جدل الحجاب في فرنسا.. عنصرية "العلمانية الأوروبية"

ارتداء الحجاب ممنوع في فرنسا. تحاول الأخيرة التحكّم في ّما يؤمن به الآخرون، وربما تفرض غرامة مالية على مرتديات الحجاب تماماً مثل مخالفة إشارات المرور. ما أسباب هذا العداء؟

  • لماذا يعد ارتداء الحجاب
    لماذا يعد ارتداء الحجاب "مكروهاً" في فرنسا؟

"المسلمون قد يشكّلون مجتمعاً موازياً داخل فرنسا. لا أودّ أن يكون هناك أيّ التباس أو خلط للأمور، لكن لا بدّ لنا من الإقرار بوجود نزعة إسلامية راديكالية تقود إلى إنكار الجمهورية. الإسلام نفسه يُواجه أزمة في جميع أنحاء العالم. الحظر على الحجاب سيشمل من الآن فصاعداً جميع مقدّمي الخدمات العامة في فرنسا".  

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الـ 22 من تشرين الأول/أكتوبر 2020. 

الحجاب جدل لا ينتهي في فرنسا. وقد برز جليّاً منذ مرحلة احتلال الأخيرة للجزائر، وما تلاها. التصريحات الفرنسية الرسمية ضدّ المسلمين وثقافاتهم تمثّل جزءاً من خطابات المرشحين للانتخابات الرئاسية . وهو حديث يتداوله السياسيّون مع كل ما يحمل من خلفيات ودلالات إقصائية. والنتيجة: ارتداء الحجاب ممنوع في فرنسا، كل على طريقته.  

لماذا يعدّ ارتداء الحجاب مكروهاً في فرنسا؟

مع حلول منتصف القرن العشرين، عادت أوروبا إلى أراضيها مُثقلة بخسائر عسكرية واقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية التي دمَّرت القارة وقتلت الملايين من سكانها، لذلك كان لزاماً عليها البحث عن يد عاملة تُعيد بناء هذه البلدان. وهكذا انتقل الآلاف من العرب والمسلمين  -الذين أنهوا للتو حقبة الاستعمار المباشر على أراضيهم، للبحث عن فرص العمل- مُلبِّين في الوقت نفسه حاجة أوروبا إلى اليد العاملة. حملت هذه الجاليات عاداتها ومعتقداتها الدينية، وشعيرة ارتداء الحجاب معها. 

وهكذا انتقلت "المعركة" إلى الداخل الأوروبي. بات حضور النساء المحجبات  تحدّياً ثقافياً قوياً لأوروبا، ما أفضى إلى تبلور معركة ضدّ الحجاب، الذي ظلَّ يمثّل عند الغرب دليلاً على غرابة الشرق وتخلُّفه، فكيف يُسمح به داخل أوروبا؟

تحتضن فرنسا أكبر جالية إسلامية في أوروبا.  ومع ذلك تعتقد بوجود جهود من طرف خفيّ يسعى لتغيير النظم الاجتماعية الغربية عبر فرض الآراء الدينية الإسلامية على فرنسا وأوروبا. تعتقد فرنسا بوجود "قوى ظلامية" و"ناشطين سياسيين دينيين" و"تيارات سياسية متطرفة" تهدف إلى تدمير الديمقراطية الغربية وأسلوب حياتها المبني على الحرية والمساواة. 

يقول المؤرخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، صاحب إحدى أهم الدراسات عن الحالة الدينية في فرنسا، في كتابه "الدين في الديمقراطية"، إنّ العلمانية في الغرب بصفة عامة توقفت عن امتلاك معنى سياسي مقبول، في الوقت الذي امتلك الإيمان الديني القدرة على التكيُّف مع الظروف العلمانية المعاصرة للحياة الاجتماعية والشخصية. 

هنا تحديداً يشرح غوشيه أسباب دهشة المسلمين المقيمين في فرنسا، وأسباب الهجوم الفرنسي الرسمي والشعبي المتكرر على الحجاب. يرى غوشيه أن ذلك كله يأتي في سبيل إضفاء بُعد نضالي على العلمانية ومَدِّها بالحيوية التي افتقدتها العلمانية الفرنسية بعد أن فقدت كل مصادرها الروحية الذاتية، وصارت العلمانية الفرنسية عبارة عن هوية قلقة مهووسة بنقيضها، تستدعيه طوال الوقت وتصارعه طول الوقت، ما يُعرقل أي عملية اندماج للمسلمين في فرنسا داخل فرنسا.

"يختبئن وراء الحجاب"

كان الفرنسيون الذين استعمروا الجزائر في ثمانينيات القرن الماضي يرمزون إلى المرأة الجزائرية باسم "فاطمة"، فإذا قال أحد من الكتّاب أو الأدباء الفرنسيين "الفاطمات" فهو يعني "الجزائريات". كانت المرأة الجزائرية (أكثر من 11000 امرأة جزائرية شاركن في الدفاع عن بلدهن ضد الاستعمار الفرنسي، وفق السرديات الأدبية الجزائرية) لا تخرج إلى الشارع إلا ساترة نفسها بحجاب أبيض مطرز في نهايته.

برزت معركة الفرنسيين ضدّ الحجاب منذ استعمار الجزائر، فقد حاول الفرنسيون القضاء على الشخصية العربية الإسلامية وإذابتها في الشخصية الفرنسية الأوروبية، وفق  مؤرّخين جزائريين. ولم تسلم النساء من المخطط بطبيعة الحال. تتحدث الروايات الأدبية عن هذه الحقبة وما عانته النساء الجزائريات حينها من حرب نفسية وأيديولوجية، بلغت حدّ إجبار الجزائريات على خلع حجابهنّ في الساحات العامة. يقول الفيلسوف الفرنسي فرانز  فانون عند الحديث عن سياسة بلاده في الجزائر: "إذا أردنا أن نُحطّم بنية المجتمع الجزائري وقدرته على المقاومة، فلا بدّ لنا أولاً من هزيمة النساء، ينبغي لنا أن نذهب إلى حيث يختبئن وراء الحجاب، وفي البيوت حيث يخفيهن الرجال عن الأنظار".

لكن بعد نيل الجزائر استقلالها عام 1962، وانتهاء تلك الحقبة، ظلّ الحجاب يمثّل "تهديداً" للفرنسيين، لكنه تهديد غير واضح المعالم، وينسب إلى موارد عديدة تختلف بحسب المتكلم والمخاطب، ويتغيّر أمام منظمات حقوق الإنسان، ويتبدّل بين وزير ورئيس أو مرشح. كذلك يتغيّر "تهديد" الحجاب من مناسبة إلى أخرى، لكن وفق تبريرات تقدمها فرنسا للجمهور الذي يطالب بتوضيح.

 الحجاب ممنوع هنا!

"تعمل فرنسا من دون هوادة من أجل تحسين سبل مراعاة وضع المرأة من أجل التصدي للتهديدات التي تتعرض لها، ومن أجل حمايتها وضمان مشاركتها في ترسيخ السلام".

تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة عام 2017.

من بين الأسباب التي تروّج رفض الحجاب في فرنسا الادعاء "بالخضوع للرجل". تبرر فرنسا موقفها السلبي من الحجاب لأنه "يؤطر عمل المرأة ويذيب حقوقها ويعيق فرص عملها"، علماً بأنها هي نفسها  تؤطر عمل المرأة المحجبة وتمنعها من ارتياد أماكن كثيرة.

بحسب القانون الفرنسي، تُمنع موظفات الخدمة العامة من ارتداء الحجاب، أيّاً كانت مواقعهن، وكذلك العاملات في مصالح وأقسام الخدمة المدنية اللاتي لا يستقبلن مراجعين بحكم وظائفهن، فهؤلاء يجبرهن القانون على التزام الحياد والامتناع عن "التعبير عن اقتناعاتهن الدينية" خلال العمل.

في المقابل، لا يمنع القانون المراجعات لهذه المصالح من ارتداء الحجاب والتعبير عن معتقداتهن الدينية، شرط احترام النظام العام وعدم الإخلال به. أما في المؤسسات التعليمية، فلا ينص القانون على منع الحجاب في الجامعات، لكنه يمنع ارتداءه في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية فقط على الطالبات والمدرسات، ولا يشمل النساء المرافقات للتلاميذ باعتبار أنهن يقدمن فقط دعماً لوجستياً للطلاب ولا يقدمن خدمات للعموم حتى يشملهن القانون.

وبالنسبة إلى الشركات والمؤسسات الخاصة، ينص القانون على أنه يمكن حظر ارتداء الحجاب بشرط أن يقدم صاحب العمل أسباباً محدّدة للمنع، اعتماداً على طبيعة نشاط الشركة، وقيود السلامة والنظافة والصحة، كما يمكن أن تفرض اللوائح الداخلية للشركات قيوداً معينة على الرموز الدينية.

الباحث الفرنسي مانويل تيراي اعتبر في دراسة حملت عنوان "مسألة الحجاب: الهستيريا السياسية"، أن هناك تحاملاً كبيراً على المحجبات بوصفهن الوحيدات المقصودات من السياسات العلمانية الفرنسية التي لا تقترب من الراهبات الكاثوليكيات أو من الجالية اليهودية بالدرجة نفسها، متسائلاً في الوقت نفسه عن غياب أي نقاش مجتمعي حول قضايا المتاجرة الحقيقية بالنساء، كالدعارة واستعمال أجسادهن في الإعلانات والأفلام الإباحية وغيرها، وهذا السؤال يبقى حبيس الدراسات، إذ إن أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً تروّج حرية الرأي والتعبير والدفاع عن حقوق الأقليات والحيوانات، وينص قانونها على وجوب احترام الرأي والمعتقد، لكن عند الحديث عن الحجاب يختلف الأمر.

الحجاب في الانتخابات الرئاسية 2022

يبلغ عدد أصوات الناخبين المسلمين في فرنسا نحو 5 ملايين، ويمثّلون 9% من السكان. يدرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أهمية ذلك جيداً، لذلك يحتدم الجدل مع منافسته ماري لوبان بشأن تعهّد الأخيرة بمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة في حال فوزها.

ماكرون الذي تحدث عن منع الحجاب في أكثر من مرة، قال مؤخراً: "لا توجد دولة واحدة في العالم تحظر الحجاب في الأماكن العامة، هل تريدون أن تكونوا أول من يفعل ذلك؟".

وفي عام 2019، وتعليقاً على تصريحات وزير التربية جان ميشال بلانكر الذي طالب بمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، قال ماكرون: "ارتداء الحجاب في الأماكن العامة ليس شأني، بينما ارتداؤه داخل المرافق العامة وفي المدرسة حيث تجري تربية أبنائنا يصبح من شأني".

في مقابل خطاب أقل قسوة من ماكرون تجاه الحجاب في زمن الانتخابات، المرشحة اليمينية المعادية للهجرة تتمسك بتشددها، وتقول إنه في "حال انتخابها فإنها ستفرض غرامة على النساء اللواتي يضعنه في الأماكن العامة، وتوكّد أن وضع الحجاب في الأماكن العامة في فرنسا يجب أن يعدّ مخالفة تستوجب أن تفرض الشرطة غرامة عليها، تماماً مثل مخالفة المرور".

خلال السنوات الماضية، شنَّت مارين لوبان هجوماً كبيراً على الجالية الإسلامية في فرنسا دفاعاً عن "علمانية الدولة". وهي تحاول تحقيق حلم أسرة لوبان برئاسة فرنسا منذ عقود. الأسرة التي توارثت العنصرية جيلاً بعد جيل، وفق تقارير فرنسية.

يملك آل لوبان حزباً ذا خط أيديولوجي يتّخذ من كراهية الأجانب الملوَّنين، من مسلمين وغيرهم، رأس ماله الثابت، بدءاً بالجد الكبير جون ماري لوبان المعروف بآراءئه العنصرية والفاشية، وصولاً إلى مارين.

تنوي لوبان جعل الحجاب عقوبة تعاقب صاحبته بغرامة مالية مثلها مثل مخالفة تجاوز إشارة مرور، بينما يخاف ماكرون من ارتداء الحجاب في الصروح التعليمية الفرنسية، خوفاً على "تربية الأبناء".

خلاصات تفتح باب التساؤلات أمام وضع الحريات العامة في فرنسا في زمن ماكرون، وفي حال فازت لوبان فعلاً. هل يريد هؤلاء حكم فرنسا من دون مسلمين؟

في جو من الأزمات التي تعيشها أوروبا على وقع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتداعيات وباء كورونا، تشهد فرنسا انتخابات رئاسية في 10 و 24 نيسان/أبريل 2022، فهل يعاد انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية ثانية، أم نرى رئيساً جديداً في قصر الإليزيه؟

اخترنا لك