بعد 50 عاماً على انقلاب تشيلي: ألّيندي حيّ بأهدافه.. ومشروع واشنطن ركام
الذكرى الخمسون للانقلاب الأميركي الديكتاتوري على الرئيس اليساري المُنتخب في تشيلي، سلفادور أليندي، تأتي وسط تغيّرٍ جذري في العلاقات الدولية، وتوجهٍ إقليمي نحو رفض سياسات الهيمنة، ومع رئيسٍ تشيلي يساري رافض للهيمنة الغربية.
"لن أستقيل.. بعد أن دخلت في تحولٍ تاريخي، سأدفع مقابل الولاء للناس حياتي، وأقول لهم إنّني على يقينٍ من أنّ البذور التي زرعناها في ضمير الآلاف والآلاف لن تذبل، تحيا تشيلي.. عاش الشعب.. عاش العمال".
هذه هي الكلمات الأخيرة لأول رئيسٍ منتخب ديمقراطياً في تشيلي، سلفادور أليندي، والتي قالها متوجّهاً إلى شعب بلاده، في لحظة قصف قصر "لا مونيدا" الرئاسي في العاصمة سانتياغو مِن طائرات الانقلاب العسكري المدعوم أميركياً الذي قاده، أوغستو بينوشيه، في صبيحة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 1973.
إسقاطٌ أميركي للديمقراطية
الثلاثاء، في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 1973، نُفِّذ الانقلاب العسكري في تشيلي، لإسقاط الحكمٍ الاشتراكي المُنتخبٍ ديمقراطياً في أميركا اللاتينية، بدعمٍ مُباشر مِن واشنطن، حسب ما أكّدته وثائق وكالة الاستخبارات الأميركية، والتي نُشرت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون.
قُتل الرئيس الشجاع الذي رفض الاستسلام، ولاحقاً على مدى أعوامٍ من الاستبداد، قُتل عشرات آلاف المعارضين للديكتاتور وقائد الانقلاب بينوشيه، الذي كان بشهادة العالم، جنرال واشنطن في تشيلي.
مثّل وصول أليندي إلى السلطة ديمقراطياً في تشيلي، معضلة لواشنطن في أميركا اللاتينية، ليشغلها حينها هذا "الإنجاز الاشتراكي"، وذلك ليس فقط لأنّ الذي وصل إلى الحكم في سانتياغو اشتراكي، بل لأنّ هذا الإنجاز حصل في ما تُطلق عليها "حديقتها الخلفية"، وعلى مقربةٍ مِن خصمها اللاتيني كوبا، وفي الوقت الذي كانت تقود فيه حملةً عالمية مناهضة لكل من يعارض سياساتها.
ويصف مؤرخون تشيليون حملة البروباغندا التي قادتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" ضد الرئيس أليندي بـ"حملة الرعب"، والتي أمعنت فيها واشنطن بتصوير "وقوع تشيلي في قبضة الشيوعية، المخيف والمرعب".
ويُشار إلى أنّ وثائق أميركية إضافية، رُفعت عنها السرية بعد مرور 50 عاماً عليها، كشفت أنّه تمّ إطلاع الرئيس الأميركي آنذاك، ريتشارد نيكسون، على خطّة "الاستيلاء العسكري الوشيك على الحكم في تشيلي آنذاك"، كما احتوت على معلوماتٍ تؤكّد أنّ تشجيع نيكسون وكبير مستشاريه حينها، هنري كيسنجر، لاستيلاء الجيش على السلطة في تشيلي، "قد أتى ثماره".
اقرأ أيضاً: قصة 11 أيلول/سبتمبر الأولى: حدث في تشيلي
إصرار واشنطن على الانقلاب
يُقرأ السلوك الأميركي الحاد تجاه وصول أليندي إلى السلطة، على اعتبار أنّ تشيلي، التي كانت مورداً مهماً للنحاس إلى الولايات المتحدة، ستقوم مع الحكومة الاشتراكية الجديدة بتأميم مواردها الطبيعية، وبالتالي حرمان واشنطن من هذا المعدن، إضافةً إلى إمكانية تشجيعها دولاً أخرى في القارة على الحذو حذوها، وبالتالي الحد من النفوذ الأميركي. وبتناولٍ أدق لتلك المرحلة، فقد اندفعت واشنطن لدعم وتحريك إسقاط الرئيس أليندي، انطلاقاً مِن خشيتها من ذلك.
يُذكر أنّه في غضون ثلاث سنواتٍ مِن حكم أليندي، نجحت حكومته في إنجاز برامج الإصلاح الزراعي، وتأميم الصناعات الرئيسية وقطاعات المواد الخام في البلاد، إضافةً إلى بناء المساكن على نطاقٍ واسع، كما قامت بتوسيع نطاق التعليم والرعاية الصحية، واعتمدت سياسة المساواة في الأجور، ومنحت الاستقلال الذاتي لشعوب السكان الأصليين.
أثار برنامج تأميم مناجم النحاس الذي بدأته حكومة أليندي، خشيةً كبيرة لدى الإدارة الأميركية آنذاك، وهو البرنامج الذي كان يحظى بشعبيةٍ كبيرة في الشارع التشيلي، حتى إنّ أجزاء من المعارضة أيدته في حينه، وبشروع الحكومة في إصدار مراسيم تقضي بتأميم الدولة للعشرات من الشركات الكبرى في هذا القطاع، زاد الاستقطاب في البلاد نتيجةً لرفضٍ طبقي لهذه الخطوات، حيث انفضّت الطبقة الوسطى مِن حول أليندي شيئاً فشيئاً مُقتربةً من مُلّاك الشركات ومُشغليها.
وكخطواتٍ عملية، دعت الولايات المتحدة إلى إطاحة أليندي من السلطة، وموّلت معارضين مناهضين للاشتراكية، بدأوا بممارسة أنشطتهم مع الإضراب الوطني لسائقي الشاحنات، وهو الذي رفع مِن مستوى الاحتقان في البلاد عندما شُلّت حركة النقل، خصوصاً في العاصمة سانتياغو.
وكثّفت واشنطن مِن ممارساتٍ، بالتوازي مع مطالبها بإطاحة أليندي، صُنّفت لاحقاً بأنّها أدواتٌ للتخريب الاقتصادي، كان أبرزها منع الولايات المتحدة لتشيلي من الاستفادة من أيّ قروض مالية، إذ عملت الإدارة الأميركية على تدمير الاقتصاد التشيلي وخلق الفرصة المناسبة للانقضاض على الحكومة الاشتراكية بتحميلها المسؤولية عن المشكلات الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
في خضم تسارع الأحداث في البلاد.. كان بينوشيه قد نظّم في الجيش انقلاباً حاصر به القصر الرئاسي. الرئيس أليندي لم يستسلم، بل قضى وهو يقاتل، بعد أن نجح في بثِّ رسالةٍ تاريخية مِن سبع دقائق للتشيليين، طالبهم فيها بأن "تذكروا دائماً أنّه عاجلاً أم آجلاً، سيتمكن الأحرار من بناءِ مجتمعٍ أفضل".
بقتل أليندي، نصّب بينوشيه نفسه زعيماً للبلاد، وأخضع تشيلي لقرابة 15 عاماً من الديكتاتورية العسكرية (1973-1988)، شهدت فيها أسوأ انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، إذ تمّ اعتقال وتعذيب وإخفاء نقابيين وأكاديميين وصحافيين ومحامين وطلّاب، وتمّت طوال هذه السنوات ملاحقة أنصار الرئيس أليندي.
وتحقيقاً للهدف الأميركي من التحرك السافر ضد الحكم الديمقراطي في تشيلي، أطلق بينوشيه برنامجاً نيوليبرالياً تمّت بموجبه خصخصة المرافق والمشاريع العامة في البلاد، وذلك بـ"نصيحةٍ" من المُنظّر الاقتصادي الأميركي، ميلتون فريدمان، وهو الأمر الذي أدّى إلى تدهورٍ كبير في مستوى الخدمات العامة في البلاد، وازديادٍ حاد في معدلات الفقر والبطالة.
اقرأ أيضاً: كيف قُتل سلفادور أليندي؟
لم يسقط أليندي.. عقود الديكتاتورية سقطت
"إذا كانت تشيلي مهد النظام الليبرالي في أميركا اللاتينية، فهذه المرة ستكون مقبرته"، كان هذا حديثاً للرئيس التشيلي الحالي، غابرييل بوريك، أثناء خوضه للسباق الانتخابي الرئاسي مُرشّحاً عن اليسار.
في كانون الأول/ديسمبر 2021، وصل بوريك إلى السلطة في تشيلي، عبر فوزٍ كبير واضح في الانتخابات الرئاسية، كأصغر رئيسٍ وصل إلى القصر الرئاسي في البلاد، مُذكِّراً باليساري أليندي، أول رئيسٍ مُنتخب فيها.
يُعدّ بوريك من أبرز المدافعين عن رفع ضرائب التعدين على الشركات الخارجية، في البلد الذي يزخر بمناجم النحاس والثروات الباطنية الأخرى، والتي غذّت أطماع الولايات المتحدة ودفعتها إلى انقلاب 1973 بأدواتٍ "تشيلية".
كما أعلن تخطيطه أيضاً لإصلاحاتٍ اقتصادية بفرض ضريبةٍ على الثروات والطبقة الغنية في البلاد، إضافةً إلى التوجه نحو جعل التعليم مجانياً بالكامل في البلاد، وإطلاق وعودٍ بمنح المزيد من الحقوق الاجتماعية للسكان، والحرص في الوقت نفسه على اتباع سياسةٍ ضريبية داخلية متوازنة.
وفي نيسان/أبريل الماضي، كشف بوريك عن خطةٍ ستطلب من الشركات الخاصة في البلاد اتخاذ الحكومة شريكاً في إنتاج الليثيوم، وهو المعدن الذي يزداد الطلب عليه في جميع أنحاء العالم لاستخدامه في البطاريات الكهربائية.
وباعتبار تشيلي ثاني أكبر منتج لليثيوم في العالم حالياً، تكتسب الخطة أهميةً كبيرة، كما تُعد تحدّياً للشركات الغربية، وتحديداً التي تطمح دائماً للاستفادة من ثروات البلدان من دون تكلفةٍ تذكر، حيث تستخرج تشيلي هذا المعدن في موقع "سالار دي أتاكاما" شمالي البلاد، وهو واحد من أغنى حقول الليثيوم في العالم، وتستثمره الشركة التشيلية "إس كيو إم" والشركة الأميركية "ألبر مارلي".
ويجدر الالتفات بقوة إلى إعلان الرئيس بوريك، إنشاء شركة ليثيوم حكومية، في الوقت الذي تضع فيه الدولة دستوراً جديداً يرسّخ لحقوق المجتمعات المحلية والبيئة.
وفي السياق ذاته، يُشار إلى أنّه قبل بوريك، في عهد الرئيس التشيلي اليميني، سيباستيان بينيرا، قدّمت الحكومة خطّةً لبيع عقود استخراج الليثيوم، باعتبار عملية البيع "ضرورية لإعادة تشيلي إلى موقعها كأكبر منتج لليثيوم في العالم"، بينما يرى بوريك أن تشيلي لا يمكنها تكرار "الخطأ التاريخي في خصخصة الموارد". .
وعلى صعيد السياسة الخارجية، يعدّ غابريال بوريك من مناصري القضية الفلسطينية ومعادياً للسياسة الإسرائيلية. فقد زار الضفة الغربية في 2018 برفقة نائبين آخرين وفي كلمته شدد بوريك على أن الفلسطينيين "شعب موجود ويقاوم وله تاريخ".
ويجدر التذكير بأنّه في أيلول/ سبتمبر 2022، والذي تحضر فيه ذكرى أليندي في تشيلي، كان الرئيس بوريك قد رفض قبول أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي، جيل أرتزيلي، مُرجعاً ذلك بوضوح إلى "الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين".
بعد خمسين عاماً على انقلاب واشنطن بينوشيه على الرئيس أليندي، يأتي موقع بوريك المُتقدّم كيساري لاتيني على رأس السلطة في تشيلي، ببروزٍ وأهمية عالية، خصوصاً مع ما تعيشه القارة اللاتينية مِن توجّه متصاعد باتجاه اليسار، ومع ما يعيشه النظام الدولي مِن تحولاتٍ كُبرى في شكله وهيكله، باتجاه تعدّديةٍ قطبية تُنهي الهيمنة وسياسات التفرّد والإقصاء.