مالي تنقلب على فرنسا.. أعوام من التدخل تنتهي بالاستعانة بموسكو وطهران
أثار توتر العلاقات الأخير بين السلطة الانتقالية في مالي وفرنسا تساؤلات حول مستقبل الحضور العسكري الفرنسي في هذا البلد الواقع غرب أفريقيا، فما هي الخيارات البديلة لمالي؟
تشهد العلاقات بين فرنسا ومالي تدهوراً حاداً، فرئيس الوزراء المالي صرّح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن فرنسا تخلت عن بلاده. الرد الفرنسي جاء على لسان الرئيس الفرنسي؛ الذي قال إن الجيش الفرنسي لا يمكنه أن يعوض العمل الذي لا يقوم به الجيش المالي. هذه التصريحات وغيرها كتصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، التي قال فيها إنّ المجلس العسكري في مالي "غير شرعي"، تسببت في طرد السفير الفرنسي في باماكو.
بداية التدهور
كانت خطوة طرد السفير الفرنسي من العاصمة المالية باماكو لا سابق لها في العلاقات مع فرنسا التي فرضت لغتها الأم على 27 دولة أفريقية، بل وإنها اشترطت على البلاد المُستعمَرة أن تضمن لها البقاء مقابل استقلال شكلي، فوفقاً لاتفاق الاستقلال الذي منح 14 دولة استقلالها عام 1958، بات لباريس الحق الشرعي في التحصُّل على أي مواد خام تُكتشف هناك، واحتكار الأنشطة الأمنية والتدريب العسكري.
وقبل نحو 9 أعوام، استنجدت مالي بمُستعمِرها القديم بُغية تخليصها من عدوٍ شرس وهم الجماعات الانفصالية الذين هددوا العاصمة باماكو، وبالفعل أرسلت فرنسا قواتها إلى شمال مالي عام 2013. لكن تلبية باريس للمهمة جاء ظناً منها أنها ستقضي على الانفصاليين خلال أسابيع، إلا أنها وجدت نفسها تغرق في احتواء الهجمات والهجمات المستقبلية، ومن ثمَّ نشرت 5100 جندي فرنسي مع طائرات ومركبات في منطقة تمتد عبر موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، وأطلقت "عملية برخان" عام 2014 لتحقيق تلك الأهداف.
ورغم الوجود الفرنسي في مالي إلا أنّ تنظيمي "داعش" والقاعدة سيطرا على مساحات شاسعة من وسط مالي وعلى طول الحدود مع النيجر وبوركينا فاسو، وتهديدهم للعاصمة أصبح أكبر، فبعد ثماني سنوات من انطلاق "عملية برخان" في مالي تستعد فرنسا لإنهاء العملية.
صحيفة "لوموند" الفرنسية، تعلّق على الموضوع بقولها إنّ "إعلان ماكرون قرار تخفيض عدد القوات الفرنسية في العملية والانسحاب التام بحلول 2023 لا يعني سوى أن نتائج 8 سنوات من التدخل الفرنسي في منطقة الساحل ليست رائعة"، لافتةً إلى أنّ أكثر من 8 آلاف شخص، معظمهم من المدنيين، قتلوا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو منذ عام 2013.
عقوبات اقتصادية وغضب شعبي
مسار التوتر الفرنسي المالي بدأ بالفعل عند الإطاحة بإبراهيم أبو بكر كيتا، فالوجوه الجديدة التي صعدت للحكم في مالي ليست من التابعين لفرنسا، بل إن أغلبهم قادمون من دورات تدريب في روسيا، لذلك وصفت فرنسا المجلس العسكري في مالي بـالـ"غير شرعي"، كما أنها فرضت عقوبات عليها، ويقول خبراء بأنّ الانقلاب في مالي شكّل نكسةً لفرنسا.
وكانت مجموعة "إيكواس" قد فرضت عقوبات اقتصادية صارمة على سلطات مالي، من ضمنها تعليق التبادلات التجارية وإغلاق الحدود البرية والجوية، بالإضافة إلى تجميد أصول البنك المركزي المالي في بنك مركزي إقليمي يجمع دول غرب أفريقيا التي تستخدم "الفرنك الغرب أفريقي"، كعملة وحدة، كما أصدر الاتحاد الأوروبي، لائحة سوداء تضم شخصيات مالية مقربة من كبار القادة العسكريين الذين أطاحوا بالرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا، في مقدمتها الوزير الأول شوغل مايغا، ستخضع لعقوبات من ضمنها منعهم من دخول الأراضي الأوروبية وتجميد الأرصدة.
ورغم أنّ فرنسا تملك أوراق نفوذ متعددة في مالي، من بينها على سبيل المثال الوجود العسكري على أرض الواقع، علاقات وطيدة مع النخبة العامة في البلاد، علاقة قوية ومؤثرة مع كثير من الحركات السياسية والمسلحة، والتأثير القوي في عدد من دول الجوار، إلا أنها اليوم تواجه حكومة انتقالية رافضة لوجودها وأيضاً تواجه غضب شعبي متصاعد.
ويتهم الوزير الأول في الحكومة الانتقالية بدولة مالي، شوغل مايغا، فرنسا بأنها عملت على تقسيم بلاده، حين تدخلت عسكرياً عام 2013 تحت ذريعة محاربة تنظيم القاعدة الذي سيطر على مناطق واسعة من شمال مالي عام 2012، كما أنه اتهم فرنسا بالوقوف وراء تدريب من وصفهم "بالجماعات الإرهابية" الناشطة في البلاد، وأيضاً، طالب وزير الخارجية المالي، عبد الله ديوب، مراجعة اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع فرنسا، واصفاً تصريحات باريس بـــــ"غير المقبولة".
وتستفيد الحكومة المالية من الغضب الشعبي المتصاعد في مالي ضد فرنسا ووجودها العسكري الذي استنفد أكثر من 9 سنوات دون أن يحقق تهدئة وسلاماً على أرض الواقع، فيما تملك ورقة الداخل والإسناد الشعبي الواسع، إذ إنه قبل أيام نظّم مواطنون في دولة مالي الأفريقية مسيرة حاشدة في العاصمة باماكو، وذلك دعماً لتوجهات روسيا الداعمة لقضايا بلادهم، كما أن التظاهرات طالبت بإنهاء ما قالوا إنه "احتلال" لبلادهم.
خيارات مالي البديلة
ووفقاً لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية "CSIS" فإنّ الكرملين عمَّق في السنوات الأخيرة علاقاته الاقتصادية والعسكرية مع دول القارة السمراء، لا سيما منذ فُرضت العقوبات الغربية على روسيا عام 2014.
وشهدت مدينة "سوتشي" الروسية عام 2019 اجتماعاً تاريخياً، جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع العشرات من رؤساء الدول الأفريقية في إطار القمة الروسية-الأفريقية التي عُقدت لأول مرة، وقد هدفت موسكو من هذه القمة إلى إضفاء طابع رسمي على حضورها في القارة السمراء.
اليوم ومع إعلان فرنسا خفض قواتها فى منطقة الساحل اعتباراً من شباط/فبراير الحالي 2022 دفع باماكو إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمني، ويبدو أن الدعم الروسي شجّع حكام مالي على محاولة تأجيل الانتخابات الرئاسية التى كان من المقرر إجراؤها فى 27 شباط/فبراير 2022. فقد كان المجلس العسكري بقيادة العقيد غويتا منذ توليه السلطة يغازل موسكو كبديل للمقاربات العسكرية ولا سيما الفرنسية.
وتشير بعض التقارير إلى وجود عناصر روسية فى مالي منذ عام 2019، وفي إطار العلاقة بين باماكو وموسكو فقد تم توقيع اتفاق بين المجلس العسكري في البلاد والمجموعة الروسية شبه العسكرية "فاغنر" ينص على نشر 1000 مقاتل روسي في البلاد بالتنسيق مع الجيش بُغية حماية الشخصيات الرفيعة المستوى، كما سمح العقد أيضاً للشركة الروسية بالوصول إلى ثلاثة مواقع للتعدين، ونظير ذلك ستُدفع 6 مليارات فرنك أفريقي (نحو 10 ملايين دولار) للشركة المرتبطة بالمجموعة. والشهر الماضي تم نشر مئات الجنود الروس فى "تمبكتو" لتدريب القوات المالية فى قاعدة عسكرية تركها الفرنسيون مؤخراً.
وأدى وصول القوات الروسية إلى انتقادات حادة من دول غربية، بقيادة فرنسا، لروسيا، وتقول الدول الغربية، إن بين القوات متعاقدين من مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة. بينما صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب اجتماعه مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في موسكو، قبل أيام، "فيما يتعلق بفاغنر، قلت بالفعل إنّ الدولة الروسية لا علاقة لها بها". ومع ذلك، قال بوتين إنه، وفقاً لمنطق حلف شمال الأطلسي، يمكن لدولة مثل مالي أن تختار لنفسها من يهتم بأمنها.
وتعتبر مالي إيران نموذجاً في بعض القضايا السياسية العالمية. ومؤخراً لجأت إلى إيران وطرحت من خلال وزير خارجيتها عبد الله جوب العديد من الفرص الاستثمارية في مجال التجارة والاقتصاد، كما اتفق الطرفان الإيراني والمالي على تشكيل لجنة مشتركة للتعاون الاقتصادي بين البلدين إضافة إلى فتح ملفات متعددة على صعيد الصحة والتعليم والطاقة.
At the invitation of my Iranian counterpart @Amirabdolahian, I visited Teheran where we agreed to strengthen our bilateral cooperation in all areas and to establish a joint commission to be convened soon in Bamako. pic.twitter.com/pi6mBEQ9hO
— Amb. Abdoulaye Diop (@AbdoulayeDiop8) February 14, 2022
ويعدّ التعاون بين إيران ودول أفريقيا قديماً نسبياً، ففي منتصف العام 2010 عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال. أضف إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي.