شراكة "الظهر إلى الظهر" بين روسيا والصين
من الواضح ان العلاقات الروسية الصينية، وتحت تأثير الضغط الغربي على البلدين، تتحول من "شراكة استراتيجية" غير ملزمة كثيراً، إلى حالة جديدة من التعاون، ترتسم فيه أكثر فأكثر ملامح التحالف العسكري الفعلي، على الرغم من أنه لم يحصل على صبغة قانونية.
عُقدت القمة الروسية الصينية الثانية هذا العام، كنظيرتها السابقة التي عُقدت في 28 حزيران/يونيو، في شكل مؤتمر عبر الفيديو. قبل 6 أشهر، تزامنت القمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ مع الذكرى الـ20 لتوقيع المعاهدة الروسية الصينية لحسن الجوار والصداقة والتعاون.
أما الآن، فيضع الرئيسان خطاً تحت إنجازات الأشهر الأخيرة، ويحاولان التطلّع إلى المستقبل. ووفق الكرملين، فإنَّ القمّة "تنشد استخلاص نتائج العمل المشترك لتطوير شراكة استراتيجية شاملة في العام 2021"، لكن أولوية المرحلة الراهنة تفرض تبادلاً لوجهات النظر حول القضايا العالمية والإقليمية الملحة، بعد أن فشلت واشنطن وبكين في الحد من التوترات في العلاقات.
وعشية قمة فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، أوضح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أثناء وجوده في جاكرتا، أنّ "الحدّ الأقصى للعلاقات المبرمجة مع بكين هو جعل التنافس الاستراتيجي معها قيد التحكّم". ووفق بلينكن، فإن "الرئيس بايدن أبلغ الرئيس شي بأنَّنا نتقاسم مسؤولية عميقة لضمان عدم تصعيد المنافسة بين بلدينا إلى صراع. ستظل الدبلوماسية أداتنا لضمان التقليل إلى أدنى حد من احتمالات نشوب صراع في المنطقة".
وفي الوقت نفسه، أكّد عزمه مجدداً على "ضمان حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي"، ووصف "أوكوس" - التحالف الجديد للولايات المتحدة مع أستراليا والمملكة المتحدة - بأنه "مثال حيّ على كيفية تعزيز المصالح الاستراتيجية، وتعزيز السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ".
تصريحات الوزير بلينكن أثارت رد فعل سلبياً في بكين. وبحسب وزارة الخارجية الصينية، "على الولايات المتحدة تعزيز الحوار، وليس خلق عقبات أمام تطوير العلاقات بين دول المنطقة". وفي وقتٍ تشهد الدولتان أزمة في العلاقات مع الغرب، تواصل روسيا والصين التقارب بشكل ملحوظ.
وفي حديثه في الاجتماع الموسّع لوزارة الخارجية الروسية في 18 تشرين الثاني/نوفمبر، وصف فلاديمير بوتين مستوى التعاون الروسي الصيني على النحو التالي: "الآن، وصلت العلاقات الثنائية إلى أعلى مستوى في التاريخ، وهي ذات طبيعة شراكة استراتيجية شاملة. ويمكن القول إنَّها تعتبر نموذجاً للتعاون الفعّال بين الدول في القرن الـ21. بالطبع، لا يحلو ذلك للجميع، ويحاول بعض الشركاء الغربيين علانيةً دقّ إسفين بين موسكو وبكين".
في المقابل، لم يتوقَّف الجانب الصيني عن الإدلاء بتصريحات حول العلاقات مع روسيا على مدار هذا العام، ما يؤكد طبيعتها الفريدة. وفي كانون الأول/يناير، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي: "لا توجد نقطة نهاية في التعاون الاستراتيجي الصيني الروسي، ولا توجد مجالات محظورة لهذا التعاون، ولا يوجد سقف له".
وبعد 6 أشهر، وفي حفل استقبال أُقيم في بكين احتفاءً بالذكرى العشرين للمعاهدة الروسية الصينية لحسن الجوار، أشار الوزير وانغ يي هذه المرة إلى تطور العلاقات مع روسيا، "ليس كتحالف، وإنما أفضل من تحالف، أي علاقات شراكة استراتيجية شاملة".
وعشيّة القمة الحالية بين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، قالت الخارجية الصينيّة: "نتأمّل من القمة المقبلة أن تزيد تعزيز الثقة بين البلدين، لترتقي العلاقات إلى مستوى جديد، وأن تتعزز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ليقفا ظهراً إلى ظهر".
التقارب الأكثر وضوحاً بين روسيا والصين يجري في مجال التعاون العسكري. ومن تجلّياته أنَّ البحرية الصينية أجرت في تشرين الأول/أكتوبر مناورات مشتركة مع البحرية الروسية في غرب المحيط الهادئ، فقد مرّت، ولأوَّل مرة، 5 سفن صينية و5 سفن روسية عبر مضيق تسوغارو الّذي يقع بين جزيرتي هونشو وهوكايدو اليابانيتين.
وفي منطقة أرخبيل إيزو، أقلعت طائرة هليكوبتر من إحدى السفن الصينية، وأخرى من سفينة روسية، في آن معاً. ورداً على ذلك، تم إعلان حالة إنذار في قوات الدفاع الذاتي اليابانية. وفي 19 تشرين الثاني/نوفمبر، قامت طائرات الطيران الاستراتيجي الروسي والطيران البعيد المدى الصيني بدوريات مشتركة فوق مياه بحر اليابان وبحر الصين الشرقي.
من الواضح أنَّ العلاقات الروسيّة الصينيّة، وتحت تأثير الضغط الغربي على البلدين، تتحوَّل من "شراكة استراتيجية" غير ملزمة كثيراً إلى حالة جديدة من التعاون، ترتسم فيه أكثر فأكثر ملامح التحالف العسكري الفعلي، على الرغم من أنه لم يحصل على صبغة قانونية.
إنَّ تطوّر التعاون العسكري بين موسكو وبكين كان محدّداً سلفاً بعاملين رئيسيين، هما استمرار زحف البنية التحتية لحلف الناتو نحو الحدود الغربية لروسيا، وبناء "طوق وقائي" مناهض للصين على الحدود الجنوبية والشرقية لجمهورية الصين الشعبية.
وتقول تقارير إنَّ القمة الحالية تصبح في هذه الظروف تتويجاً للعام الدبلوماسي لكلٍّ من موسكو وبكين، اللتين تواصلان التقارب استجابةً لسياسة الاحتواء التي تنتهجها الولايات المتحدة. وفي ضوء اشتباه كلٍّ من موسكو وبكين بأنَّ واشنطن تستمرّ بتقويض العلاقات بينهما، من خلال تسريب معلومات عن مضمون محادثاتها مع كلٍّ منهما، عزّزت روسيا والصين خلال العام 2021 التعاون السياسي والعسكري والاقتصادي بينهما بشكل كبير. وتبدو مؤشرات التجارة البينية بمثابة خلفية مشجّعة لقمة فلاديمير بوتين وشي جين بينغ؛ فعلى مدى الأشهر الـ11 الماضية، نما الميزان التجاري بنسبة 34%، وبلغ 130.4 مليار دولار، وهو رقم قياسي مطلق.
وفي محاولاتهم لوصف مستوى العلاقات بين موسكو وبكين، يقول كثيرون إنّه "في صعود"، و"أفضل من أي وقت مضى". هذه الأوصاف تبسّط الحالة الفعلية إلى حدّ كبير، فالعلاقات الروسية الصينية مبنيّة على تفاصيل دقيقة وحسّاسة، وهي انعكاس للوضع حول كلٍّ منهما، فقد وجدت الصين نفسها فجأة محاطة بكتلة من الصّراعات، بما في ذلك التوترات المتزايدة مع الهند، والوضع غير القابل للحلّ حول الجزر في بحر الصين الجنوبي، والصراع مع اليابان، وأهم من ذلك، الوضع المتفجّر في مضيق تايوان.
أما الوضع الروسي، وعلى الرغم من خطورته وتعقيداته، فإنه أقل تضارباً بكثير، وتتحكم فيه روسيا نفسها إلى حد كبير. لذلك، إنّ الصين هي أهم شريك تجاري لروسيا، ولكن، وقبل كلّ شيء، روسيا أيضاً هي الشريك الوحيد الموثوق به تماماً للصين. وعلى الرغم من التباين الكبير في حجم اقتصاد كلٍّ منهما، تشكل الصين ما يقارب 19% من الناتج الإجمالي العالمي. أما روسيا، فتبلغ حصتها 3.1%، لكنَّ البلدين وجدا طريقة تعايش إيجابيّة للعقد المقبل.
في الفنون الصينيّة للقتال والدفاع عن النفس، توجد وقفة "الظهر إلى الظهر" التي يتّخذها مدافعان لصدّ هجمات خصوم كثيرين. تدرك روسيا والصين أنهما تقاتلان الخصوم نفسهم: روسيا - في الاتجاه الغربي، والصين - في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. هذا الواقع يملي عليهما أن تقفا "ظهراً إلى ظهر".