خيانات الذاكرة ولعثمات اللسان.. بايدن العجوز يختبر خريف العمر والرئاسة
فاز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وسط مناخ مليء بالتشكيك من قبل سلفه، وفي جو تشوبه علامات استفهام كثيرة حول عمره وقدراته، منذ أول مناظرة رئاسية وحتى اليوم.
مذ كان طفلاً، عانى الرئيس الأميركي جو بايدن من تنمُّر أصدقائه بسبب تلعثم شديد جعله يمضي ساعات أمام المرآة يقرأ الشعر كي يتجاوز تلك المشكلة، وهي مهمة لم تكتمل أبداً.
التحدث بطلاقة بالنسبة إلى الأشخاص الذين نشأوا يتلعثمون، هو ليس مجرد نزهة بعد العشاء. يدرك المتلعثمون دائماً أنّ جسدك يمكن أن يخونك، لتفقد توازنك وتنجرف إلى الأسفل. تبدأ التحدث بسلاسة، ثم تضغط على كتلة تزيل التوازن بطريقة ما، وتشعر بتوتر عضلات فمك، وربما بصداع خفيف. الكابوس هو أن يحدث هذا قرب بداية لحظة مهمة جداً في حياتك: خطاب طويل الأمد، أو مقابلة ستغيّر مستقبلك، أو مناظرة رئاسية.
في 29 أيلول/سبتمبر الماضي، حدثت "أسوأ مناظرة في التاريخ"، وفق ما وصفها آرون كال، الاستاذ في جامعة ميشيغن الأميركية والمتخصص في المناظرات الرئاسية. بحسب كال، أبدى بايدن قدرة جيدة على الصمود، لكنّه ركّز نظره على الكاميرا كثيراً كلمّا ضاع الكلام منه ليطلب من الأميركيين أن يتوجهوا الى صناديق الاقتراع لتجنب "أربع سنوات إضافية من الأكاذيب".
73 مليون شخص شاهدوا المناظرة، ومن غير المعلوم كم منهم وضع يده على وجهه كلما تلعثم بايدن، وقال أمام الشاشة ما يرى أنّه صحيح: "قل هذا، دافع عن هذه القضية، تكلّم يا رجل!". كلما تلعثم بايدن في المناظرة، قال جملته الشهيرة: "انتخبوني وتجنبوا التعاسة لمدة 4 سنوات". كان بايدن يدرك جيداً أنّه ما إن يتوهّج ضوء الكاميرا الأحمر سيتم حبسه مع ترامب في موقف لفظي مؤلم لمدة تسعين دقيقة خارجة عن السيطرة تماماً. زاد سخط الجمهور على بايدن بسبب الفرص الكثيرة الضائعة، تصيّد منتقدوه كمّ الأخطاء الكبير في ردوره. أحد الناشطين الديمقراطيين كتب: "ربما لم يكن أكثر حوار تلفزيوني مؤلم في الذاكرة، ولكنه بالتأكيد كان الأطول".
الرئيس العجوز
عن عمر يناهز الـ 77 عاماً، أصبح بايدن الرئيس الأكبر سنّاً في تاريخ الولايات المتحدة، لكنّ لقب العجوز التصق به، وألصقه لاحقاً ببلاده ليس جرّاء عدد السنين، بل نتيجة تصرفاته المقلقة، التي سمحت بطرح علامات استفهام وفتح باب الجدال حول صحته العقلية والجسدية. لن يمر وقت طويل قبل أن يُسمع عن زلّة قدم بايدن على مسرح أو خلال إلقاء خطاب ما، أو خطأ لفظي في تسميات حروب يصعب على رئيس دولة أن يجهلها، فمن غير المنطقي أن "لا يهزم الأوكرانيون الأوكرانيين"، ومن اللافت أن ترحّب الولايات المتحدة بانضمام سويسرا إلى الناتو، في حين أنّ السويد هي من تسعى للانضمام منذ فترة طويلة.
في قمة الناتو التي جرت في مدريد، ألقى بايدن خطاباً صدم المستمعين، قال فيه إنّ "خلاصة القول أنّ الحلف يهدد موقعه.. يتعامل مع التهديدات ويقوي موقفه ضد التهديدات من الشرق والتحديات من الجنوب"، بمعنى أنّ الحلف يهدد نفسه.
وفي زيارته الأخيرة للأراضي الفلسطينية المحتلة، قال بايدن في مقطع فيديو تداوله ناشطون: "لنبقي حقيقة وشرف الهولوكوست"، قبل أن يصحح قائلاُ: "لنبقي حقيقة ورعب الهولوكوست.. ونكرم هؤلاء الذين فقدناهم..".
أخطاء بايدن كثيرة، آخرها حتى كتابة هذا التقرير، كانت في قمة جدّة التي عقدت في السعودية، حيث خلط الرئيس الأميركي بين كلمتي الأنانية (selfishness) والإيثار (selflessness) في خطابه، إذ قال إنّه "يكرم أنانية (selfishness) الجنود الأميركيين"، ليعود ويصحح الكلمة قائلاً: "إنه يكرم إيثار وشجاعة الجنود الأميركيين".
كذلك، أخطأ بايدن لفظ اسم الصحافية الفلسطينية التي اغتالها الاحتلال الإسرائيلي، في 11 أيار/مايو، شيرين أبو عاقلة، وذلك في خطاب له أثناء زيارته فلسطين المحتلة.
ومنذ أيام، سخر ناشطون من الرئيس الأميركي بعد أن قرأ الملاحظة المرفقة في خطابه، وهي "كرر الجملة"، فبدلاً من من تكراره الجملة المعنية قام بقراءة الملاحظة حرفياً، قائلاً: "كرر الجملة". وعندما سقط بايدن في أثناء نزوله عن دراجة هوائية، الشهر الماضي، أصيب مساعدوه بالإحباط وهم يرون كيف كان سقوطه الخبر الأهم، خلال الأسبوع، رغم أنّ معظم الرجال في عمره بالكاد يركبون الدراجات، فهل أصبح عمر جو بايدن موضوع نقاش سياسي؟
لطالما سلطت وسائل الإعلام التابعة للحزب الجمهوري الضوء على سقوط بايدن المتكرر، ومشكلاته في الإملاء، وزلاته المتكررة، وتقدّمه على أنّه رجل عجوز أصبح لعبة في أيدي مستشاريه، لكن موضوع سنّ الرئيس الأميركي بات يطرح الآن علانية من قبل وسائل الإعلام الديمقراطية، علماً أنه كان من المحرمات.
العمر والرئاسة
في الوقت الذي يصرّ بايدن على ترشحه لولاية ثانية، ترى مجلة "نيويورك تايمز" أنّ عمره أصبح مشكلة مزعجة له ولإدارته ولحزبه.
وبعد عام ونصف فقط من ولايته الأولى، أصبح الرئيس بايدن أكبر من الرئيس الأربعين للولايات المتحدة، رونالد ريغان، بأكثر من عام في نهاية ولايته الرئاسية. وإذا ما خاض حملة أخرى في العام 2024، فسيطلب بايدن من الأميركيين أن ينتخبوا رئيساً سيكون عمره 86 عاماً في نهاية فترة ولايته الثانية، إذا ما فاز.
رغبة بايدن لا تؤيدها استطلاعات الرأي، التي تُظهر أنّ العديد من الأميركيين يعتبرون بايدن أكبر من اللازم، ولا ينبغي عليه الترشّح مرّة أخرى.
وبحسب الصحيفة، فقد أجمع أكثر من 10 من كبار المسؤولين والمستشارين الديمقراطيين، الحاليين والسابقين، على أنّ بايدن ظلّ منخرطاً فكرياً وطرح أسئلة ذكية في الاجتماعات، واستجوب مساعديه بشأن نقاط خلافية، واتصل بهم في وقت متأخر من الليل، وآخر الأمثلة في هذا المجال جاء عن ملاحظاته حول خطابه عن الإجهاض، والذي استمر بتنقيحه حتى اللحظة الأخيرة، لكن هؤلاء أقرّوا بأنّ بايدن يبدو أكبر سناً مما كان عليه قبل سنوات قليلة، وهي مسؤولية سياسية لا يمكن حلها من خلال سياسات البيت الأبيض التقليدية، مثل تغييرات الموظفين.
وعلى الرغم من أنّ طاقته على التنقل لم تنضب بعد، فإن مساعديه يراقبونه بحذر خشية أن يتعثر أثناء المشي، أو أن يتلعثم في الكلمات خلال المناسبات العامة، ويحبسون أنفاسهم منتظرين أن يصل إلى نهاية خطابه من دون زلة.
وأشار التقرير الطبي للرئيس، في تشرين الثاني/نوفمبر، إلى إصابته بالرجفان الأذيني، لكنه "مستقر ومن دون أعراض"، كذلك ذكر التقرير أنّ "مشية بايدن أصبحت أكثر صلابة وأكثر ثقلاً مما كانت عليه قبل عام"، فيما يسبب له الارتجاع المعدي المريئي بالسعال.
أكبر من أن يصبح رئيساً
أثّرت الأسئلة التي تطرح حول الرئيس الأميركي الحالي على مكانته العامة، ففي استطلاع للرأي أجراه "مركز هارفارد للدراسات السياسية الأميركية"، في حزيران/يونيو، أجاب 64% من الناخبين أنّهم يعتقدون أنّ بايدن أكبر من أن يصبح رئيساً.
ويغذي ظهور بايدن في المناسبات العلنية هذا التصوّر، إذ يغلب على خطاباته الفتور والأخطاء. ويتلقّف الجمهوريون والإعلام المحافظ مثل هذه الهفوات بسعادة بالغة، وينشرون مقاطع فيديو عنها، لتصوير وضع الرئيس الحالي، أو لجعله يبدو أسوأ. لكن ذلك لا ينفي أنه كان على البيت الأبيض التدخّل في بعض الحالات ليتراجع عن تعليقات مزعجة لبايدن، مثل ما فعل عندما تعهّد برد عسكري إذا هاجمت الصين تايوان، أو عندما أعلن أنّ الرئيس فلاديمير بوتين "لا يمكنه البقاء في السلطة" في روسيا، ولكن هل يرتبط ذلك بعمر بايدن؟ خصوصاً أنّه اشتهر بالزلات حتى عندما كان شاباً.
وترى "نيويورك تايمز" أنّ البيت الأبيض يبدو مصمماً على حماية بايدن من التفاعلات غير المدروسة مع وسائل الإعلام، إذ عقد 16 مؤتمراً صحافياً فقط منذ توليه منصبه، وهو أقل من نصف ما عقده كل من ترامب وباراك أوباما وجورج دبليو بوش في هذه المرحلة، وأقل من ثلث ما عقده كل من بيل كلينتون وجورج بوش الأب.
كذلك، أجرى بايدن 38 مقابلة فقط، وهو عدد أقل بكثير من ترامب (116)، وأوباما (198)، وبوش الابن (71)، وكلينتون (75)، وبوش الأب (86). ولكن في السياق نفسه، كان من السهل الوصول إلى بايدن من خلال تلقي الأسئلة بشكل غير رسمي بعد خطاب أو حدث آخر، وهو ما فعله 290 مرة، مقارنةً بـ 213 مرة من قبل ترامب، و64 من قبل أوباما.
وخلال رحلته الأوروبية، الشهر الماضي، عامله الزعماء الأجانب بطريقة وقائية بوصفه مسناً مميزاً. وعند التقاط الصورة الجماعية، وجّه المستشار الألماني أولاف شولتز بايدن بلطف باتجاه الكاميرات. وقبل الاجتماع مباشرة، صرخ مراسل صحفي مرتين سائلاً بايدن حول إخراج الحبوب من أوكرانيا، وعندما لم يستطع سماع السؤال، قام رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بإنقاذه، فأجاب: "نحن نعمل على ذلك".
ومع تقدّم بايدن في العمر وولايته الرئاسية، هناك سؤال أساسي يطرحه الشباب الأميركي حول إمكانية الرئيس الذي ولد خلال الحرب العالمية الثانية أن يظل على اتصال بالأميركيين الأصغر سناً.