رحلة الحج من عرفة إلى منى.. أبعادها الروحية والاجتماعية

تُجسّد الكعبة، المحور الثابت والمكان الذي تتجدد فيه روح المسلمين، ووحدتهم وتعاضدهم، بوقفتهم  أمام الله، لا فرق بين غني وفقير، قوي وضعيف، وحاكم ومحكوم.

  • من أبرز مناسك هذه فريضة الحج هو تدفّق الحجّاج على صعيد عرفات
    من أبرز مناسك هذه فريضة الحج هو تدفّق الحجّاج على صعيد عرفات

﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير﴾.

-  من سورة الحج في القرآن الكريم

في مكة الآن، أكثر من مليوني مسلم من أنحاء العالم كافة يلبّون نداء الحج، تأديةً لفريضة هي من أعظم الفرائض في الإسلام، والتي فرضها الله على كل مسلم استطاع لذلك سبيلاً. 

وقد تعبّد الله بهذه الفريضة عباده منذ النبي إبراهيم عليه السلام. وجاء الإسلام، فأضاف إليه شروطاً وأحكاماً وفرائض، وحدّد له أهدافاً، ورسم له خطوطاً لم تقتصر على الجوانب العبادية، بل امتدّت لتُخاطب هذه الفريضة الروح المعنوية والاجتماعية وحتى السياسية لدى الإنسان.

رحلة الحج هذه، وفي كونها فريضةً في الإسلام، هي تجربة عظيمة لكل مؤدٍ لها، يلتمس فيها التقرّب من الله، مجرّداً من كل الأمور الدنيوية المادية، ويأمل من خلالها تطهيره من الذنوب والخطايا، ويجد فيها وسيلةً لتهذيب وتربية نفسه بصبره على كل مشقّاتها وصعوباتها، إذ إنّ ما يميز هذه الفريضة هو أنها امتحان يختبر صبر الفرد ومدى تحمّله للشدائد. 

يبدأ حشود الحجاج نسكهم بدايةً من الإحرام كل بحسب ميقاته، ثم الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، يتبعه مزدلفة، فرمي الجمرات، ثم الهدي والتحلل، في خطوات متتابعة بانتظام ونسق عجيب.

وفي هذه الخطوات وفي كل مكان تطأه أقدامهم، وترتفع فيه أيديهم للدعاء، يعيش الحجاج بعضاً من نفحات التاريخ، إذ يذكّرهم بيت الله الحرام بالنبي إبراهيم عليه السلام الذي بناه ودعا لمن يسكن قربه بالرزق، بينما يذكّرهم السعي بين الصفا والمروة بحركة هاجر زوجة النبي إبراهيم للحصول على ماء لابنها إسماعيل، وكيف كافأها الله بماء زمزم على صبرها وحيدة في تلك الأرض المقفرة. أمّا الهدي وذبح الأضحية ففيه إشارة إلى النبي إسماعيل الذبيح الذي فداه الله، واختبار أبيه إبراهيم عندما أسلما لله الأمر وانتصرا على هواجس الأبوة وعواطفها.

الرحلة من عرفة إلى منى 

ومن أبرز مناسك هذه الفريضة، هو تدفّق الحجّاج على صعيد عرفات، لأداء الركن الأعظم من الحج، والصلاة والابتهال والتضرع إلى الله وتلاوة القرآن. 

وقد ورد عن النبي محمد أنّ "الحج عرفة". وبحسب ما ورد في الروايات أيضاً، فإنّ عرفة سُمِّيت بهذا الاسم، لأنّ آدم عليه السلام اعترف فيها بذنبه، فأدب عرفة، أن يعلم الحاجّ أنّ الله هو العليم المطّلع على ظاهره وسريرته.

ولعلّ مناسك عرفة تكتسب هذه الأهمية، لما لها من أبعاد روحية واجتماعية هامة. فمن الناحية الفردية، فإنّ للحج في يوم عرفات تأثيره المعنوي في روح الفرد، الذي يتجسّد برفض سلطان الشيطان على الإنسان والنفس الأمارة بالسوء وقمعهما. 

كما تعكس مناسك هذا اليوم صورة مصغرة عن اليوم الآخر وحالة البعث والحشر، فالناس جميعها تتجه إلى المكان نفسه مرتديةً مناشف بيضاء تشبه الأكفان، ويرافق هذا الزحف إلى عرفات ازدحام شديد ورهبة وفقدان لكل ما يزيد عن امتلاك ما يستر العورة.

وبشأن ذلك، يقول المرجع الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، إنّ "من أعمال الحجّ أن يقف النّاس في عرفات من الزّوال إلى الغروب وقفةً خاشعةً فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنّفاذ إلى أعماق الرّوح في لحظة صفاء ونقاء". 

ويضيف السيد فضل الله أنّ هذه الوققة هي "وقفة الحياة أمام الله، تستلهمه وتستهديه، وتفتح أمام الإنسان الآلام والآمال، من أجل أن يستلهم الصّواب، والهداية إلى الصّراط المستقيم، وتجعل من أمره يسراً، فتكشف عنه الآلام، وتحقّق له أحلامه". 

وإنّ تأثير عرفات لا يقتصر فقط على الناحية المعنوية في روح الحجيج، بل أيضاً له انعكاساته في تنمية الروح الاجتماعية لديهم. فيوم عرفات، الذي يجتمع فيه الحجيج من مشارق الأرض ومغاربها، بأجناسهم المتنوعة وعرقياتهم المختلفة ولغاتهم المتعددة، بلباس أبيض موحّد، يُساهم في إلغاء كل الفوارق الطبقية واللونية والعرقية والإقليمية، من جرّاء التفاعل الإنساني الروحي الذي يحقّقه ذلك في أجواء إيمانية خالصة، حيث يستشعر الحجيج بالقيمة الإسلاميّة على هدى الممارسة في وحدة الموقف واللباس والشعار والتحرّك، ما يعزز لهم مفهوم الوحدة بين المسلمين، وأن لا "فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلّا بالتقوى".

كما يُمثّل هذا اليوم، فرصة سانحة لكي يتعرّف المسلمون بأطيافهم وأشكالهم كافة أكثر على بعضهم البعض، حيث يتبادلون التجارب والخبرات المتنوّعة، التي يملكها كل فريق من خلال أوضاعه العامة والخاصة، وتسهيل حركة الدعوة إلى الله بالانطلاق من موسم الحج للاتصال بكل المناطق الإسلاميّة. 

ومن بعد عرفة، تأتي إفاضة الحُجّاج من مُزدلفة، وفي ذلك يتعلم الحجيج الامتثال الحقيقيّ لله، وتظهر قدرة النفس في التغلُّب على وساوس الشيطان حين رَمي الجمرات، ويُثبت الحاجّ أنّ الله أكبر من كلّ شيءٍ بالتكبير عند رَمي الجَمرات.

وفي نَحْر الأضاحي، بعدها، رغبةٌ في تهذيب النفس الإنسانيّة ووقايتها من البُخل والشُّح، كما يدرك المسلم حاجة أخيه المسلم، فتتوطّد العلاقة بين المسلمين، باستشعارهم حاجات بعضهم البعض.

ثمّ تظهر رغبة الحاجّ في التخلُّص من كلّ الذنوب والخطايا من خلال التحلُّل. ومن بعدها اجتماع القلوب في منى، حيث تجتمع قلوب المسلمين على الأُلفة والمَودّة حين اجتماعهم أيّام التشريق، لاستكمال الذِّكر، والدعاء، ويلتفّ المسلمون حول قِبلَتهم بطوافهم حول الكعبة، وبذلك، فإنّ المجتمع الإسلاميّ يُحقّق ما أراده الله ورسوله، بأن يكون مجتمعاً تتجلّى فيه معاني الأُخوّة، والتراحُم، والوحدة، والتعاضُد.

والحج بهذا المعنى، هو رحلة تغيير ذات بداية ونهاية محددتين تقع بينهما إجراءات تقوم على الزهد بالدنيا والتواضع لله وللآخرين. يبدأها الحاج بنفسه وهو مادتها وموضوعها. وعند الانتهاء منها يصبح الحاج في حالة وجودية وشعورية تختلف تماماً عنها عند البداية، حيث تتروّض روحه ويجرّب جسده حياة التقشف لعدة أيام. 

وبذلك، تُجسّد الكعبة، المحور الثابت والمكان الذي تتجدد فيه روح المسلمين، ووحدتهم وتعاضدهم، بوقفتهم  أمام الله، لا فرق بين غني وفقير، قوي وضعيف، حاكم ومحكوم، حيث تتجه إليها الصلوات، من كل الكون، وبجميع اللغات، في خطوات ينصهر فيها الفرد في المجموعة، والمجموعة في الفرد، أملاً بجمع زادٍ مليء بالتقوى والإيمان لسنين مقبلة، ما يبعث شحنة معنوية إلى العالم الإسلامي. 

اقرأ أيضاً: بعد وقفة عرفة.. أكثر من مليوني حاج ينفرون إلى مزدلفة ثم مِنى

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by الميادين | Al Mayadeen (@almayadeen.tv)

اخترنا لك