جزر المحيط الهادئ.. سباق القرن في حلبة صغيرة
جزر صغيرة في المحيط الهادئ تؤدي دوراً في التنافس الصيني الأميركي، والتطورات الأخيرة في تايوان تشي بأن تكون هذه المنطقة ساحة لصراع محتمل.
على الرغم من صغر حجمها، إلا أنّ دول جزر المحيط الهادئ تحمل قيمة إستراتيجية كبيرة لكل من القوتين العظميين؛ الصين والولايات المتحدة.
هذا الأمر يبدو واضحاً في الأحداث الأخيرة، فالصين والولايات المتحدة تحاولان السيطرة على أكبر قدر ممكن من هذه الجزر لأسباب سياسية، اقتصادية، وأمنية.
وتكمن أهمية هذه الجزر في أنها غنية بالموارد الطبيعية، وتعد وجهة سياحية للسائحين من مختلف بلدان العالم، فضلاً عن موقعها الجغرافي المطل على المحيط الهادئ، الذي يوفر النقل البحري منخفض التكلفة بين الشرق والغرب، ومناطق صيد واسعة، وحقول النفط والغاز البحرية، والمعادن، والرمل والحصى لصناعة البناء.
كذلك، فإنّ قرب جزر المحيط الهادئ من مضيق ملقا، يزيد الدول رغبةً في السيطرة عليها، لما للمضيق من أهمية في المرور الآمن لبضائع الدول الإقليمية والدولية والنفط.
الصين تبحث عن وجود عسكري لها في جزر محيط الهادئ
تتمتع الصين ودول جزر المحيط الهادئ بتبادلات ودية طويلة الأمد. منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية في السبعينيات، واصلت الصين ودول جزر المحيط الهادئ توسيع التبادلات والتعاون في أكثر من 20 مجالاً، بما في ذلك التجارة والاستثمار وشؤون المحيطات وحماية البيئة والوقاية من الكوارث والتخفيف من حدتها وتخفيف حدة الفقر والرعاية الصحية والتعليم.
أقامت الصين حتى الآن علاقات دبلوماسية مع 10 جزر في المحيط الهادئ، بحسب وزارة الخارجية الصينية. ومنذ عام 1989، أصبحت الصين شريك حوار رسمياً لمنتدى جزر المحيط الهادئ (PIF). وفي عام 2004، انضمت إلى منظمة السياحة في جنوبي المحيط الهادئ (SPTO).
في عامي 2014 و2018، زار الرئيس شي جين بينغ منطقة جنوبي المحيط الهادئ مرتين واجتم بقادة بلدان جزر المحيط الهادئ التي لها علاقات دبلوماسية بالصين، ما فتح فصلاً جديداً في تاريخ العلاقات بين الطرفين.
بين عامي 2006 و2017، قدمت بكين ما يقارب 1.5 مليار دولار من المساعدات إلى جزر من المحيط الهادئ من خلال مزيج من المنح والقروض، بحسب معهد "لوي".
وتشمل بكين منطقة الجزر في المحيط الهادئ في مبادرتها "الحزام والطريق"، التي تشير إلى أنّ لدى بكين مصالح جيواستراتيجية في المنطقة. ومقارنة بالولايات المتحدة، تعدُّ الصين حديثة العهد نسبياً لدبلوماسية جزر المحيط الهادئ، ولكن نظراً إلى أنّ سياسة الصين الخارجية أصبحت أكثر حزماً، فقد عززت مكانتها باطراد.
الأبرز والأهم في دوافع الصين لتعزيز وتعميق العلاقة بجزر المحيط الهادئ هو فك وتطويق الجبهة العسكرية التي تشكّلها الولايات المتحدة لمواجهتها، ولمساندة تايوان، الجزيرة التي تدفعها الولايات المتحدة إلى الانفصال عن الصين.
وأقنعت الصين دولتين من الدول الجزرية الست: كيريباتي وجزر سليمان، التي كانت تربطها سابقاً علاقات رسمية بتايوان، بتحويل الاعتراف الدبلوماسي من تايبيه إلى بكين.
في عام 2018، ذكرت الصحافة الأسترالية أنّ الصين طلبت الحق في تمركز عسكري دائم في فانواتو، التي لا تبعد أكثر من 2000 كيلومتر عن الأراضي الأسترالية، ما أثار مخاوف محلية ودولية، ودفع رئيس مجلس وزراء فانواتو آنذاك إلى إجراء محادثات من هذا القبيل.
وعلى مدى السنوات الماضية الأخيرة في ظل قيادة الرئيس شي جين بينغ، تعمل الصين لزيادة مشاركتها الأمنية في منطقة جزر المحيط الهادئ. هذا الأمر تجلّى باتفاق أمني وقّعته مع جزر سليمان، في ظل معارضة القارة الأسترالية وواشنطن، وتحذيرات من الأخيرتين من توسع النفوذ الصيني.
وترى بكين أنّ استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ ستؤدي إلى مواجهة والعلاقة معها باتت في وضع حرج، في حين ترى واشنطن تعزيز العلاقات الصينية في جزر المحيط الهادئ أمراً مثيراً للقلق، خصوصاً بشأن احتمالية إقامة الصين قواعد عسكرية في هذه الجزر.
أميركا تعيد ضبط موقعها في جزر المحيط الهادئ
على الجانب الأميركي، المنطقة مهمة لأسباب عدة، فهناك جزر تجمعها علاقات دبلوماسية وعسكرية قوية بالولايات المتحدة، التي جعلت بعضاً منها مركزاً لاستخراج المواد الخام وأرضاً لنشر سلسة من القواعد العسكرية.
في الآونة الأخيرة، ومع تصاعد التوسع الصيني في منطقة الجزر في المحيط الهادئ، بدأت واشنطن بإعادة ترسيخ مصالحها الإستراتيجية في تلك المنطقة. ولهذه الغاية، عقدت واشنطن القمة الأولى في نوعها بين الولايات المتحدة ودول جزر المحيط الهادئ في واشنطن في أيلول/سبتمبر الماضي.
بشأن القمة المذكورة، فقد قال البيت الأبيض إنّها ستنعكس على القضايا الرئيسة مثل تغير المناخ، والاستجابة للأوبئة، والتعافي الاقتصادي، والأمن البحري، وحماية البيئة. لكن مثل هذه المبالغة البيانية، اعتادت واشنطن استخدامها، لتغطية أهدافها الحقيقية، أو كلما شعرت بأنّ هيمنتها تراجعت. وما تقوم به في منطقة جزر الهادئ موجّه إستراتيجياً نحو عنوان مستترٍ لاحتواء الصين.
إنّ عودة واشنطن إلى المنطقة تعد نقطة تحوّل مهمة في الإستراتيجية العسكرية الأميركية ومؤشراً واضحاً إلى تنامي أهمية المنطقة في الرؤية الإستراتيجية لمرحلة مقبلة، ربما تكون طويلة.
هذا الأمر يترجم عملياً، بخطوات واشنطن العسكرية الأخيرة، إذ قامت بنشر قاذفات "بي-1بي" التابعة لسلاح الجو الأميركي في غوام. إضافة إلى ذلك، تعتزم واشنطن إرسال نحو 6 قاذفات إستراتيجية من طراز "بي-52"، القادرة على حمل أسلحة نووية، إلى قاعدة جوية في شمالي أستراليا.
تتزامن هذه التطورات العسكرية وتوقيع أستراليا، التي تربطها بالولايات المتحدة تحالفات دفاعية، اتفاقاً أمنياً تاريخياً يهدف إلى مواجهة المدّ العسكري الصيني، ويقضي بتبادل مزيد من المعلومات الاستخبارية الحساسة وتعزيز التعاون العسكري.
ورقة بحثية تابعة للكونغرس تقول إنّ الاعتبارات الأميركية بشأن جزر المحيط الهادئ تشمل تعزيز الدبلوماسية في المنطقة، وتمويل المساعدة في مجالات مثل تغير المناخ، ومصايد الأسماك المستدامة، والتنمية الاقتصادية، والتصدي للتهديدات الأمنية، وتقديم المساعدات الاقتصادية وغيرها.
كذلك، فإنّ استراتيجية واشنطن لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ تنص على تعزيز العلاقات والشراكة لبناء القدرة على التكيف في جزر المحيط الهادئ، وتوسيع الوجود الدبلوماسي للولايات المتحدة في المنطقة، وتشير إلى أن"منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ تواجه تحديات عابرة للحدود".
هذا الضخ العسكري الأميركي، والضخ الاقتصادي من قبل الصين والولايات المتحدة، يشي بأن تكون الجبهة المقبلة بينهما متمركزة في منطقة جزر المحيط الهادئ، خصوصاً في حال اندلاع أي تطور عسكري في تايوان التي تحاول واشنطن دفعها إلى الانفصال.