ولا سيما في مجالَي الغاز والنفط، سلاحاً جيوسياسياً تستخدمه القوى العالمية، إما دفاعاً عن نفسها، وإما هجوماً ضد خصومها.
أبرز ما يدور الحديث عنه في الآونة الأخيرة، هو قضية الغاز الروسي المتجه نحو أوروبا، والاتهامات الغربية لروسيا بابتزاز دول الاتحاد الأوروبي سياسياً استناداً إلى ذلك. ولعلّ الأزمة الأخيرة بين بيلاروسيا ودول أوروبية حول المهاجرين، وما سبقها من عقوبات أوروبية على مينسك، والأزمة الأوكرانية المستمرة، إضافةً إلى أزمة ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا، تعطي لمحة عن الغاز الروسي وأهميته بالنسبة إلى دول الاتحاد وتأثيره أيضاً.
وفي هذا المجال أيضاً، تبرز تساؤلات عديدة عن قدرة الدول الأوروبية على الاستغناء عن الغاز الروسي كعامل سياسي ضاغطٍ عليها، والتفلّت من تحكّم موسكو في الإمدادات.
الغاز الروسي.. من سيبيريا إلى أوروبا
في أيلول/سبتمبر الماضي، تحدث رئيس مجلس إدارة شركة "غازبروم" الروسية، أليكسي ميللر، عن مشاريع الشركة الروسية. ميللر ذكر أن احتياطيات الغاز في روسيا هي الأكبر في العالم، وستكفي لأكثر من 100 عام، وأن "غازبروم" استثمرت فقط "ربع احتياطي حقلين كبيرين للغاز في شرق سيبيريا".
تعتبر الدول الأوروبية أكثر المناطق اعتماداً على الغاز الذي يُستخدم لتزويدها بخُمس طاقتها، لكنَّ معظم إمداداتها يأتي من خارج الاتحاد الأوروبي، وعلى وجه الخصوص روسيا. وتقول صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية إنَّ معظم صادرات الغاز الروسي تدفّق إلى أوروبا بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، وذلك عبر البنية التحتية الموجودة في خطوط الأنابيب في أوكرانيا، لكن في العقود الـ3 الماضية، ولأسباب سياسية، سعت شركة "غازبروم" الحكومية إلى "تنويع شبكة الغاز، وتقليل اعتمادها على جارتها أوكرانيا، ومد خطوط أنابيب جديدة".
في العام 1997، بدأ العمل على خط أنابيب الغاز عبر "يامال - أوروبا"، الذي يمر عبر أراضي 4 دول، هي: روسيا وبيلاروسا وبولندا وألمانيا. ومنذ العام 2003، قامت روسيا بتصدير الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب "بلو ستريم" تحت البحر الأسود. وأوجدت روسيا طريقاً رئيسياً آخرَ بعيداً عن أوكرانيا في العام 2011 عبر بحر البلطيق، من خلال خط أنابيب "نورد ستريم 1". وفي العام 2020، بدأ تشغيل خط أنابيب في البحر الأسود، هو "تورك ستريم"، بالتعاون مع تركيا. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت شركة "غازبروم" الروسية أنَّ بناء خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي يمر تحت مياه بحر البلطيق أيضاً ويربط روسيا بألمانيا، "أُنجز بالكامل".
ومؤخراً، أبرمت شركة "غازبروم" الروسية عقداً مع هنغاريا لتزويدها بالغاز حتى العام 2036، بحيث سيتم توريد الغاز الروسي إلى هنغاريا من دون المرور بالأراضي الأوكرانية، وهو ما وصفته كييف بأنه "ضربة"، فيما علّقت هنغاريا على الأمر بالقول إن "مسار التوريدات يحدده من يمتلك الغاز".. وهنا أصل القضية ومكامن قوة روسيا في استخدام غازها، ولا سيما أن أوكرانيا التي يحكمها نظام معادٍ لروسيا بدأت تخشى على دورها كبلد عبور للغاز الروسي إلى أوروبا، وما يحققه لها ذلك من منافع اقتصادية وسياسية.
لماذا تعتمد أوروبا على الغاز الروسي؟
وفرت شركة "غازبروم" الروسية وحدها ما يقارب ثلث إجمالي الغاز المستهلك في أوروبا في العام 2020، ومن المرجح أن "تصبح مصدراً أكثر أهمية على المدى القصير، إذ تقلص القارة الإنتاج المحلي"، وفق "بلومبيرغ"، فيما تشكل الإمدادات الخارجية، ومعظمها من روسيا والنرويج والجزائر، حوالى 80% من الغاز الذي يستهلكه الاتحاد الأوروبي، لكن اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي بشكلٍ أكبر يعود بشكلٍ أساسي إلى عوائق لوجستية تحول دون قدرة بعض الدول الأوروبية على استخراج الغاز.
على سبيل المثال، إن حقل غاز "غرونينجن" الهولندي الذي تم اكتشافه في العام 1959، وهو الأكبر في أوروبا، جعل هولندا أحد المنتجين الرئيسيين في الاتحاد الأوروبي، لكن عملية استخراج احتياطيات الحقل أدت بشكل متزايد إلى حدوث زلازل. ودمرت هزة بلغت قوتها 3.6 درجات في العام 2012 آلاف المنازل، ما أدى إلى قرار تقييد الإنتاج. وسيتم إغلاق الحقل في العام المقبل.
أمّا بريطانيا التي كانت تصدّر الغاز خلال العقود الماضية، فإن احتياطاتها في بحر الشمال بدأت بالتضاؤل، إذ إن حوالى نصف الطلب على الغاز في المملكة المتحدة بات يتم عن طريق الواردات. ويأتي معظم غاز بريطانيا عبر خطوط أنابيب من النرويج، وهي أكبر منتج في القارة حالياً بعد روسيا، فيما تعاني حكومتها ضغوطات لوقف استخراج الغاز أو تخفيفه، لما في ذلك من أضرار بيئية، ولا سيما بعد منحها تراخيص تنقيب في القطب الشمالي.
مشروع "مارشال" للغاز غير ناجح
في السنوات الأخيرة، كانت روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي، وبتفاوتٍ كبيرٍ عن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، ووفقاً لبيانات الاتحاد الأوروبي، بلغ إجمالي واردات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي 46% في العام 2019، تليها النرويج بنسبة 29%، وبنسبٍ أقل من الجزائر وليبيا، فيما بلغ إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من "الغاز الطبيعي المسال"* ( LNG) حوالى 17%، لكن تلك النسبة توزعت بين عدة دول تراتبياً على الشكل التالي: قطر، وروسيا، وأميركا، ونيجيريا.
أما في إحصائيات العام 2020، فقد كانت روسيا أكبر مورد للغاز إلى أوروبا، وبلغت حصتها 43% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي. وفي النصف الأول من العام 2021، احتلت روسيا ما يقارب 44% من واردات الغاز الأوروبية، فيما ارتفعت واردات "الغاز الطبيعي المسال" قليلاً، ولكنها بقيت دون 23%، وتوزعت أيضاً بين أميركا وروسيا ودولٍ أخرى.
تلك الأرقام تشير إلى أنّ القارة الأوروبية تعتمد بنسبٍ قليلة على "الغاز الطبيعي المسال" بشكلٍ عامٍ، وإن استوردته، فروسيا ونيجيريا تنافسان أميركا في هذا المجال، بحيث تبقى حصة الواردات الأميركية من مجمل النسب أقل من 10%، وفي بعض الأحيان أقل من 5%.
وهناك عوامل عديدة تمنع الولايات المتحدة من منافسة الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا، أبرزها السعر، فالغاز الروسي أرخص من الغاز الطبيعي المسال الذي تورّده أميركا إلى القارة الأوروبية، ولا سيّما أن كلفة الغاز الروسي الذي يتمّ نقله عبر الأنابيب إلى أوروبا مباشرة أقل بكثير من الغاز الأميركي المسال الذي يتم نقله على متن السفن ويحتاج إلى موانئ خاصة. كما أن كلفة استخراجه وتحويله إلى غاز مسال، ومن ثم توريده، لا تتناسب مع الأسعار المحلية الأوروبية، ويمكن أن تعود بخسائر على الشركات الأميركية.
لذا، تكثفت المحاولات الأميركية في العقدين الماضيين من أجل إيجاد بدائل من الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا. ومع عدم تمكّن الغاز الأميركي من منافسة الغاز الروسي، سواء من جهة الأسعار أو من جهة العوامل اللوجستية، عمدت واشنطن إلى دعم مشاريع بديلة من ذلك، من خلال خطوط أنابيب موازية. والهدف بطبيعة الحال سياسي، يتعلق برغبة أميركية في إبقاء الساحة الأوروبية بعيدة عن النفوذ الروسي من باب الطاقة.. فكيف تُرجم هذا الأمر؟
"التحرر من العبودية"
بداية المحاولات الأميركية كانت مع خط غاز "نابوكو" (تيمناً باسم مقطوعة موسيقية كلاسيكية أوروبية "أوبرا نابوكو" حول التحرر من العبودية)، الذي أعلن عنه في العام 2002 بدعمٍ من الولايات المتحدة ودول في الاتحاد الأوروبي (دعم مالي وسياسي). ينطلق "نابوكو" من 3 دول في آسيا الوسطى، هي كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، ثم يتوجه غرباً نحو بحر قزوين إلى أذربيجان، ومن ثم إلى جورجيا، فتركيا، ويتابع مساره إلى بلغاريا ورومانيا وهنغاريا والنمسا، حيث محطات التجميع والتوزيع باتجاه أوروبا.
روسيا التي وصفت خط "نابوكو" بأنه "مشروع معادٍ" لها، تحركت سريعاً من خلال إبرام عقود بيع وشراء الغاز في آسيا الوسطى، فقامت بشراء نسبة كبيرة من إنتاج دول تركمانستان وأوزباكستان من الغاز، فيما لمحت أذربيجان إلى عدم وجود فائض من الغاز يمكن ضخه في "نابوكو" بعد توقيعها اتفاقاً مشابهاً مع روسيا. وتركيا التي كانت تخوض مفاوضات شاقة مع الأوروبيين من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حاولت استخدام "نابوكو" كورقة "ابتزاز".
وهكذا، لم يبقَ من دول بحر قزوين سوى إيران الخاضعة لعقوبات. وعلى هذا المنوال، تمكنت موسكو من الالتفاف على المشروع المدعوم أميركياً لـ"تحرير" أوروبا من "عبودية" الغاز الروسي، إذ أدت الجغرافيا ومصالح دول بحر قزوين دوراً حاسماً في هذا الأمر، مع وصول روسيا إلى الغاز قبل ضخه في الأنابيب!
2009.. أميركا تدفع قطر إلى الواجهة
في العام 2009، دعمت الولايات المتحدة مقترحاً قطرياً لإنشاء خط أنابيب يمتد من قطر عبر السعودية والأردن إلى سوريا، ومن ثم إلى تركيا، فأوروبا. وبناءً على مشاورات روسية – سورية، رفض الرئيس السوري بشار الأسد التوقيع على الخطة. وبدلاً من ذلك، دعمت روسيا خطاً يمر من إيران عبر العراق إلى سوريا إلى البحر المتوسّط.
وليس من قبيل الصدفة أن تندلع الأزمة السورية بالحدة التي ظهرت عليها، مباشرةً بعد أشهرٍ من رفض الرئيس السوري خط الغاز القطري. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن تكون الدول المهتمة بإنشاء خط الغاز القطري داعمة للمجموعات المسلحة ولإسقاط النظام السوري (قطر وتركيا والولايات المتحدة)، في حين أن الدول الرافضة له ساندت الدولة السورية ودعمتها (إيران وروسيا).
وجاءت الحرب على سوريا، من حيث التحالفات المُشَكَّلة والتوقيت، كتعبيرٍ عن الصراع على الطاقة الذي سعت من خلاله الولايات المتحدة لإيجاد بدائل من الغاز الروسي المتجه نحو أوروبا، فروسيا التي دعمت الخط الذي يمر من إيران وجدت في الأخيرة حليفاً لها في هذا المجال. أما أميركا، فقد سعت عبر دعم الفوضى في سوريا إلى فرض مخططها. وفي هذا المجال، تذكر صحيفة "ميدل إيست آي" أن "الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين والخليجيين، بما في ذلك قطر، قرروا تنظيم تمرد ضد الأسد، لضمان أن تصبح أحلامهم الكاذبة حقيقة". كما أشارت الصحيفة إلى أن "الفكرة تم طرحها مرة أخرى بعد القصف الأميركي لسوريا في نيسان/أبريل 2018، وهذا كان دليلاً آخر على رغبة واشنطن في إطاحة الأسد وتمكين أوروبا من تنويع اعتمادها على الغاز بعيداً عن روسيا".
وليست المرة الأولى التي تتصرف فيها الولايات المتحدة بهذه الطريقة العدائية ضد سوريا لتمرير خططٍ تتعلق بالطاقة؛ فالانقلاب الذي دعمته المخابرات الأميركية في سوريا في العام 1949 كان لتمرير اتفاقية الغاز العربي "تابلاين" المدعومة أميركياً، فقد وقعت الحكومة السعودية اتفاقاً مع شركة "التابلاين" في العام 1947، من أجل مد أنابيب لنقل النفط السعودي من الخليج إلى البحر المتوسط، مروراً بلبنان وسوريا، لكن الرئيس السوري حينها، شكري القوتلي، رفض المشروع في بادئ الأمر كموقفٍ، رداً على الدعم الأميركي لقيام "إسرائيل"، كما رفضه البرلمان السوري.
وبعد مفاوضات عديدة بين السعودية، وخلفها الولايات المتحدة، وسوريا، بقي البرلمان السوري مدعوماً من الرئيس القوتلي رافضاً لخطة مد أنابيب "التابلاين"، ليقوم بعدها حسني الزعيم، مدعوماً من المخابرات الأميركية، بانقلابٍ عسكري على شكري القوتلي. وما إن وصل الزعيم إلى الحكم في سوريا، حتى حل البرلمان السوري، ووافق على خط الأنابيب خلال 5 أشهر.
وبالعودة إلى الحرب في سوريا وعليها، فإن الخيار الاستراتيجي الذي تبنته موسكو بدعم دمشق يتعلق في جوانب مهمة منه بـ"أمن الطاقة". أهمية التدخل الروسي في سوريا دعماً لحكومة الأخيرة تتعلق باستقرار الحكم في سوريا، ومنع وصول نظام حاكم يسمح بمد خط أنابيب من قطر، مروراً بالسعودية والأردن وسوريا، وصولاً إلى تركيا، ومن هناك إلى أوروبا، وهو ما يهدد مصالح موسكو بالنسبة إلى تصدير الغاز إلى أوروبا.
ويمثل صمود الحكومة السورية في وجه الدعم الغربي والخليجي للحرب عليها فشلاً أميركياً في إيجاد بدائل للغاز الروسي المتجه نحو القارة الأوروبية. وهنا، إن الأهداف الاقتصادية والسياسية التي كانت عاملاً من عوامل الحرب لا تزال عائقاً أمام واشنطن وحلفائها في إحداث تغييرٍ على صعيد خطوط الغاز... وهذا تحديداً ما يربط حقول سيبيريا بالعاصمة السورية دمشق.
"إيست ميد" و"s400"
في 3 كانون الثاني/يناير، وقعت قبرص واليونان و"إسرائيل" الاتفاق الخاصّ بإنشاء خطّ أنابيب شرق المتوسّط "إيست ميد"، لمدّ أوروبّا بالغاز الطبيعيّ، وهو مبني على نقل الغاز من الحقول التي تحتلها "إسرائيل" في شرق البحر المتوسط إلى أوروبا. وسيكون "الخط"، وفق ما هو مقرر، قادراً على نقل ما يصل إلى 11 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، من احتياطيات حوض شرق المتوسط البحرية، قبالة قبرص وفلسطين المحتلة، إلى اليونان وإيطاليا ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا، عبر خطوط أنابيب الغاز اليونانية "بوزيدون" و"أي جي بي"، والتي من المفترض أن تمر من جزيرة كريت قبل وصولها إلى اليونان.
دعم الاتحاد الأوروبي، ولا يزال، هذا المشروع (دعم مالي وسياسي)، فيما وجدت الولايات المتحدة في "إيست ميد" ضالتها من أجل إيجاد بدائل من الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا، إذ قامت بدعمه سياسياً من خلال تشريعات أقرها الكونغرس الأميركي؛ ففي نهاية العام 2019، وبالتزامن مع الكباش الأوروبي-التركي حول الغاز في شرق المتوسط، أقر المشرعون الأميركيون تشريعاً "يساعد في تعزيز مواقع الولايات المتحدة في سوق الغاز شرق المتوسط، وإضعاف مواقع روسيا وتركيا في المنطقة"، وفق ما ذكرته صحيفة "ذا هيل" الأميركية.
تلك التشريعات الداعمة لقبرص واليونان و"إسرائيل"، والتي رافقها تحركات سياسية أميركية في المنطقة، هدفت إلى "تقويض الأحادية الروسية" ومواجهة "النفوذ والتدخل الروسيين في شرق المتوسط". ووافق مجلس الشيوخ الأميركي ضمن هذا المشروع على قانون يفرض عقوبات على كل من "TurkStream" و"Nord Stream 2"، كجزء من الإجراءات المصممة "لردع العدوان الروسي".
وفي الوقت الذي كانت فيه أنقرة وموسكو تُبرمان تفاهمات بشأن عملية التعاون والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وتفاهمات عسكرية تتعلق بصواريخ الدفاع الجوي "s400"، كجزء من التقارب العملي رداً على الضغوط الأميركية، هناك عوائق عديدة ظهرت، ولا تزال حتى الآن، تحول دون استكمال مشروع "تورك ميد".
من الناحية السياسية، هناك عدم توافق وخلاف حاد كاد أن يصل إلى حرب عسكرية بين تركيا والدول الموقعة على المشروع والداعمة لها، ولا سيما فرنسا وأميركا، إذ تقف تركيا عائقاً أمام وصول الأنابيب إلى جزيرة كريت، نتيجة إبرامها اتفاقية مع ليبيا تحدد من خلالها منطقتها الاقتصادية البحرية، وتقف حاجزاً أمام بناء مشروع "إيست ميد".
ومن ناحية الجدوى الاقتصادية، إن كلفة الخط، إضافة إلى كلفة الاستخراج والنقل، سترفع من الأسعار، وهو ما يجعلها أسعاراً غير منافسة أمام الغاز الروسي، ولن تكون عامل جذبٍ للمشترين. وتقول صحيفة "فورين بوليسي" الأميركية في هذا السياق إن "الإرادة السياسية والدعم من الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة ليسا كافيين للتغلب على قيود الأسعار"، مشيرةً إلى أن "الغاز الطبيعي، بعد كل شيء، يتم شراؤه وبيعه من قبل الشركات التجارية... هذه الشركات ومستثمروها يكرهون المخاطرة، ويعطون الأولوية للأرباح قبل كل شيء"، ما يعني، وفق الصحيفة، أنه "من المرجح أن تتلاشى توقعات إسرائيل التي يتم تضخيمها كثيراً في مواجهة الحقائق القاسية للأسواق والأسعار العالمية".
وهناك عائق لوجستي آخر هو عدم اقتناع إيطاليا بجدوى مشروع "إيست ميد"، وهي إحدى الدول الأساسية في عملية التوزيع؛ فوزير الخارجية الإيطالي السابق لويجي دي مايو قال خلال مقابلة مع وكالة "الأناضول" التركية في 18 كانون الثاني/يناير العام الماضي، أي بعد أيام من توقيع اتفاق المشروع، إن "خط أنابيب غاز شرق المتوسط إيست ميد لا يعد خياراً على المديين المتوسط والبعيد من حيث الكلفة والتشييد".
الغاز.. سلاح دفاع روسي
اعتمدت السياسة الغربية خلال العقود الماضية على استراتيجية السيطرة على مصادر الطاقة والتحكم فيها، من الاستخراج والإنتاج، وصولاً إلى الإمداد، إما بطريقة مباشرة وإما من خلال دعم أنظمة موالية لها. هذه السياسة كانت المدماك الأساسي للهيمنة الغربية، وكانت أيضاً محور الصراع على الساحة الدولية، من الشرق الأوسط إلى شمالي أفريقيا بشكلٍ أساسي. لذا، إن النظرة الأوروبية - الأميركية إلى مصادر الغاز الروسي تنطلق من كونها "غازاً سيادياً" تمتلك موسكو القدرة على حمايته والدفاع عنه إنتاجاً وإمداداً، في الوقت الذي فشل الغرب في إحداث أي تغيير أو تأثير في هذا الملف أو الضغط على روسيا بشأنه.
لا شك في أن الدول الأوروبية، ونتيجة كونها مكبلة في العديد من المواقف السياسية، منزعجة من اعتمادها على الغاز الروسي، وهي في حال وجدت بديلاً يضمن لها مصالحها الاقتصادية، ستذهب باتجاهه، وهذا ما يثبته دعم الاتحاد الأوروبي لمشاريع أميركية بديلة ذُكِرت آنفاً، بحيث ستكون هذه الدول أكثر قدرة على مواجهة ما تراه "نفوذاً" روسياً في القارة وخارجها، وستكون قادرة على فرض المزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية على موسكو.
بناءً عليه، إن "الغاز الروسي"، بما يمثله وما يفرضه في النظام الدولي، يظهر كسلاحٍ تدافع فيه روسيا عن مصالحها وأمنها أمام السياسات الأوروبية المعادية، والتاريخية بطبيعة الحال، فالمشهد كان سيكون مختلفاً، من أوكرانيا إلى بيلاروسيا والبحر الأسود وغيرها من الجبهات، لو كانت أوروبا قادرة على الاستغناء عن "غاز سيبيريا"، فيما تتحرك الدول الأوروبية تحت مقولة "الحاجة إلى الغاز قذرة"!
وبين هذا وذاك، لا تزال المحاولات الأميركية في إقناع الدول الأوروبية بالبديل عن الغاز الروسي متأرجحة بين خلافات أوروبية داخلية تمنع السير بها، وصعوبات وعوائق سياسية ولوجستية. وفي الحالتين، تطوِّع موسكو الاختلال في العلاقات الدولية لمصلحتها، وتستغل الثغرات التي تتركها أميركا خلفها من آسيا الوسطى إلى القوقاز وشرق المتوسط، فيما المصالح والأولويات في الساحة الدولية باتت تحدد وفق الجغرافيا الحيوية، لا وفق ما يريده الكونغرس الأميركي.
والعجز الأميركي عن فرض بدائل لا يتعلق فقط بالأسواق، بل بتراجع قدرة واشنطن على إحداث تغيرات في مجال الطاقة تلائم مصالحها. وهكذا، إن أنابيب الغاز الروسي المنطلقة من سيبيريا تغذّي السوق الأوروبية كمسار سياسي - اقتصادي، وتستهدف نفوذ واشنطن وأحاديتها كمسار استراتيجي.
*الغاز الطبيعي المسال هو سائل صافٍ، عديم اللون، وغير سام، يتشكّل عند تبريد الغاز الطبيعي بـ-162 درجة مئوية (-260 درجة فهرنهايت). تعمل عملية التبريد على تقليص حجم الغاز 600 مرة، ما يجعل تخزينه وشحنه أسهل وأكثر أماناً. وعندما يصل الغاز الطبيعي المسال إلى وجهته، يتم تحويله مرة أخرى إلى الحالة الغازية في محطات إعادة تحويل.