طوكيو تتبنى استراتيجية واشنطن: دفع ثمن استعداء بكين من أمنها واقتصادها
بعد إقرار الحكومة اليابانية مراجعة جذرية لسياستها الدفاعية، هل ستدفع الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها إلى الاتكال عليها في مواجهة الصين؟
أقرت الحكومة اليابانية مراجعة جذرية لسياستها الدفاعية، في محاولة لما تصفه بالتصدي لـ"النفوذ العسكري الصيني"، الذي تعدّه طوكيو "تحدياً استراتيجياً غير مسبوق" لأمن الأرخبيل.
هذه المراجعة الجذرية وصفها رئيس الحكومة الياباني بأنها "ستدافع عن الأمة والشعب" في مواجهة ما سمّاه "بنقطة تحول في التاريخ"، بينما تعهد مواصلة شرح السياسة الدفاعية لليابان للدول المجاورة لها.
خطة طوكيو، وفق "أسوشيتد برس"، تشير إلى أكبر حشد عسكري ياباني منذ الحرب العالمية الثانية. وبحسب الأرقام، "تبلغ قيمة الخطة 320 مليار دولار لشراء صواريخ قادرة على ضرب الصين، وتهيئتها لصراع مستمر".
كما تدرس اليابان شراء ما يصل إلى 500 صاروخ "كروز" أميركي الصنع من طراز "توماهوك" بحلول السنة المالية المنتهية في آذار/مارس 2028، مع تسريعها الاستعدادات لتحسين قدرات الهجوم المضاد"، وفق صحيفة "يوميوري". كما تدرس أيضاً نشر صواريخ فرط صوتية (تفوق سرعة الصوت عدة مرات) بحلول عام 2030 لتعزيز الردع، وفق صحيفة "نيكي" .
كما ستكون هذه الخطة، التي لم يكن من الممكن تصورها في اليابان، ثالث أكبر إنفاق عسكري في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، على مدى 5 أعوام.
وستضاعف الخطة النفقات الدفاعية إلى نحو 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي على مدى خمسة أعوام، متجاوزة حد الإنفاق البالغ 1٪، والذي فرضته منذ عام 1976.
أيضاً، وصفت هذه السياسة الموقف العسكري الصيني الذي يزداد قوةً بأنّه "مصدر قلق كبير لليابان والأسرة الدولية". لكنّ الحكومة اليابانية لم تفصّل طبيعة هذه التهديدات الصينية الأخيرة عليها بصورة خاصة، علماً بأنّ النظرة اليابانية تبدلت وتغيرت عن عام 2006 حين وقّعت مع الصين بياناً مشتركاً بشأن "التعزيز الشامل لعلاقة المنفعة المتبادلة القائمة على المصالح الاستراتيجية المشتركة".
وحينها، لفت البيان أيضاً إلى أنّ العلاقات اليابانية الصينية تقوم على "علاقة من المنفعة المتبادلة، والقائمة على المصالح الاستراتيجية المشتركة". ويُعَدّ هذا البيان واحدةً من 4 وثائق أساسية، تمّ توقيعها بين اليابان والصين، وأصبح إطاراً للعلاقات اليابانية الصينية.
الأكثر من ذلك، أن الخطة الجديدة تناقض استراتيجية الأمن القومي اليابانية الأولى في عام 2013، والتي جاء فيها أنّ "العلاقات المستقرة بين اليابان والصين عامل أساس للسلام والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ"، الأمر الذي يشي بأن الموقف الياباني المستجد يرتبط بـ"مخاوف" لا علاقة لها بطوكيو، باعتبار أن تطورات العقد الماضي لم تحمل أي تهديد صيني يُذكَر ضد اليابان.. فما دور واشنطن؟
القرار الياباني: استراتيجية أميركية
تعتقد الولايات المتحدة أنّ التعامل مع قوة الصين الصاعدة هو أحد أهدافها العسكرية الرئيسة. ففي شهر تشرين الأول/أكتوبر، حذّرت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، من أنّ الصين "تعمل على تقويض التحالفات الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، وعلى استخدام جيشها المتنامي في إكراه الجيران وتهديدهم. وبالتالي، فإنها تمثّل تهديداً للوطن الأميركي"، وفق تعبيرها.
الصياغة نفسها اعتمدتها اليابان خلال إعلانها تراجع سياستها الدفاعية، واصفةً بكين بالتحدي الاستراتيجي، وهو ما يُظهر بوضوح تركيز مسوّدات استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة، على تعزيز العلاقات العسكرية بالولايات المتحدة.
بعد هذا الإعلان مباشرة، أكّد البيت الأبيض أنّ السياسة الدفاعية الجديدة، التي أعلنتها اليابان، ستسمح بـ"التعزيز والتحديث" للتحالف العسكري بين طوكيو وواشنطن.
وقال مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، إنّ "هدف اليابان، المتمثل بزيادة استثماراتها الدفاعية بصورة كبيرة، سيعزز التحالف الأميركي الياباني، ويحدّثه".
التناغم بين البلدين، سياسياً وعسكرياً، ظهر بصورة كبيرة هذا العام. فمطلع هذا العام، قال السفير الياباني في الولايات المتحدة الأميركية لصحيفة "بوليتيكو" الأميركية، إنّ "بلاده منفتحة على نشر صواريخ أميركية نووية متوسطة المدى، كان يُحظَر نشرها في السابق، لكن في انتظار نتائج مراجعة السياسة الدفاعية اليابانية".
تزامن تصريح السفير الياباني مع موافقة اليابان على دفع أكثر من 9 مليارات دولار إلى الولايات المتحدة، كميزانية استضافة القوات الأميركية في البلاد على مدى الأعوام الخمسة المقبلة، ابتداءً من شهر نيسان/أبريل 2022.
اقرأ أيضاً: سكان أوكيناوا اليابانية يرفضون الوجود العسكري الأميركي في الجزيرة
وتحدثت وسائل إعلام يابانية عن تمركز نحو 50 ألف جندي أميركي في اليابان، بموجب معاهدة أمنية ثنائية، وتدفع طوكيو في مقابل ذلك ما يشار إليه في اليابان باسم "أوموياري يوسان"، أو الميزانية المعتبرة. وذكرت هيئة الإذاعة اليابانية العامة أنّ "إنفاق اليابان على القوات الأميركية، خلال الأعوام الخمسة المقبلة، يقدَّر بـ 1.055 تريليون ين (نحو 9.1 مليارات دولار)، الأمر الذي يعني زيادة سنوية تبلغ نحو 88 مليون دولار".
آخر هذه المشاحنات العسكرية، تصريحُ وزير الدفاع الأسترالي، ريتشارد مارلس، منذ أسبوع، بحضور نظيره الأميركي، لويد أوستن، قائلاً: "نحن ذاهبون إلى اليابان نهاية الأسبوع، وسندعوها إلى المشاركة في مزيد من التدريبات مع أستراليا والولايات المتحدة".
بالطبع، تضاف إلى ذلك مشاركة اليابان في "الحوار الأمني الرباعي" عام 2021، والذي أطلقت عليه تسمية "الناتو الآسيوي"، والهادف إلى "احتواء النمو الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ".
لكن، إلى جانب النفوذ العسكري الأميركي في اليابان، فإن لغة طوكيو الجديدة تجاه بكين يمكن رصدها في استراتيجية واشنطن الدفاعية الأخيرة، والتي صنّفت بموجبها بكين "أكبرَ خطر على الأمن الأميركي"، ودعت "إلى بذل الجهود المكثفة من أجل بناء القدرات العسكرية، والتي من شأنها أن تردع الصين في العقود المقبلة".
يبقى أن مفهوم الخطر، الذي تراه الولايات المتحدة في الصين، يكمن في قدرة الأخيرة على مواجهة نفوذ واشنطن، والدفاع عن مصالحها، وفرض قوتها الاقتصادية. وهذا ما يفسّر الاستراتيجية الأميركية. لكن ما هو غير واضح، هو الخطر الصيني الذي تشعر به اليابان، في الوقت الذي كانت الصين، ولا تزال، ترسل إشارات إيجابية نحو محيطها، تدعو إلى تحصين الدول المحيطة بها من التدخلات الخارجية، ولاسيما الأميركية.
هل فعلاً الصين تشكل تهديداً لليابان؟
الصين سعت، بصورة دائمة، لتحذير اليابان، ودعوتها إلى أن "تتوقف عن اتباع الولايات المتحدة في التشهير وتضخيم ما يسمى "التهديد العسكري الصيني"، لأن ذلك "تصرف غير مسؤول للغاية".
وبعد نشر وئاثق الدفاع الجديدة، قال المتحدث باسم السفارة الصينية، في بيان، إنّ "قول مثل هذه الأشياء في الوثائق يشوّه الحقائق بشدة، وينتهك المبادئ والروح للوثائق السياسية الأربع الصينية - اليابانية، ويضخّم بصورة تعسفية التهديد الصيني، ويثير التوتر والمواجهة الإقليميين".
وأشار المتحدث إلى أنّ "اليابان لديها تاريخ من الانحراف عن النزعة العسكرية وارتكاب العدوان والجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي تسبب بكارثة للمنطقة والعالم".
من جهته، قال مدير معهد دراسات شمالي شرقي آسيا، في أكاديمية العلوم الاجتماعية في مقاطعة هيلونغجيانغ، دا تشيغانغ، لصحيفة "غلوبال تايمز"، إنّ لهذه التغيرات تأثيراً في العلاقات بين الصين واليابان، بحيث ستميل استراتيجية اليابان مع الصين أكثر نحو الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من خلال تصنيف الصين على أنها "تحدٍّ"، وسيتم تطوير العلاقات الثنائية بنبرة المواجهة، وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة.
ولفت إلى أنّ "تغيير السياسة الحالية سيكون له تأثير في المنطقة بأكملها، بحيث سيتعين على عدد من الدول زيادة إنفاقها العسكري، الأمر الذي يؤدي إلى سباق تسلح جديد في الشمال الشرقي".
وعلى رغم محاولة طوكيو إثارة غضب بكين في الأعوام الأخيرة، من خلال التعبير عن مخاوفها بشأن "الإجراءات البحرية الصينية، وحقوق الإنسان في هونغ كونغ وشينجيانغ، والاستقرار في مضيق تايوان"، فإن الصين بقيت تعتمد أسلوب الدبلوماسية في خطاباتها، على عكس ما تفعله الولايات المتحدة بصورة عامة، وحلفاؤها على نحو خاص.
اقرأ أيضاً: خيارات اليابان التسليحية أمام الصين وكوريا الشمالية
هل يدفع حلفاء الولايات المتحدة في آسيا الثمن؟
هذا التحول في السياسة اليابانية يدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى وضع اليابان في مواجهة مباشرة مع الصين، لا تريدها بكين، ولا يمكن لطوكيو تحملها.
وقد يؤدي هذا الأمر إلى تحمل اليابان التكلفة الأكبر في تلك المواجهة، كما حدث مع الأوروبيين، في إطار حرب روسيا مع الأطلسي في أوكرانيا، إذ أعربوا عن استيائهم من الولايات المتحدة، وقالوا إنّ "الدولة الأكثر استفادة من هذه الحرب هي الولايات المتحدة".
بالنسبة إلى قارة آسيا، تحدثت مجلة "فورين بولسي"، منذ أيام، في مقال لها، عن أنّ المسؤولين الأميركيين يريدون من الدول الآسيوية مساعدتها على كبح صعود الصين من خلال حجب الدعم المادي والتعاون، أو، بشكل أفضل، من خلال الضغط بنشاط على التوسع الصيني.
في المقابل، تريد أغلبية دول المحيط الهادئ، من فيتنام إلى الفلبين، الاستمرار في تجارتها القوية مع الصين، أحد أكبر شركائها، مع تلقي الحماية الأمنية، الصريحة أو غير ذلك، والتوازن الإقليمي، من الولايات المتحدة.
لكن، وفق الصحيفة، هناك ثلاثة عوامل يمكن أن تجعل الدول الآسيوية تتراجع عن تفضيل الولايات المتحدة لموقف "أكثر عدوانية تجاه الصين".
أولاً: الصين قوية اقتصادياً، لمدة 13 عاماً متواصلة، وكانت الشريك التجاري الأول لرابطة دول جنوبي شرقي آسيا (ASEAN)، من خلال مبادرة الحزام والطريق
ثانياً: استثمرت بكين مليارات الدولارات في البنية التحتية والتصنيع في بلدان المنطقة.
ثالثاً: تستورد الصين سلعاً ومنتوجات بمليارات الدولارات. ففي عام 2020 وحده، كسبت كل من اليابان وكوريا الجنوبية أكثر من 130 مليار دولار من الصادرات إلى الصين.
إذاً، بالنسبة إلى اليابان، الدولة التي يحدها البحر من جميع الجهات، فإن دفعها نحو تشديد موقفها تجاه الصين، وضعها ضمن إطار الخطرين الأمني والعسكري، بالإضافة إلى مخاطر استراتيجية كبيرة، ليس فقط لأن الصين هي أكبر قوة بحرية في العالم، بل لأن المجال الحيوي الياباني يعتمد، بصورة كبيرة، على الوصول إلى الممرات المائية المشتركة مع الصين، من أجل التجارة واستيراد الموارد الحيوية، بينما تعتمد الولايات المتحدة عليها من أجل إزعاج بكين!
اقرأ أيضاً: انكماش الاقتصاد الياباني بشكل غير متوقع للمرة الأولى خلال عام